Menu

الأرض وتجلياتها سينمائيا فيلمي «يوم الأرض» و«الأرض» انموذجاً..

موسى مراغة

نشر في مجلة الهدف العدد (69) (1543)

تناولت السينما العربية موضوع الأرض في عدد من الأفلام الروائية الطويلة والوثائقية والتسجيلية. وشكل موضوع الأرض مادة دسمة لتلك الأفلام. لما للأرض من ارتباط بالإنسان. فهي الوطن، وعليها يحيى ويعيش، ولأجلها يضحي ويقدم الغالي والنفيس، وهي مصدر رزقه وإحدى أهم سبل الحياة.

وفي ذكرى يوم الأرض الفلسطينية الذي يصادف ال30 من آذار في كل عام. تلك الذكرى تتجدد منذ العام 1976، عندما هبت جماهير الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة عام 1948، دفاعاً عن أرضها التي حاولت سلطات الاحتلال الصهيوني مصادرتها وتحويلها إلى مناطق عسكرية. فكانت الهبة الشعبية والتي قام بها أبناء الجليل والمثلث رداً على تلك الإجراءات التعسفية. شكلت تلك الأحداث مادة دسمة للفيلم الفلسطيني الذي تحدث عن وقائع واحداث تلك الانتفاضة الشعبية والذي حمل اسم «يوم الأرض» للمخرج الفلسطيني غالب شعث.

وفي استعراض لمادة هذا الفيلم السينمائي ، نرى أنه بدأ باستعراض بانورامي للمناطق والقرى الفلسطينية حيث جرت أحداث يوم الأرض. فنشاهد الأراضي الزراعية الخصبة والمروج المزروعة بأشجار الزيتون وأنواع المحاصيل الزراعية المختلفة. ومصادر تلك الأراضي كانت الشرارة الأولى للاندلاع تلك الانتفاضة الشعبية.

ومن الجدير بالذكر أن تلك المساحات والأراضي الخصبة التي تم الاستيلاء عليها تسمى المنطقة رقم«9» وهي تمتد على أراضي قرى سخنين عرابة وديرحنا وتبلغ مساحتها 18000 دونم.

وفي مقدمة الفيلم وبعد استعراض لبعض القرى الفلسطينية حيث جرت أحداث يوم الأرض، يخرج علينا بعض قادة العدو الصهيوني ( شمعون بيريز ومناحيم بيغن وأريل شارون)، وهم يتحدثون عن المساواة وعن الحرية والديمقراطية التي ينعم بها الفلسطينيون في ظل دولة «إسرائيل» وأن من أولويات حكامها هي احترام أولئك السكان وعدم ايذائهم أو مصادرة أراضيهم، وعلى خلفية ذلك الكلام الذي كان يتفوه بها القادة الصهيانية، كانت الصور المرافقة تشير إلى عكس ذلك، حيث نرى الممارسات القمعية والوحشيةمن قبل الجنود الصهاينة التي كانت تتعامل بها آلة الحرب المدججة والترسانة المسلحة مع أشخاص عزل وصدور عارية،..

وقد ارتقى في هذه الهبة الشعبية عدد من الشهداء من رجال ونساء من أبناء شعبنا الذين هبوا للدفاع عن أرضهم وممتلكاتهم في وجه العدو وجنوده والة الحرب الصهيونية. ويتابع الفيلم مسيرته حيث هناك لقاءات مع عدد من رؤساء المجالس المحلية لقرى ومدن فلسطينية منهم الشاعر توفيق زياد، والذي كان حينها رئيس بلدية الناصرة، ورئيس مجلس قرية عرابة وغيرهم. والذين تحدثوا بشهادات حية عن الأحداث التي عاشوها إبان يوم الأرض، وعن ممارسات جيش وشرطة الاحتلال في قمعهم للمسيرات والاحتجاجات التي قام بها المواطنون الفلسطينيون، إلى ذلك هناك شهادات حية من الأشخاص الذين تعرضوا للاعتقال والضرب والتعذيب على يد السجان الصهيوني وعرضوا للكاميرا أثار ذلك التعذيب التي حملته أجسادهم، إضافة إلى أثار الرصاص الذي سكن أجسادهم. ويظهر جلياً من خلال تلك الشهادات المشاركة الواسعة من قبل جميع شرائح أبناء الشعب الفلسطيني في تلك الانتفاضة الشعبية، فرأينا العامل والفلاح والمثقف، وشاهدنا الأطفال والشباب والشيوخ، ولم يتردد أحد بالإدلاء بشهادته أمام الكاميرا، غير مكترث بما سيحصل معه لو ظهر في الفيلم وهم القابعون تحت نير الاحتلال.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن الفيلم كشف وبصدق الواقع الذي يعيشه المواطن الفلسطيني داخل المناطق المحتلة عام 1948، ومدى ارتباط أولئك الناس بأرضهم ودفاعهم المستميت عنها، برغم سنوات الاحتلال الذي سلبهم تلك الأرض، وقتل وطرد وشرد عدد كبير من أهلهم، وهم لا يزالوا ينادون بالمقاومة والتشبث بالأرض والدفاع عنها في وجه ممارسات المصادرة والاستيلاء عليها.

