كان صدام يجلس علي كرسي معدني قابل للطي، متعبا، يرتدي دشداشة بيضاء، عليها جاكت أزرق شتوي. فقد كان في ديسمبر والجو بارداً. وكان الجيش الأمريكي قد حلق له شعر رأسه وذقنه بعد اعتقاله. كانت هناك جروح وخدوش علي وجهه وذراعه جراء عملية اعتقاله. لكنه تصرف كأنه صاحب المكان ونحن ضيوف لديه.
صدام لم يكن يدير شئون العراق اليومية قبل الغزو مباشرة. كان منهمكا في تأليف رواية. وحذر الأمريكيين: لن تجدوا حكم العراق سهلاً وستفشلون لأنكم لا تفهمون العقل العربي.
هكذا يُلخص ضابط الاستخبارات الأمريكي جون نيكسون، في كتابه «استجواب الرئيس: التحقيق مع صدام حسين»، المرة الأولى التي رأى فيها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عندما جاء لبدء جلسات استجوابه إثر اعتقاله في 13 ديسمبر 2003 بعد نحو 9 أشهر علي الغزو الأمريكي للعراق.
كان نيكسون قد درس صدام حسين لسنوات بوصفه ضابطاً في الاستخبارات الأمريكية التي انضم إليها 1998. درس تاريخه الشخصي والعائلي، وعلاقاته، وأفكاره، وسنوات حكمه، كما حلل كل الصور المتاحة حول صدام ومقابلاته التليفزيونية. باختصار كان نيكسون معروفاً بأنه «المرجع» في شخصية صدام. وبالتالي عندما أرادت الاستخبارات الأمريكية إرسال ضابط إلى العراق بعد الغزو كان نيكسون هو المرشح المثالي. ومن 2003 إلى 2009 كلف نيكسون بالسفر في مهام للعراق ثماني مرات.
ويروي نيكسون تفاصيل تُكشف لأول مرة حول جلسات التحقيق مع صدام، وتعامل إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش مع ملف العراق خاصة بعدما ظهر أنه ليس هناك أسلحة دمار شامل. ولا يقتصر الكتاب على مُحتوى التحقيقات والجلسات الطويلة بين نيكسون وصدام حسين، بل ورؤية نيكسون نفسه للغزو والطريقة التي عملت بها وكالة الاستخبارات الأمريكية وإدارة بوش وحكمه على الغزو الذي يلخصه بـ«كارثي».
ويتذكر نيكسون أنه بعد قليل من انتهاء استجوابه لصدام علم أن الجيش الأمريكي طلب من صدام في 13 يناير 2004 توقيع بيان يدعو العراقيين لوقف الهجمات ضد القوات الأمريكية، مُهددين ضمناً بـ «ورقة الإعدام». لكن صدام رفض توقيع البيان، قائلاً: «كرامتي تمنعني حتى من قراءته».
كما يتحدث نيكسون عن تحذيرات صدام للأمريكيين من صعوبة حكم العراق الذي توقع أن يصبح «ملعباً للتطرف الدولي». وكم تبدو تلك التحذيرات دقيقة اليوم. لقد مرت في 30 ديسمبر الماضي الذكرى العاشرة لإعدام صدام عام 2006، والعراق والمنطقة ما زالا في نفق أسود من الفوضى والعنف الطائفي.
استجواب صدام
يقول نيكسون إنه في الأسبوع الأول من ديسمبر 2003 كانت هناك علامات أن القوات الأمريكية على وشك اعتقال صدام، موضحاً: «وذات يوم استدعاني رئيس مركز الاستخبارات الأمريكية في بغداد وسألني: كيف ستتعرف على صدام؟. كانت لدى معايير منها وشم قديم، وأثر رصاصة قديمة في ساقه. لكنني عندما توجهت للغرفة التي بها صدام لم أكن بحاجة إلى كل تلك الأدلة. فعندما وقعت عيناي عليه عرفت فوراً أنه صدام حسين بسبب الطريقة التي نظر بها». ومع ذلك استخدم نيكسون الوسائل الرسمية للتعرف على صدام ورأى الوشم وأثر الرصاصة القديمة وأبلغ قيادات الاستخبارات الأمريكية في بغداد «أن هذا هو سفاح بغداد».
