Menu

الزميلة الغالية سناء

الشيص

نشرت في مجلة الهدف العدد (70) (1544)

تحية من أعماق قلبي كلها تقدير واحترام، وشوق عارم لمعرفة أخباركم وأخبار الغالي وليد... أصافحك بحرارة وكل خجل على تأخري بالمراسلة خاصة أن وصلتني منك رسالتين، واحدة في حدريم مع الصفحات المطبوعة وأخرى قبل شهر، في ايشل – بطاقة - لك أن تقدري مبلغ الفرح والسعادة التي تجتاحنا حين نستلم رسائل الأهل والأصدقاء، أحد بواعث الأمل أننا نكون فخورين، و تغمرنا مشاعر وإحساس عظيم بالأمل، حيث إننا ندرك أن لنا موقع وما يزال في العالم وحضور تحت الشمس، يذكرنا بأننا لم نزل نحيا، وأن لنا انتماء جميل للعالم ما أشد جماله وأن هناك ظلال نور في عتمة اغترابنا وغربتنا، حين تصلنا الرسائل، يتضاعف إحساسنا بالحرية في لحظات من الزمن حيث يكون عالمنا وحياتنا عالم من الاستباحة... في سطوري القليلة هذه سأحدثك عن الاستباحة، فهذا المفهوم كفيل بأن ينقل لك صورة أخرى عن آلام الأسير لا لتتألمي بل ليزداد فرحك حين تعلمي مقدار ما تتحلى به أقدامنا من قدرة على الثبات في عالم نحن جديرون به، وهو جدير بنا... عالم الأرض.

انظري كيف سأبدأ حديثي عن الاستباحة بحكاية ولهفة عابرة لكنها تتكرر في حياتنا ملايين المرات في اليوم الواحد، والأسبوع الواحد والعام الواحد....

في صباحية جميلة من صباحاتنا الأسيرة، قام الرفيق وليد من نومه فقلت له صباح الخير ورد الصباح بتحية أجمل حين راح يردد على مسامعي صباح النور والورد والياسمين والفل، صباح العسل والنرجس صباح الفول والدميسة والمعكرونة وغيرها من أوصاف طويلة نتداولها بمرح وسعادة.

كان يمكن لهذه المجاملة أن تمر مرور الكرام كالعادة، لولا أن وليد بعد ساعة راح يكلم نفسه ويشتم ويسب ويلعن ويبصق ويتفتف ويطلق شتائم نابية... سألته عن السبب، قال لي: يلعن أخت الدنيا، ثمانية عشر عام ونحن في الأسر قاعدين مثل نسوان الفرن، نوزع على بعضنا مجاملات هذا يقول صباح الخير، تصبح على خير، صح النوم، نعيما، حمام الهنا، شوفيتم، مبروك، عوفيتم ، صح بدنه على العافية، سلامتك، تفضلوا، صحتين، هنيئا، يرحمك الله، يسلم يديك، أهلا وسهلا ومئات الكلمات التي نتربص بها في بعضنا، بعد أن يقوم الواحد منا بعمل ما، عمل عادي روتيني، كلمات روتينية قد تكون طبيعية لو تكررت مرة أو مرتين في اليوم، لكن كيف تكون طبيعية حين نسمعها مئات المرات في اليوم الواحد؟! حين يدخل وليد الحمام، عشر رفاق يقولوا له نعيما وهو ملزم أن يقول لكل واحد ينعم عليك، وحين يخرج وليد من الحمام وعلى الأقل ثمانية رفاقه سيقولون له شوفيتم ويلزم أن يرد على كل واحد عوفيتم، حين يأكل وليد عشر رفاق سيقولون له صحتين سيقول لكل واحد على قلبك، قبل أن ينام، عشر مرات تصبح على خير تطير النوم من رأسه حين يرد عشر مرات تلاقي الخير، حين يعطس، حين يتثاوب أو يتأوه، حين يعود من الزيارة، حين يحلق ذقنه، حين .. وحين .... الخ .

بعد أن أنهى وليد كلامه وتذمره قلت له: خلصت؟! قال: نعم خلصت، فقلت له شوفيتم، فظل يضحك لمدة ساعة.

