بعد كل هذه السنوات فإنّ النظر لوعد بلفور المؤسس لكيان العصابات الصهيونية كخطيئة بريطانية فحسب يعمينا عن رؤية السياق الذي أنبت هذا الوعد المشؤوم، والذي لا يزال بمضامينه مستمراً حتى اليوم.
ان مصالح القوى الاستعمارية ورؤيتها لهذا العالم، وتوحشها للهيمنة على الشعوب وسلب مقدراتها، لم تنتهي، وان تبدل شكلها، وحلت بعض هذه القوى محل الأخرى، وهو ما ينذرنا بالمزيد من اخطار التمزيق واصطناع الهويات المزيفة في هذه المنطقة.
فاذا كان وعد بلفور قد كان هدفه زرع كيان استعماري على أرض فلسطين قائم على هوية مزيفة معادية لشعوب المنطقة، فإن السنوات الاخيرة تشهدنا على جهد استعماري مضاعف لتخليق عشرات الهويات المزيفة من بين ظهرانينا.
ما يجري اليوم في المنطقة العربية يقول لنا بوضوح شديد ان كفاح الشعب الفلسطيني لم يكن محض كفاح شعب لأجل استقلاله الوطني فحسب، بل دفاع عن هوية هذه المنطقة وامال شعوبها في العيش الكريم والحرية والازدهار، خصوصا ان المشروع الصهيوني لم يخفي يوما اطماعه التوسعية وطبيعته العدوانية التي لا تقف عند حدود فلسطين التاريخية.
وفي ظل مناخ الاحتراب الأهلي والحروب العدوانية القائمة في أكثر من بلد عربي لتدمير الدولة الوطنية، ومواقف بعض النظم العربية من مجمل اوضاع المنطقة، وسعيها للاستقواء بالكيان الصهيوني، او اعتبار التعامل معه مدخلا لنيل القبول الامريكي، باتت الخشية من "وعد بلفور عربي" يرمي لتصفية القضية الفلسطينية لمصلحة رغبات بعض النظم في العلاقة مع الكيان الصهيوني.
من الصحيح ان مواقف النظم العربية بغالبيتها لا توحي بوجود امكانية لتكون داعماً حقيقياً للنضال الوطني الفلسطيني، لكن لا يمكن السماح بمزيد من تدهور الموقف العربي بحيث يتحول الدور العربي لضاغط على الفلسطينيين لقبول تصفية قضيتهم، او عامل سلبي يسهم في تمزيق وزيادة شرذمة ساحتهم الداخلية.
ومن أجل ذلك فإنّ المسؤولية الملقاة على عاتق الفلسطيني باتت أكثر من مضاعفة، وتتطلب الالتزام الجمعي من الكل السياسي الفلسطيني ببرنامج وطني مسؤول يحمي القضية الوطنية، ويضمن عدم وقوع اعباء حمام الدم ونيران حروب المنطقة على كاهل الفلسطينيين من جديد كالتي انتجها وعد بلفور في خضم الحرب العالمية الاولى.