ويقول نيكسون إنه في البداية كان من الصعب استجواب صدام، فهو رجل التناقضات. ففي البداية كان لطيفاً، ذكياً، مُهذباً، لديه حس ساخر حتى من نفسه. لكنه مع الوقت وتكاثر الأسئلة عليه أصبح متحايلاً وشريراً ومثيراً للخوف. وبطبيعة الحال لم تكن الجلسات الأولى سهلة. ويتابع نيكسون: «قضينا بعض الوقت كي نبنى علاقة معه ونوعاً من الألفة».
ومع كل جلسة استجواب كان نيكسون يشعر بالصدمة، فكل ما كان يعرفه عن صدام لم يكن مماثلاً للحقيقة فأن «تدرس شخصاً من الأرشيف شيء وأن تقابله وجهاً لوجه شيء مختلف تماماً... فبدلاً من أن أجد نفسي أتحدث مع سفاح بغداد، وجدت نفسي أتحدث مع ذلك الرجل العراقي المُسن... ومع مرور جلسات استجوابه، ينبغي أن أقول أن صدام كان من أكثر الشخصيات كاريزمية التي قابلتها في حياتي. أعنى أنه عندما كان يدخل الغرفة، وحتى وهو سجين، تشعر بتغيير الأجواء».
لم تكشف جلسات التحقيق عن رجل يختلف عن الصورة السائدة في أوساط الاستخبارات الأمريكية فحسب، بل كشفت أيضاً أن الكثير مما كانت الاستخبارات الأمريكية تعتبره حقائق، لم يكن ذلك.
ويقول نيكسون إن «سي آي أيه» لم يكن لديها أي فكرة مثلاً حول تفويض صدام الكثير من صلاحيات تسيير الأمور اليومية إلى كبار مساعديه ووزرائه. فالاستخبارات الأمريكية كانت تعتقد أن صدام «يأخذ كل قرار في العراق». لكن جلسات الاستجواب مع صدام ومع كبار مُساعديه ووزرائه الذين اعتقلوا بعد الغزو أظهرت أن صدام منح الكثير من الصلاحيات والمهام اليومية ليديرها مساعدوه والمقربون منه وذلك كي يتفرغ هو لكتابة رواية.
لم يُحب صدام جلسات الاستجواب. وفى الكثير من الحالات كان يتعمد المراوغة. كما كان يعود للتاريخ كثيراً، تاريخه الشخصي وسنوات حكمه العراق أو الأبطال الذين يعتبرهم أبطاله الشخصيين مثل صلاح الدين الأيوبي. وفى إحدى المرات بينما كان صدام يحكي عن صلاح الدين، أوقفه ضابط استخبارات آخر يدعى بروس وقال له:«صدام. نحن نريدك أن تركز على السؤال الذي طرحناه والا تتطرق للتفاصيل التاريخية». فرد صدام بعدما بدا مندهشاً من الاعتراض:«لكن ما أقوله هام جداً. ويجب أن تسمعه كله».
لكن كان لصدام جانب مرح. فقد كان يتمتع بحس الدعابة وكان يستخدمه عندما يريد الالتفاف على سؤال أو التهرب منه. ومن وقت لآخر كان صدام يروى حكايات مُضحكة من خلال سنوات حكمه. ويقول نيكسون:«عندما كان ينهى الحكاية كنا نعقب: هذه قصة مسلية جداً، فيرد: لدى قصة أخرى».
كل هذه المداخل كانت لبناء ثقة وعلاقة ألفة وذلك لاستجوابه في الموضوع الوحيد والأساسي الذي يهتم به البيت الأبيض وهو أسلحة الدمار الشامل. ويقول نيكسون إن الإجابة التي أعطاها صدام في ذلك الملف لم تكن الإجابة التي يريد المسئولون في واشنطن سماعها.