هكذا تستباح خصوصيتنا في أتفه وأصغر مجالاتها، لا خصوصية لتواجدنا، لا حرية لتصرفاتنا المقيدة بردود أفعال غيرنا، تقتحم مجالاتنا الخاصة، فضاءات ذاتنا، آفاق نفوسنا، تقتحم من قبل عيون وآذان الآخرين، وعقول الآخرين ونفوس الآخرين، التي تتربص بكل حركة وكل عمل وسلوك خاص لكي تعلق عليه أو تدخل فيه، أو تتخذه دائرة لإطلاق عبارات المجاملة والتزلف، نعيش لحظاتنا اليومية وننسج زمننا اليومي مصلوبين على خشب الآخرين، مثبتين على شاخص الرماية، لا يفكر واحدنا بذاته ولذاته إلا ويشاركه الآخرين في فكرته، لا يضحك من نفسه لنفسه، يتناغم مع ضحكات الغير، تهجمات الغير وأحاديث الغير.. إذا جلس الواحد فينا وحيدا عشرات الأسئلة تنهال عليه لماذا تجلس وحيدا؟ ماذا يزعجك؟ من شو زعلان؟ وين سارح؟ مين ماخد عقلك؟ وين غزالتك شاردة؟ ماذا يزعجك؟ يظل مطر الأسئلة و قطر ات التأثير النفسي حتى عواصف السؤال......معه قصرا إلا كآبة وانطواء أي فرد علينا يفرضه علينا مزاج الآخرين واستباحتهم للحظات سكوننا، ويتحول صمتنا الجميل إلى صمت كئيب تكتبه أصابع الآخرين في أعماق نفوسنا، يتحول صمتنا إلى اضطراب حتى لو كان هذا الصمت لحظة سكون جميل تسافر فيه أرواحنا إلى جنة الأمل كي تسأل ما حال أمي الآن؟ ما حال إخوتنا الصغار؟ ما حال صديقة لنا؟ لكن سرعان ما تتلقى الروح صفعة مؤلمة حين يستباح الصمت بتدخل الآخرين، فيقطعوا حباله بسكين سؤال سخيف، لماذا تجلس وحيدا؟ من شو زعلان؟ .....

سناء... ليس وحده صمتنا من يستباح، بل تستباح كل قلاعنا الجسدية والنفسية والغرائزية والفكرية حين تعد علينا اللقمات وشكل اللقمة ومقدار اللقمة، لون الضحكة، معنى الضحكة أين نمشي؟ أين نجلس؟ كيف نلبس؟ كيف نطفئ عطش الشوق، وكيف وأين؟ .... نجلس اختلاسا في عتمة ليلة، وخلوة الفجر حين يكون الكل نيام، نختسله ونسرق لحظات قليلة لتحرير الذات وحب الذات في رياض النفس وأحلامها وخيالاتها وأشواقها وأحزانها وأفراحها مع هذا، قد يبادرنا تعليق أحدهم في الصباح، مالك ما عرفت الليلة تنام، شكلك قلقان، شفتك بتتقلب، صحيت عليك وأنت بتدخن، لا تتوقف الاستباحة عند حدود اقتحام خصوصياتنا بأشكال المجاملة اليومية لكنها تتعداه إلى حدود أكثر إيلاما، حين نصبح مدفوعين إلى التفكير بما يفكر به الآخرين، إلى سماء قصص ليست ذات معنى، يكون مطلوب منا أن نسمع الآخرين قصصا وأحاديث يريدونها لا نستطيع تجنب ذلك غالبا، بل نكون مقيدي الحرية، نقف حيال ذلك بلا خيار، إليك هذه الحكاية.... ومثلها تتكرر عدة مرات في اليوم الواحد، وآلاف المرات في العام الواحد، وهي نسق أبدي على جسد عشرين عام نقضيها في عالم الأسر. ملخص الحكاية، إثنان من زملائنا كانا يتسامران ويتحدثان بفرح عن أيام جميلة لهما معا ترقد في مخزن الذاكرة إلى أن وصلا إلى حدث صغير جرى بينهما قبل عشرين عاما. الأول للثاني: للأسف، كان موقفك في القضية رخيص ولم تقف معي، رد الثاني لا، أنت اللي كنت رخيص وكنت على خطأ، احتد النقاش، تطور إلى عراك ثم اشتباك، وشتائم وغيرها.. نتدخل أنا ووليد لفض الاشتباك، يستمر تدخلنا أكثر من ثلاثة أيام وساعات من الحديث لإصلاح ذات البين... هكذا تبدأ القصص الكبيرة في عالمنا، وهكذا لا تنتهي.... تصوري سناء حجم الجروح والثلوم التي تتركها آلاف الحكايات هذه في معالم نفوسنا الجميلة، تصوري حجم التلبد الذي يصيب أذهاننا وعقولنا وإبداعنا الفكري، إحساسنا الشعري والعاطفي، حين يصبح كل ذلك متاح هنا ، أحداث يومية لا نخطط لها، ولا نضعها باختيار بل تكاد تضعنا فيه البغيضة وتتقاذفنا أمواج بحرها لشد ما سيستبيح أحلامنا اليومية، خيالاتنا، أحلام يقظتنا، أمانينا، لحظات فرحنا، نذبحها على مذبح أنانية خالصة، دفينة في شعورنا تنتصب فجأة بلا إنذار، كأنها الفك المفترس يندفع من القلب ومن أعماق سكون البحر لتعترض قارب أحلامنا فتقلبه وتحطمه أو تعيده إلى شاطئ البدء في دراما أكشن أشد رعبا من سيناريوهات الفرد ؟؟؟؟؟....

