ولدت من رحم الأرض .. ولم أدرك معناي بعد وخرجت إلى الكون فكرةً بيضاء لا تشغل أي حلم، ثم وهبوني جنسيةً يملؤها الضجيج قالوا إن لي أرضاً وسلالة وسلفا وأعطوني صفةً في اللغة يدعونها "لاجئ"، امتلأت بالوهم وكان الخيال صديقي المفضل منحوني كل شيء إلا الأرض.
أعطوني منفى وأخبروني أننا نتوارث صلب الجسد منذ عام ١٩٤٨، لم تكن هذه العادة عند أجداد أجدادي الأوائل لكن السماء وخبث أبناء قابيل من زجّونا في هذا الإثم اللامنتهي، هم أثموا ونحن نصلب عنهم، "أتحسبنا جميعاً أنبياء!" هكذا وشوش إلي عيسى لما صُلب بفتنة بني إسرائيل وعربدة الرومان، شبّه لهم أنه قتلوه مثلما يشبّه لهم خلاصهم منّا. قد نسوا أنّ للصلب بعثاً أشد بأساً وأنه كلّما كثر الموت رجعنا نسأل عن شجر الزيتون والحبال المعلّقة على مئذنة الحقيقة.. "هذه الأرض لنا ونحن لحم الوجود، ديانة التاريخ وتأليه كلّ القضايا.."
أتدري أن دوران هذه الكرة لا يكتمل إلا بالقضايا، وقد منحنا هذا الشرف دون عناء منا، لكننا نحتاج دوماً لمقدمةً طويلة تطرق التاريخ وتنصت للديانات ولكنها تستسيغ دوماً دهاليز السياسة فتباً لأرسطو واضع مبادئ الشر الأعظم في هذا الكون، الآن أستطيع أن أخبرك بأنني أحمل أرضاً لا تحملني، وأهرول باحثاً عن معناي في منفاي وبأني بكامل عنفواني فلسطيني الهوية..
قد مضى التاريخ مُتهكماً ولم يأبه بأي شعبٍ أو حضارة، ولكنه في لحظةٍ إنسانيةٍ واحدة انشق على نفسه فوق أرض فلسطين، وأصيب بفصام الفلسطيني ذاك الإنسان الوحيد الذي نجح بأن يضعه أمام الحقيقة، فما معنى الإنسان والإنسانية وما هي الحقيقة؟ هو نزع عن ذاته صيرورة المضي قدماً ليجعلنا أمام جدلٍ لا منتهٍ كيف تكون إنسان وأنت ترى وتسمع كل ما يحدث للفلسطيني؟ ما معنى الحياة وهل القتل شيئ اعتيادياً؟ كيف نفهم أن فلسفة البعث الجديد تتسرب إليك من جسد الشهيد ومن تراب الأرض، حينما أشاح العالم نظره عنا ووضعنا في عُرِف القضية.
أجبنا نحن من دمنا و أشلائنا ومن أنين عظامنا منذ النكبة إلى وقتنا هذا، لكن غزّة أسقطت كلّ الحسابات وخرجت عن المألوف إلى سادية الفكرة وأمعنت في الإجابة لتؤلف أسطورة أخرى ورثتها عن الهنود الحمر "وينديغو" العصر الجديد، المتعطش للحم والدماء والغارق في خطيئة الماضي بتلمودٍ يبرر القتل على أنه شريعة، كلّ شيء يمكن تفسيره وتبريره ولكننا مازلنا عالقين بين فهم الإنسانية وصمت العالم، أنت ترى! هناك امرأة تسير حافية القدمين مترنحة بين يدي الموت تصرخ مفجوعةً من غياب الصوت، وعلى الزاوية الأخرى تشاهد طفلاً يحمل أشلاء أخيه الصغير ويعبر من المشهد إلى ثنائية الحياة والمأساة، وهناك أيضاً رجلٌ خرّ على قدميه مستجدياً السماء وكل الديانات بأن يتوقف هذا الموت، نعم كل شيء بات واضحاً.. كلّ شيء يمكن فهمه، لذلك يزيدون صمتهم، أولئك المصابون بلعنة ميدوسا، بلغ بهم شقاء النظر إلى فقدان القدرة على الكلام حتى استحالوا لحجارةٍ نعبد بهم طريق الذاكرة الجديد، فسجّل أيها العالم" نحن الوجود وكلّ الحقيقة.. فمتى سوف تكتفي من لحمنا.."