فقد نفى صدام أن يكون لدى العراق برنامج لإنتاج أسلحة دمار شامل. قائلا:«لقد عثرتم على خائن أوصلكم إلى صدام حسين، أليس هناك خائن آخر يكشف لكم عن أماكن تواجد أسلحة الدمار الشامل؟»، مؤكداً «لم نفكر أبداً في استخدام أسلحة الدمار الشامل، ولم تطرح هذه المسألة للنقاش».
ويوضح نيكسون أنه كان من الصعب جداً التأكد من أن ما يقوله صدام صحيح أم لا بسبب مُراوغته. لكن بناء على استجوابه واستجواب عدد كبير من مساعديه والمسئولين في نظامه والوثائق التي عثر عليها الجيش الأمريكي، والأهم من كل ذلك حقيقة أن القوات الأمريكية لم تعثر على أي أسلحة دمار شامل، باتت هناك قناعة واحدة لا مفر منها وهى أن العراق لم يكن لديه أو بصدد بناء برنامج لأسلحة الدمار الشامل قبل الغزو مباشرة. وبالتالي الحجة الأمريكية لغزو العراق كانت كذبة. ومن نافلة القول إن تلك الحقيقة كان من الصعب جداً على البيت الأبيض بلعها.
كما نفى صدام كل صلة بين نظامه و«القاعدة» وهجمات 11 سبتمبر. ويقول نيكسون إن صدام قال له إن العراق وأمريكا كان يفترض أن يكونا حليفين طبيعيين لمكافحة «القاعدة» في الشرق الأوسط بعد 11 سبتمبر. وسأل صدام نيكسون:«ألم تقرأ رسالتي التي أرسلتها مع طارق عزيز إلى رامزي كلارك» (المدعى العام الأمريكي السابق) بخصوص التعاون بين واشنطن وبغداد بعد 11 سبتمبر. وكان صدام يتحدث عن خطاب أرسله عبر طارق عزيز إلى بوش يعزي فيه في ضحايا 11 سبتمبر، ويدين "الإرهاب" ويقول إن العراق أيضاً كان ضحية عمليات "إرهابية"، ويعرب عن رغبته في التعاون مع أمريكا للتصدي للإرهاب.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي سعى فيها صدام للتواصل مع الإدارة الأمريكية فحتى خلال سنوات حكم بيل كلينتون حاول صدام التواصل مع واشنطن. وعرض التعاون مع أمريكا لكشف الجناة في حادث الهجوم الأول على مبنى التجارة العالمي في 1993. لكن عروض صدام قوبلت بالتجاهل ولم يتم حتى الرد على خطاباته.
وخلال التحقيقات حذر صدام حسين واشنطن من المخاطر التي ستواجه أمريكا في العراق، قائلاً:«سوف تفشلون. ستجدون أنه ليس من السهل حكم العراق. ستفشلون في العراق لأنكم لا تعرفون اللغة، التاريخ، ولا تفهمون العقل العربي».
وكان الخطر الأكبر الذي تحدث عنه صدام مع تحلل نظامه هو الحركات الجهادية السنية. ويتذكر نيكسون أن صدام كان يقول إن الحركات الجهادية السنية إذا ما وجدت موطئ قدم في العراق سيكون من الصعب التخلص منها، لأنها ستنشط في قلب شبكة الدعم القبلي-الطائفي السني الموالية له. وعندما تنتشر وتستشري وسط القبائل السنية فإن التخلص منها لاحقاً سيؤدى إلى إغضاب وتهميش تلك القبائل.
وتوقع صدام ظهور تنظيمات مثل «داعش»، قائلاً إن الجهادية العالمية ستتخذ من العراق «ملعباً لها» بعد الإطاحة به، وأنها يمكن أن «تتمدد وتنتشر أسرع مما يمكن أن يتصور أي شخص»، مستفيدة من الغضب الشعبي من حكومات المنطقة وتراجع الفكر القومي.
وبحسب ما قال صدام في جلسات استجوابه:«لأن للعراق حدوداً مع الأردن و الكويت وتركيا والسعودية وإيران فإنها مكان مثالي للمتطرفين. العراقيون عاشوا وسط توازن. وأي حقن لذلك البلد بعناصر أجنبية سيقضي على ذلك التوازن». لكن الكثير مما قاله صدام في هذا الموضوع كان بالضبط ما لا يريد السياسيون في واشنطن سماعه.