انظري سناء كيف قلبت أنا ذات مرة قارب وليد، ففي ليلة ما وفي ساعة إحساس جميلة، قبل أن تجري صفقة التبادل التي وعدنا بها زملائه هنا اللبنانيين إلى عالم الحرية والوطن عام 2004 ... وكما كان شعورنا يحدثنا عن إمكانية أن نعانق نحن أيضا حريتنا، خاصة وأن سماحة السيد كان قد بعث في نفوسنا آمالا عظيمة بخطاباته ووعوده.... كان وليد وأنا معه، ونرسم لمستقبلنا القادم أجمل .....راح وليد يسترسل في أحلامه، وكانت أمنيته أن يشتري يختا أو قاربا صغير يتسع له ولك ويقسم أنه لن يطأ اليابسة قبل أن يتذوق طعم الحرية والفرح وذاق السعادة شبه الأبدية، هي سعادة تتقاسمانها تحت قبة سماء لا يسيجها الحديد، وفي صمت البحر الذي لا يلوثه صخب الشواطئ، وفي عراء بحري لا جدران له لا أبواب، ولا أقفال، لا بشرا يستبيحون حدائق فرحه، لا صوت غير صوت دقات قلبيكما ولا موسيقى غير صفير الريح، لا حديث سوى همس نجمات بعيدة تحدث من صمتها الأبدي لحنا، ومن رعشات بريقها أجمل رقصات الليل.... راح وليد يسترسل في أحلامه يغرف من جمال الروح وقلبه أجمل وأرق المشاهد والصور. راح القارب الذي يقلكما يتمايل على وقع أنفاسه العاشقة، راح البحر يفتح ذراعيه لقلبين حالمين، قلب وليد وقلبك... أقسم أن البحر كان يبكي لعله اشتد حنينه في تلك اللحظات إلى ابنته أفروديت، فينوس الحب والجمال التي خرجت من أحشائه في صدفة من نور وزبد، ولكنها تعود إليه في قارب معها وليد أدونيس الحرية والخصب والجمال. لم أدر يا سناء كيف انتصبت أناي في غمرة هذا المشهد الجميل كي يقطع على وليد حلمه الندي هذا لعله لون الجدران الصفراء، لعلها ظلمة القبر التي ما تنفك تطفئ الضياء في حدائق الدنيا الجميلة، أو يد الواقع المرير التي ما تنفك تغلق الأبواب في وجه أحلامنا أو لعلي كنت أريد للبحر أن يكف عن البكاء ولوليد أن لا يأخذه دوار البحر ألا تنسيه زرقة البحر لون الصدأ يعلو ألف باب في وجه البحر.. رحت استبيح الحلم الجميل لوليد حين قاطعته وقلت له اتدري وليد ماذا أحلم وماذا أخطط ودون أن أتلقى منه جواب الموافقة، رحت أسرد أحلامي وكيف سأصنع مستقبلي القادم، كيف سأشتري تراكتور مع ماكنة لنخض المجاري (شفاط ...) وأعيش من عرق جبيني لقمتي مهمة بفضلات الآخرين هناك. بئر وجورة امتصاص سوف أقرأ على صفحة المجاري أسرار الحياة واحجيات الناس، كيف تتحول الرفاهية الى رائحة النتنة كأنما حال البئر أن يقول للناس هذا ما كنتم تصارعون في سبيله ومن أجله أو على الأقل....

أهنا يرقد الكافيار والشوكولا ورغيف الخبز اليابس...هناك فوق كل حفرة امتصاص قد أجد جزء من الحقيقة أولى الحقائق ان مؤخرة الغني لا تختلف عن مؤخرة الفقير فالإنتاج واحد.

رحت اسهب لوليد عن ايجابيات العمل على الشفاط وأبعاده الفلسفية والاجتماعية والسياسية حتى تحولت ليلتنا من حديقة إلى مرحاض..

بعد أشهر قليلة رحت أتساءل أنا ووليد، أترى من الذي استباح الآخر: حلم وليد الذي انتهك حرمة واقعي النتن، أم حلمي النتن الذي أفسد جنات وليد ودنس رياضه المتخيلة؟ في كل الحالات هناك من استباح قارب وليد وشفاطي. هناك من أطفأ النور على زنزانتا وأمرنا أن ننام. لون بدلته أنست وليد زرقة البحر، ورائحة خمه أنستني رائحة الشفاط. إنه السجان وراء الباب.

سناء خلال كتابتي لهذه الرسالة تسعة رفاق استباحوا مسيرة قلمي بعشرات الأسئلة: ماذا تكتب؟؟ لمن تكتب؟؟ شعر أم بيان؟ قوم كل، أعطني ولعة، أسمعت الأخبار؟ وخمس مرات سمعت جملة تصبح على خير.. سناء أفتقد وليد كثيرا لدرجة تخونني عيناي، فتنساب منها دموع الحنين.. لا أدري متى سألقاه.. لقد فصلونا قسرا، ولونوا أقسامنا وزنزاناتنا بلون التمييز العنصري ففرقونا..

سناء اعلمي إنه بقدر ما آلامنا متناهية فإن أفراحنا أكبر وأعظم وجمال حياتنا أشد من كل الحادثات...واسلمي لي... وكل عام وأنت بخير بمناسبة العام الجديد

 

الشيص 24/12/2005