لقد لعب بناء الفيلم الفني والفكري دوراً هاماً في نجاحه، وأعطى للمادة الوثائقية المستخدمة قيمة عالية، وكانت المشاهد التي تصور التصدي للجنود الصهاينة من قبل المواطنين الفلسطينيين والتي عرضت بالحركة البطيئة، أدت إلى خلق تركيز وشد انتباه للمتلقي، وبينت مقدار العنف الممارس من قبل الجلاد ضد الضحية، برغم أن الفيلم يحفل بمقابلات كثيرة والتي في العادة تودي بالمشاهد إلى الملل، إلا أنه ونظراً للاستخدام السليم للوثيقة المصورة والتي عرضت بالحركة البطيئة أدى إلى كسر الرتابة وإبعاد شبح الملل عن تلك المقابلات،..

وقد لعبت الكاميرا دورا كبيرا في إيصال الفكرة التي حملها الفيلم التي أكدت على روح المقاومة مهما بلغت التضحيات وعظم شأنها.

ولعل من المشاهد التي تبقى ماثلة في الذاكرة مشهد تشيبع الشهداء الذين ارتقوا في المواجهات مع جنود الاحتلال..حيث نرى جموع المشيعين من أبناء القرى والبلدات الفلسطينية الذين شاركوا في التشييع على إختلاف انتمائاتهم رجالا ونساء. شيبا وشبابا...وبعض تلك المشاهد عرضت بالحركة البطيئة خاصة لذلك المواطن الفلسطيني الذي ينفجر غضبا وتحديا واصرارا. وهذا ما نلاحظه في حركته المعبرة عندما خلع كوفيته وعقاله عن رأسه ولوح بهما مع هتافه الذي لم ينقطع في حركة لها مغزى واضح مؤكدا على اقسامه بأخذ الثأر الشهداء الذين ضحوا بارواحهم في ذلك اليوم..

وتمضي مسيرة التشييع وفي لقطة بعيدة خلفية لجموع المشاركين نراهم يمضون حاملين جثامين الشهداء وعنده الافق البعيد تمضي الجموع وكأنهم يصعدون نحو السماء حيث مقام الخلود للشهداء الابرار.. وكان لموسيقى حسين نازك دور كبير في إعطاء جمالية مميزة لإحداث الفيلم، وكان الاستخدام الممنهج للحن نشيد السلام الدور الفعال في أعطاء الصورة دورها الكبير في التأثير على المشاهد .

وفي النهاية لا بد من الإشادة بالدور الكبير للمخرج غالب شعث، الذي استطاع أن يوظف المادة الفيلمية المصورة والمادة الأرشيفية لإحداث يوم الأرض حتى يخرج هذا الفيلم القيم بمادته وبمضمونه، وأن يكون قادراً على إيصال الشحنة المراد إيصالها إلى المتلقي من خلال التوظيف السليم للصورة والصوت من خلال الأسلوب المونتاجي للفنان قيس الزبيدي والذي جاء منسجماً مع الفكرة التي أرادها المخرج غالب شعث.

أما في السينما العربية فإن فيلم «الأرض» للمخرج المصري يوسف شاهين يحتل مكانه بارزة في هذا المجال. ولعل العبقري شاهين كان له اليد الطولى في نجاح هدا الفيلم. والذي أُخذ عن رواية بنفس الاسم للأديب «عبد الرحمن الشرقاوي».

سنوات كثيرة مضت على إنتاج هذا الفيلم «الأرض» والذي لا يزال يتربع على عرش أفضل ما أنتجته السينما المصرية عن الفلاح والريف المصري. هذا الفيلم يحمل رؤية فنية وفكرية واضحة، ويتحدث عن الفلاح والأرض وضرورة الانتماء إليها. وبالتالي فهو فيلم يدعو إلى الثورة والدفاع عن كل القيم والمثل والمبادئ الإنسانية السامية.