وخلال التحقيقات كان صدام إجمالاً شخصاً ودوداً وهادئاً لكنه كان كثيراً أيضاً ما يغضب ويصبح صعب المراس وفى هذه الحالات يمكن بنظرة من عينه إدراك كيف يمكن أن يكون مُخيفاً، كما يقول نيكسون. فقد كانت هناك أسئلة تثير ضيقه. بالذات الأسئلة حول الجرائم التي ارتكبها نظامه ضد الأكراد والشيعة. والأسئلة حول إرثه وما تعرض له الشعب العراقي من محن، والحرب العراقية -الإيرانية، والأسئلة حول العلاقات مع نظام البعث السوري.
ففي إحدى الجلسات سأل نيكسون صدام عن العلاقات بين العراق وسوريا. فخفض صدام رأسه ونظر إلى أصابع يده وهى عادة كان يكررها كلما ضغط سؤال على أعصابه. وإذا تواصلت الأسئلة التي تثير أعصابه يبدأ في الانشغال بتنظيف أظافره. ويقول نيكسون:«عندما كنا نستفسر عن شيء في التبادلات التجارية بين العراق وسوريا، رد صدام منفعلاً قائلاً: من يكترث بالتجارة؟ هل تعتقدون أن صدام حسين تاجر. هذه الأشياء حثالة التاريخ».
فخلال كل مراحل التحقيق كان صدام يتعامل مع الأمر كأنه يعطى «شهادة تاريخية» عن زمنه وبلده ومنطقته وحكمه، لكن عندما تصبح الأسئلة متعلقة أكثر بما حدث في الماضي القريب أو الحاضر، يبدأ صدام في الشكوى من أن الاستخبارات الأمريكية «تستجوبه»، وأن الحوار لم يعد حول التاريخ. ويضيف نيكسون:«في كل الحالات تحدث صدام كرئيس للعراق، وكان يشير إلى نفسه بالرئيس. طبعاً من ناحيتنا لم نخاطبه سوى باسمه الأول: صدام. وقد ضايقه هذا في البداية لكنه سرعان ما اعتاد عليه».
كما كان صدام عدائياً في كل ما يتعلق بإيران. ويتحدث بوصفه «حامى العرب» في المنطقة، وحامى السنة في العراق من النفوذ الإيراني. كان لديه كراهية لا شك فيها لإيران التي قال إنها كانت وراء محاولة اغتيال ابنه عدى عام 1996. كما رد بشكل عدائي عندما سئل لماذا بدأ العراق الحرب مع إيران. فقد قال صدام إن إيران ارتكبت 548 عملاً عدائياً ضد العراق قبل بدء الحرب. ويقول نيكسون إن صدام حاول تجنب الإجابة على تساؤلات بخصوص استخدام العراق أسلحة كيماوية في الحرب مع إيران، لكنه تدريجياً قال إن إيران هي من بدأت باستخدام الأسلحة الكيماوية وأن العراق استخدمها فقط لأغراض دفاعية.
ومقابل اعترافه باستخدام الأسلحة الكيماوية خلال الحرب مع إيران، نفى صدام خلال التحقيقات علمه باستخدامها ضد الأكراد في حلبجة 1988، قائلاً إن القرار اتخذه القائد الميداني للمواجهة مع الأكراد وأن صدام أبلغ لاحقاً وكان شديد الغضب. ويوضح صدام لنيكسون أنه استشاط غضباً لأن الهجوم بالكيماوي على الأكراد أعطى إيران ورقة للهجوم على النظام العراقي دولياً وأضعف العراق. ويقول نيكسون إنه يميل لتصديق رواية صدام لأن عمليات استجواب أخرى قام بها ضباط الاستخبارات الأمريكية مع مسئولين آخرين شككت في معرفة صدام بالهجوم قبل حدوثه.
تحدث صدام عن الكثير من القضايا لكنه لم ينطق بكلمة حول الاستخبارات العراقية، وأمنه الشخصي، وشبكة الموالين له، وعلاقاته مع الزعماء العرب، فقط أثنى في عدد من المرات على الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
وطبيعياً لم يرتح صدام لاستجوابه حول زوجتيه وأبنائه، ورفض تأكيد أن له ابناً يدعى علي من زوجته الثانية سميرة شهبندر، قائلاً لنيكسون:«هل تريدون قتله كما فعلتم مع قصي وعدي؟».
