Menu

الذيل الذي يهز الكلب: معضلة التحدي والخضوع في العلاقات الأمريكية - الصهيونية (1-2)

بوابة الهدف/ترجمة وتحرير: أحمد.م .جابر

فيما يلي تقدم [الهدف] الجزء الأول من نص طويل  لتشارلز د. (تشاك) فريليتش، النائب السابق لمستشار الأمن القومي في الكيان الصهيوني، وزميل في مركز بيلفر في جامعة هارفارد. نشر في "موزاييك"  من كتابه الذي ينشر قريبا من جامعة (أكسفورد) بعنوان  " استراتيجية جديدة لعصر التغيير" يقدم الكاتب من وجهة نظر صهيونية  بحثا فيما يسميه "الشقوق المتزايدة في العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. ويطرح سؤالا حول ما إذا كان يمكن للأمن القومي "الإسرائيلي" أن ينجو بعد فقدان المساعدات العسكرية الأمريكية.

يجادل المؤلف أن علاقة "إسرائيل" بالولايات المتحدة هي ركيزة أساسية لأمنها القومي، استنادا إلى  استراتيجية وحيوية الدعم الأمريكي عسكريا ودبلوماسيا واقتصاديا لعقود من الزمن. أما بالنسبة للأحداث الآنية فمن الواضح أن الولايات المتحدة هي المتراس الأول للدفاع عن "إسرائيل"، والواقع أن اعتماد "إسرائيل" على الولايات المتحدة كبير جدا لدرجة التشكيك ببقائها بدون هذا الدعم.

ويناقش الكاتب بتوسع معضلات العلاقة عبر منظور تاريخي يسرد من خلاله تفاصيل الدعم المتنوع الذي حازه الكيان الصهيوني من الولايات المتحدة وأهم حالات "الخضوع" والتحدي" بين الجانبين، نلفت عناية القارئ إن ما يرد معلما بين قوسين [ ] هو ملاحظات للمحرر، كما أن المؤلف يستخدم مصطلح "إسرائيل" و" القدس " ونحن حافظنا على المصطلح الأول واستخدمنا أحيانا "الكيان الصهيوني" واستبدلنا المصطلح الثاني بـ"تل أبيب" للدلالة على حكومة العدو  [يلحق به القسم الثاني من هذه الترجمة].

 

أولا - أصول ونمو "علاقة خاصة"

 يناقش الكاتب تاريخية نشوء العلاقات الخاصة بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، ويزعم أن العلاقات بينهما في الستينيات لم تكن كما هي عليه اليوم، وكانت ربما محدودة جدا وحتى باردة كما يقول بعض المؤرخين، ولكن الأمور تغيرت بعد حرب 1967 وخصوصا بشكل أكبر بعد حرب 1973، وأصبحت في مطلع الثمانينيات مع عهد ريغان مؤسسية واستراتيجية "علاقة خاصة" كما هي اليوم.

ويعترف الكاتب أن هذه العلاقة هي حاسمة بالنسبة لـ "إسرائيل" وتشمل جميع مناحي الحياة الوطنية-العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية والثقافية، بدون أن تتأثر بالخلافات والانشقاقات بين الحكومات المختلفة، ولا ببعض انتقادات الولايات المتحدة لبعض المواقف والممارسات "إسرائيل"، وتحديدا من قبل النخب الأمريكية، ويبقى الدعم الشعبي لـ"إسرائيل" كبير في الولايات المتحدة، أكثر من أي وقت مضى والعلاقة الأمنية ثابتة وتتطور وهي قوية جدا.

[علينا أن نتوقف هنا قليلا، حيث أن حقيقة العلاقات الأمريكية الصهيوينة قديمة أكثر مما يشير إليه الكاتب، صحيح أنها بالمعنى المؤسسي تأخرت في التبلور، ولكن نعلم أن الدعم العسكري وإن لم يكن رسميا كان يعود لما قبل حتى إنشاء الكيان الصهيوني، كما أن ويلسون كان قد أعطى موافقته مسبقا على وعد بلفور، ولا ننسى أن حكومة ترومان هي أول حكومة في العالم تعلن اعترافها بالكيان الصهيوني، أضف إلى ذلك العلاقات الأيدلوجية المرتبطة بفكر الاستيطان وتعاليم الإنجيليين حول الأرض الموعودة وإيمانهم العميق الراسخ بالدولة اليهودية كمقدمة لعودة المسيح، وهي قضايا فكرية ايدلوجية لا يتطرق لها المؤلف]