يحكي الفيلم عن نضال الفلاحين المصريين ضد الإقطاع في ثلاثينيات القرن الماضي، ولكنه في الوقت نفسه، يحمل رغم بساطته التعبيرية، مضامين وإسقاطات على واقعنا الحاضر ويتحدث عن صراعنا الحضاري، ضمن رؤية سياسية واجتماعية عن الواقع المصري والعربي.

ففي تلك القرية المصرية الصغيرة، يدور صراع بين الفلاحين، وعلى رأسهم «محمد أبو سويلم» وبين الإقطاعيين، حول مسألة الري التي هي عصب الحياة في كل قرية زراعية، ومن الطبيعي أن لا يتم انتصار الأقطاعيين إلا بمساندة الدولة، عبر أجهزتها الأمنية والعسكرية، وبالتالي لا يستطع تحالف أهالي القرية «الفلاحين» أن يصمد أمام تحالف الإقطاع والدولة، فقد نجح هذا التحالف في أحداث انشقاق في وسط الفلاحين، يجد معه «محمد أبو سويلم» نفسه وحيداً في النهاية مع أقلية، وقد كان بوسع الانتصار أن يتم لأهالي القرية لولا هذا الانشقاق، والذي حدث من مواقع طبقية..

لقد كان فيلم «الأرض» فيلماً ملتزما تنبع شاعريته من رسالته الثورية...... «الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا، عهد علينا وأمانه تفضل بالخير مليانه، يا أرض الجدود يا سبب الوجود.... راح نوفي العهود يارمز الخلود».

لقد تكاملت عناصر النجاح لهذا الفيلم فمن عبقرية المخرج يوسف شاهين إلى رواية عبد الرحمن الشرقاوي والتي جاءت ملتصقة بالواقع والتي صورت الريف المصري على حقيقته، وصورت الفلاح المصري والاضطهاد والظلم الذي كان يقاسيه في مواجهة كبار الملاك الأقطاعيين. ناهيك عن الأداء المبدع للمثل محمود المليجي في دور الفلاح محمود أبو سويلم وباقي طاقم الممثلين الذين أجاد يوسف شاهين في ادارتهم، .

وكان للكاميرا دور مفصلي في نقل التحدي ومعاني الاصرار في ارتباط اصحاب الارض ومقاومتهم للاقطاعي المدعوم من سلطةالدولة ..

ولعل من ابرز المشاهد المؤثرة التي حفل فيها الفيلم..مشهد الاعتداء على الفلاحين من قبل رجال الشرطة عندما هب الفلاحون للدفاع عن ارضهم ومشهد العنف الذي تلقاه الفلاح محمود أبو سويلم عندما انهال عليه احد رجال الشرطة ووجه له ضربة بعقب البندقية تلقاها في وجهه الذي نزف دماء غزيرة جعلته يقع ارضا لتمتزج دماؤه بتراب الارض..وعندما يقوم رجال الشرطة بجره مربوطا بسنابك خيلهم..نرى ابو سويلم ولا زالت الدماء تنزف من وجهه ولكن عيناه لا زالت تشعان فرحا وصلابة وتحدي..وفي مشهد اسطوري نرى اظافر أبو سويلم وهو يسحل على ارضه نراها تنغرز عميقا في التراب وكانها المحراث الذي بعدها لتكون جاهزة للمحاصيل الخير والعز والنصر على الاقطاعي البغيض.

موسيقى علي إسماعيل كان دورا حاسماً في أعطاء المصداقية لأحداث الفيلم متناغمة مع مشاهد الفيلم الذي صور في قرى مصر الزراعية. لنفوز بتحفة سينمائية خالدة.

أن النضال من أجل الأرض وحريتها واستعادتها سواء أكان ضد المحتل الذي اغتصبها وشرد أهلها، وأقام دولة كيانه الغاصب على عذابات أبناءها، لا يختلف عن النضال الذي يقوم به الفلاح أياً وجد ضد كل من يستغله و يسرق قوته وقوت أبناءه، هذا النضال بشكلية هو واحد موحد هدفه بالنهاية الحرية والتحرر واستعادة الحقوق بكافة أشكالها. وهذا ما ظهر جلياً في فيلمي غالب شعث«يوم الأرض»و«الأرض» ليوسف شاهين....