ومن جلسات الاستجواب تظهر علاقة معقدة ومتشابكة بين صدام وكل من قصي وعدي. فقد قال صدام إنه «فخور بهما رغم كل أخطائهما»، متحدثاً عن ثورته وسخطه عليهما بسبب البذخ فيما العراق تحت طائلة العقوبات وسلوكهما العنيف داخل الدائرة الضيقة حول صدام.
وقال إنه علم بمقتلهما وحفيده مصطفى (14 عاماً) إبن قصي من إذاعة «بي بي سي» في مخبئه في تكريت في يوليو 2003. فسأله نيكسون: كيف شعرت عندما عرفت بموتهما؟ فرد صدام: «إذا كانا يجب أن يموتا فتلك هي الطريقة التي أردت أن يموتا بها. فقد قتلا وهما يحاربان لتحرير بلدهما. هذه أنبل نهاية يمكن لإنسان أن يرجوها. لم يقتلا لأنهما أبناء صدام، قتلا لأنهما عراقيان بعدما تعرضا للخيانة».
وتختلف الرواية التي يذكرها نيكسون عن مقتل قصي وعدي في عدة تفاصيل مهمة عن الروايات السائدة. إذ يذكر أن قصي وعدى كانا مختبئين في قصر أحد شيوخ القبائل في الموصل لعدة أسابيع بعدما منح قصي وعدى ذلك الشيخ مبالغ مالية كبيرة لحمايتهما.
لكن توتر الشيخ من إيوائهما كان يتزايد يوماً بعد يوم، خاصة مع دوريات التفتيش الأمريكية. فسألهما الشيخ يوماً ما عن متى يمكن أن يغادرا؟ فرد قصي: إنهما من سيقررا ذلك وأن على الشيخ إبقاء فمه مغلقاً لأنهما دفعا له الكثير من المال نظير إيوائهما. عند هذه النقطة ترك الشيخ قصي وعدى في المنزل وكانا يلعبان ألعاب فيديو.
ما حدث بعد ذلك بالضبط يمكن فهمه من السياق العام، فالفقرات التالية لتلك الفقرة حذفتها الاستخبارات الأمريكية خلال مراجعتها لكتاب نيكسون. لكن يفهم من السياق أن ذلك الشيخ، أبلغ الأمريكيين بوجود قصي وعدى في منزله، وأنهم حاصروا المنزل وبدأ إطلاق نار استمر نحو 5 ساعات أودى بحياة قصي وعدى ومصطفى وحارس شخصي لهم وعراقي آخر. وبرغم كل الذكريات المريرة، كان ذكر ابنتيه رغد ورنا هو الشيء الوحيد الذي يجلب الدموع لعين صدام خلال التحقيقات، مردداً دائما «أفتقدهما كثيراً».
ويتذكر نيكسون أنه خلال التحقيقات أراد صدام أوراقاً وأقلاماً كي يسجل يومياته في السجن لكن «سي آي أيه» رفضت إدخال أدوات كتابة خوفاً من أن يستخدمها للانتحار. وكان صدام مستاء جداً ويردد «أنا كاتب... وأحتاج تلك الأشياء كي أسجل أفكاري. عندما جاء الجيش الأمريكي واعتقلني كنت أعكف على كتاب لم أنته منه بعد. لماذا لا أحصل على هذه الأشياء؟ كيف سأستخدمها لإيذاء نفسي؟».
