في الذكرى، والذكرى بقاء..
اليوم، التاسع من شهر نيسان 2016 يبلغ الشهيد الحي الأديب المناضل المقاوم غسان كنفاني الثمانين من عمره..
ها أنا ذا أفتح الصفحات المطويّة، أنثر ما فيها منذ أعلنت الساعة السادسة والنصف من صباح يوم خميس 9/4/1936 مولد غسان، وإطلالته الأولى على زيتون عكا..
يومها حمل رقماً على شهادة ميلاده 2755، ربما أدرك يومها أن والده كان معتقلاً في سجن الصرفند،
لأنه خرق مع صحبه نظام منع التجول المفروض على عكا، وحرّك مع صحبه أيضاً عبر قرع الطبول من فوق مئذنة جامع الجزّار، وصيحات الله أكبر الهادرة جماهير عكا والقرى المجاورة..
ما أن أفرج عنه حتى اعتقل مرة ثانية، هذه المرّة لدفاعه المتطّرف المجّاني بصفته محامياً منذ 1926 عن المعتقلين من الثوار في يافا.. ثم أفرج عنه بكفالة بشرط إثبات تواجده ثلاث مرات يومياً أمام "الميجر هارنجتون" الحاكم العسكري البريطاني.
ولم تلبث السلطات أن اكتشفت أنه مع المحاميين أمين عقل وإبراهيم نجم قادة الثورة في يافا.. أصدرت بحقّهم مذكّرات اعتقال قد تؤدي إلى أحكام بالإعدام، لكنّهم تمكّنوا ثلاثتهم من الهرب، وتمّكن والدي من السفر إلى سوريا واللجوء إلى حماية المجاهد محمد الأشمر الذي تعامل معه من قبل ومن بعد بتوريد السلاح لتأمين استمرار الثورتين..
هكذا كان المناخ.. وفي هذا الزخم درجت خطا غسّان الأولى..
وما أن أتّم عامه الثاني حتى أدخل إلى روضة الأستاذ وديع سرّي في يافا حيث ابتدأ بتعلّم اللغة الإنكليزية والفرنسية إلى جانب اللغة العربية واستمر فيها حتى عام 1948..
كتب والدي رحمه الله في مذكّراته بما يتعلّق بغسّان ملخّصاً اقتطف منه:
ـ غسّان طفل هادئ يحب أن يكون وحده في غالب الأوقات. مجتهد ويميل إلى القراءة، يحب الرسم حباً جمّاً، مهمل وغير مرتّب ولا يهتم بملابسه وكتبه وطعامه، وإذا ذهبنا إلى البحر، وغالباً ما نفعل، "فقد كان بيتنا في يافا قريباً من الشاطئ" يجلس وحده.. يصنع زورقاً من ورق، يضعه في الماء ويتابع حركته باهتمام.
قال لي مرة وكان عمره سبع سنوات:
ـ بابا أنا أحب الألمان أكثر من الإنكليز!
سألته لماذا ؟ قال: ـ لأن الإنكليز يساعدون اليهود ضدّنا.!
من هذا المدخل أصّور حقيقة المناخ الذي عاش فيه غسّان وسط عائلة مثقفة ووطنية ذات وضع متميز اجتماعيا ومادياً سواء من جهة الأب أو الأم، وأقرر كذلك أن غسّان عاش طفولة مستقّرة هادئة وعاديّة وعندما جاءت أحداث 25 نيسان 1948 يوم الهجوم الكبير على عكا، هذا اليوم الذي عاشه غسّان بكل تفاصيله، بأحداثه المأساوية التي جرت أمام عينيه فقد كان بيت جدّي لأمي "حيث أقمنا بعد رحيلنا من يافا" ملاصقاً للمستشفى الوطني الذي كان يستقبل كل لحظة الجرحى والقتلى.
ذكر والدي في مذكّراته:
ـ بتاريخ 26/4/1948 صحونا صباحاً على صوت الرصاص والقذائف التي تطلق باتجاه بيوتنا بكثافة من جهة محطة القطار، فخرج ولدي غازي وأحمد السالم وفاروق غندور وأخي صبحي يحملون بواريدهم ويطلقون الرصاص من بيت الدرج باتجاه اليهود المهاجمين، وخرجت لأستطلع الأمر حيث رأيت بعيني جثة رجل عربي لم أتبين من هو ملقاة في وسط الشارع. وكان ولدي غسّان حول أقاربه يجمع أغلفة الرصاص الفارغة الساخنة في المساء لاحظت بعض الحروق على كفيّه، ورأيت في عينيه نظرة لم أرها من قبل، ارتمى على صدري، لاحظت أنه مقبل على البكاء، فبكينا سويّاً..
في 29 نيسان 1948 خرجنا من عكا، أكثر من ثماني عائلات مع أمتعة بسيطة في صندوق سيارة "كميون" متنقّلين بين صيدا والصالحية والميّة وميّة.
إلى أن استقر بنا المقام "عند أقرب قرية للعودة منها كما كان يبدو الوضع العام" إلى فلسطين، في قرية الغازّية أقصى جنوب لبنان وفي بيت متواضع على قمّة تلّ صغير قدمّه لنا الرجل الطيب "إبراهيم أبو بيقه"..
"ملخص بمناسبة ذكرى مولد الشهيد غسان"