وفى بداية التحقيقات كان صدام يشكو من قلة النوم بسبب قرب محبسه من مدخل المعسكر وكثرة الحركة قرب الباب. كما كان يشكو من موسيقى عالية الصوت خلال نومه. ويقول نيكسون «كنت أحياناً اشك أن الجيش يتعمد إقلاق نومه. ونتيجة لبطء جلسات الاستجواب بسبب إحساسه بالنعاس، طالبنا بنقل محبسه. وقد كان. وبدأ صدام يحصل على ساعات نوم مُناسبة». وبخلاف قلة النوم ومنع الأقلام والأوراق عنه أو جذبه خلال نقله من غرفة لغرفة، لم يتعرض صدام لأي إيذاء جسدي. فقد كانت تقدم له ثلاث وجبات يومياً، وكانت لديه نسخة من القرآن الكريم هدية من زوجته ساجدة خير الله، وترجمه عربية لمعاهدة جنيف لمعاملة أسرى الحرب. لكن صدام كان يحب القراءة وفى السجن كان يطلب كتباً تاريخية وعيوناً من الأدب العربي والعالمي. ويقول نيكسون إن صدام كان يحب أدب نجيب محفوظ وطلب نسخة من «الثلاثية»، كما أعاد قراءة «الجريمة والعقاب» لدوستوفيسكي.
أعدم صدام في 30 ديسمبر 2006. ويقول نيكسون:«كنت أعلم أن صدام سيعدم. كانت هناك مُحاكمة وحكم بإدانته. تنفيذ الإعدام كان لا مفر منه على أساس أن هذه رسالة للعراقيين أن تلك الصفحة قد طويت وأن القانون يطبق الآن... لكن الطريقة التي تم بها الإعدام كانت مُرعبة. كان الأمر بشعاً».
اللقاء مع بوش
طوال الفترة التي استجوب فيها نيكسون صدام كان يكتب يومياً تقريراً حول مسارها ويعطيها لمسئولي الاستخبارات الأمريكية في بغداد لإرسالها لواشنطن التي لم تهتم منها سوى بالأجزاء المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل والعلاقة المفترضة بين نظام صدام و«القاعدة».
يقول نيكسون:«كل ما أرادوا معرفته كان متعلقاً بأسلحة الدمار الشامل. وبعدما ظهر أن المعلومات التي لدينا، ومفادها أنه ليس هناك برنامج لأسلحة الدمار الشامل، فقد البيت الأبيض الاهتمام تماماً. فلم تكن هذه هي المعلومات التي يريدون سماعها. وكان هذا مثيراً للإحباط، لكنه خلصني من أي أوهام لدي. فقد كان يمكننا معرفة الكثير عن العراق من صدام»، وبالتالي انتهاج سياسات مختلفة.
لكن غياب دليل أسلحة الدمار الشامل، كما يقول نيكسون، نفى حجة بوش للغزو وبالتالي تجاهل تلك المعلومات وأي شيء يدور حولها. وبحلول يناير 2004 كان سلوك بوش هو:«لقد انتهيت من العراق. دعونا نتحرك».
وتدريجياً سقط العراق في العنف والفوضى و"الإرهاب" والطائفية. ووسط تلك الأجواء المعتمة، وجد نيكسون نفسه متوجهاً للقاء بوش في البيت الأبيض في 4 فبراير 2008 لإعطائه ملخصاً استخباراتياً حول مقتدى الصدر الذي أصبح صداعاً في رأس الأمريكيين. (أي بعد 4 سنوات منذ استجواب صدام حسين، وعامين على إعدامه).
تحدث نيكسون عن مقتدى الصدر ودوافعه ونفوذه وخلال الحديث كان بوش يقاطعه أحياناً لسؤاله عن شيء، وكان بوش في مزاج مزح إذ قال إنه ومقتدى الصدر «يعانيان من عقدة الأب المشهور»، في إشارة إلى جورج بوش الأب، ومحمد صادق الصدر المرجع الشيعي المعارض والذي قتل بإطلاق الرصاص عليه 1999.
وخلال المقابلة قال أحد مسئولي «سى آى أيه» لبوش مشيراً إلى نيكسون: هذا هو الرجل الذي إستجوب صدام حسين. فالتفت بوش إلى نيكسون وسأل: أي نوع من الرجال كان صدام؟
فأجاب نيكسون: شخص مليء بالتناقضات. يمكن أن يكون ودوداً ولطيفاً، لكنه يمكن أيضاً أن يكون شريراً ومغروراً ومتلاعباً ومخيفاً أحياناً.
فسأل بوش: هل كان يعرف أنه سيتم إعدامه؟
فأجاب نيكسون: نعم. كان صدام يعرف أنه بطريقة ما سيكون مصيره الموت بعد انتهاء التحقيقات معه. لكنه كان في تصالح مع ذلك، وفى سلام مع نفسه ومع الله.
فرد بوش ساخراً: سيكون عليه الرد على الكثير من الاتهامات في الحياة الأخرى.
وفى لقاء آخر بين بوش ونيكسون في البيت الأبيض في 8 مايو 2008 حول «توجهات الشيعة في المنطقة»، سأل بوش: ماذا علينا أن نفعل حيال مقتدى الصدر؟ فرد نيكسون: نترك مقتدى الصدر لنفسه... فهو سيرتكب أخطاء وسيضر ذاته. فقاطع بوش نيكسون قائلاً: هل تعرف، لقد قالوا لي اترك صدام لنفسه. لكنني أثبت أن الجميع كان على خطأ.
ويستطرد نيكسون:«حتى في عام 2008 والعراق يشتعل ويغرق في الفوضى والطائفية، ظل بوش يعتقد أن غزو العراق قصة نجاح».
لقد اجتمع نيكسون مع صدام ومع بوش لكنه يخرج بنتيجة مدهشة «فضلت جلساتي مع صدام على جلساتي مع بوش»، موضحاً:«كان بوش معزولاً عن الواقع» يجلس وسط مستشارين دائمي الإيماء برءوسهم في إشارة إلى الموافقة على كل ما يقوله.
صدام للاستخبارات الأمريكية: من أين تأتون بمعلوماتكم؟
بالرغم من أن صدام كان يردد في نهاية كل يوم استجواب إنه مسرور للحوار، إلا أنه لم يكن متعاوناً مع استجوابه، وكان مراوغاً في الكثير من الحالات ولا يعطى إجابات محددة أو واضحة.
ويقول نيكسون إن المسئولين الأمريكيين كانوا مسئولين عن إعطائه فرصة المراوغة. فالكثير من وثائق العراق السرية عثر عليها الجيش الأمريكي وظلت بحوزته، ولم يعلم بهذا الـ«سي آى أيه» أو «أف بي أي». ويوضح نيكسون أنه لو علمت الاستخبارات الأمريكية بأن تلك الوثائق السرية بحوزة الجيش الأمريكي، لطلبت الاطلاع عليها ولعرفت الكثير الذي كان سيجعل مهمة استجواب صدام أكثر فائدة ويمكن المحققين من معرفة متى كان يقول الحقيقة ومتى كان يقول عكسها. ويخلص:«كل هذا كان دليلاً آخر على عدم استعداد أجهزة الاستخبارات الأمريكية لاعتقال صدام»، موضحاً أن أجهزة الاستخبارات لم تتوقع العثور على صدام حياً، فقد توقعت أن يقتل خلال اعتقاله أو ينتحر قبل اعتقاله.
ويوضح أنه لم يكن لدى أمريكا وجود على الأرض في العراق فقد كانت السفارة مغلقة وبالتالي نوعية ومستوى المعلومات الاستخباراتية ضعيف جداً. المعلومات جاءت من مهاجرين وكل أنواع البشر والمصادر من خارج أمريكا. بعضها كان جيداً وبعضها كان رديئاً جداً.
وفى ضوء المعلومات التي وصلتهم، رسم أطباء «سي آى أيه» صورة عن صدام كرجل يعانى صحياً ونفسياً. فالتقارير التي كانت لدى نيكسون تتحدث عن شخص يعانى من مشاكل في الظهر وارتفاع ضغط الدم، واضطر إلى التوقف عن أكل اللحم وتدخين السيجار. لكن عندما سأل نيكسون صدام عن ذلك ضحك وقال:«من أين تأتون بمعلوماتكم؟».
فقد كان يدخن السيجار ويأكل اللحم. وقد سأل صدام نيكسون كنوع من الهزر:هل معك سيجار؟. فرد: أنا لا أدخن. فظهر على صدام الإحباط. ويخلص نيكسون إلى أن صحة صدام كانت أفضل كثيراً من تقديرات «سي آى أيه».
أيضاً في ضوء تقارير الأخصائيين النفسيين في «سي آى أيه»، رسمت صورة لصدام كرجل يعانى من «عقدة زوج الأم العنيف»، هذه العقدة تفسر في نظرهم عنفه وقسوته حتى مع أقرب الناس إليه مثل إعدام زوجي ابنتيه. وعندما بدأ نيكسون استجواب صدام كان من أوائل الأسئلة تلك المتعلقة بنشأته في تكريت وأسرته وعلاقته بزوج والدته، متوقعاً أن يبدأ صدام في حكاية روايات حول عنف زوج أمه الذي أجبره كما كان يتداول على مغادرة تكريت إلى بغداد. لكن كانت المفاجأة عندما قال صدام إنه كان يحب زوج والدته الذي هو أيضاً عمه الذي تزوج أرملة شقيقه. وقال صدام:«أحببت زوج والدتي جداً. لقد كان أطيب إنسان عرفته». وعندما سأله نيكسون عن التقارير حول قسوته عليه قال: هذا ليس صحيحاً. إبراهيم حسن، يرحمه الله، كان عندما يكون لديه سراً، لا يأتمن غيري عليه. كنت أعز إليه من ابنه أدهم.
الندم:
كان صدام مستبداً وحكمه شمولياً وقاسياً وارتكب نظامه جرائم في حق الأقليات والمعارضة، لكن كل جرائم النظام العراقي لم تكلف العراق تكلفة غزو 2003. فالغزو دمر بنية المجتمع العراقي والدولة العراقية وأدى لمقتل وجرح نحو مليون عراقي في حلقات لا نهائية من العنف الطائفي. واليوم يبدو العراق في وضع أسوأ بما لا يقاس بما كان عليه حتى خلال سنوات حكم صدام المُخيفة. فكيف يحكم نيكسون على الغزو؟ بكلمة واحدة: «كارثة. كارثة للعراق وللشرق الأوسط ولأمريكا». ويقول:«لو أدارت أمريكا العراق بالكفاءة التي أدارت بها مطعم بيرجر كينج في المنطقة الخضراء لكان العراق سويسرا الشرق الأوسط».
ويوضح نيكسون الذي يندم على تأييده المبدئي للحرب لتخليص العراق من شرور صدام وبناء ديمقراطية: «أعطن مثالاً واحداً لشيء ايجابي تحقق في العراق...حكومة غير فعالة، 2 مليون مشرد، جزء من الأراضي تحتله داعش، طائفية، ضمور الدولة المركزية لصالح مناطق حكم ذاتي، فساد مستشر. عندما تسأل أي عراقي عن العراق اليوم أو خلال حكم صدام حسين سيرد أن كل شيء كان أفضل خلال حكم صدام حسين.. لو كان صدام حياً اليوم لكان العراق والشرق الأوسط إجمالاً أكثر أمناً. حتى لو كان في العراق نظاماً لا تحبذه أمريكا».
ويتذكر نيكسون أنه في نهاية إحدى الجلسات الشاقة العصبية سأل صدام في محاولة لترطيب الأجواء المشحونة:«ماذا تحب أن تقرأ؟». فرد: كتب التاريخ والأدب العربي. فسألت:«ما هي روايتك المفضلة؟». فرد صدام:«العجوز والبحر» (للكاتب الأمريكي ارنست هيمنجواي). وأوضح صدام: «فكر في الأمر. رجل وقارب وسنارة. هذا كل ما تحتويه الرواية، لكنها تخبرنا الكثير جداً عن الوضع الإنساني».
على النقيض من العجوز والبحر كانت حياة صدام حسين معقدة متشابكة حافلة بالأحداث الكبيرة، من الجلوس على مقعد الحكم، والحرب العراقية -الإيرانية، وحرب الخليج الأولى 1990، والغزو الأمريكي 2003، ومقتل ابنيه وحفيده، واحتلال العراق، وإعدامه شنقاً.
إنها أشبه بالتراجيديا الإغريقية حيث يصل فرد للقمة ثم يسقط أكبر سقوط مدوٍ ممكن.
المصدر: الأهرام