من الناحية الاقتصادية يسجل الكاتب أن الولايات المتحدة هي أكبر شريك تجاري لـ"إسرائيل" (شريك مؤلف من كيان واحد، بينما الاتحاد الأوربي المكون من عدد من الكيانات فهو أكبر طبعا)، وبلغت التجارة البينية عام 2016 حوالي 35.5 مليار دولار. ووقع الجانبان اتفاقية تجارة حرة في عام 1986، وهى أول اتفاقية ثنائية تبرمها الولايات المتحدة على الإطلاق. وعلى مر السنين، قدمت واشنطن، بالإضافة إلى ذلك، المساعدة الاقتصادية الطارئة وضمانات القروض.

ومن الناحية العسكرية، يبلغ إجمالي المساعدات الأمريكية لـ"إسرائيل"، من 1949 إلى 2016، مبلغ 124 مليار دولار، مما يجعل "إسرائيل" أكبر المستفيدين من المساعدات العسكرية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي عام 2007، أبرم الجانبان حزمة مدتها عشر سنوات بقيمة 30 بليون دولار، مما يوفر للجيش الـ "إسرائيلي" الأساس المالي الثابت الذي يحتاج إليه بشدة لأغراض التخطيط لهيكل القوة؛ وتم توقيع حزمة ثانية مدتها عشر سنوات بقيمة 38 مليار دولار في عام 2016.

ويلاحظ المؤلف أنه يمكن قياس حجم هذه المعونة ليس فقط بالقيمة المطلقة بالدولار ولكن بالطريقة التي يتم بها صرفها، حيث  ومنذ عام 1981، كانت جميع المساعدات المقدمة لـ"إسرائيل" في شكل منح وليس قروض، وكل مبلغ سنوي يصل إلى كيانها في بداية السنة وليس على أقساط، كما أن "إسرائيل" هي المتلقي الوحيد الذي سمح له لعقود من الزمن أن يصرف جزءا من هذه المساعدة للشراء في "إسرائيل" نفسها وليس في الولايات المتحدة، على الرغم من أن هذا الامتياز يجري التخلص منه تدريجيا.

[جاء في تقرير الكونغرس الأمريكي عام 2014 حول المساعدات العسكرية الأمريكية للكيان الصهيوني، أن التمويل الذي تقدمه واشنطن للجيش الصهيوني والأمن يشكل 555 من كلي المساعدات العسكرية الأمريكية حول العالم]

وعلاوة على ذلك، فإن حزمة المساعدات السنوية كبيرة، دون أن تشمل مجموعة متنوعة من البرامج الخاصة، مثل أنظمة الدفاع الصاروخي ضد الصواريخ  (القبة الحديدية، السهم، وغيرها) التي تضاف إلى حد كبير إلى القيمة الإجمالية للمساعدات الأمريكية،  ويجدر الذكر أن الجيش الأمريكي ومصنعي السلاح يستفيدون ارتجاعيا من هذه المساعدات حيث يتاح عن طريق  "إسرائيل" اختبار وتحسين التكنولوجيات الجديدة.

[يشير تقرير الكونغرس للعام 2014 أن نظام "القبة الحديدية" تلقى بشكل تراكمي أكثر من 704 مليون دولار، مع مبلغ إضافي وصل 235.3 مليون دولار في أذونات مخصصات العام 2014 ومبلغ 175.9 مليون دولار في العام 2015، ساهمت الولايات المتحدة أيضا في تطوير نظام اعتراض الصواريخ المسمى "مقلاع داود" منذ العام 1990، ودفعت أيضا لتطوير الصاروخ "حيتس" مساهمات بلغت 2.365مليار دولار، أي ما يقارب نصف تكلفته الإجمالية]

ويملك الكيان الصهيوني عموما إمكانية الوصول إلى أحدث التقنيات الأمريكية. ففي عام 2005، على سبيل المثال، زودت واشنطن "إسرائيل" بقنابل "خارقة " لم يسبق بيعها لأي بلد آخر، ثم عجلت بتسليم المزيد من هذه الأسلحة خلال حرب لبنان عام 2006، وكانت "إسرائيل" أيضا أول بلد أجنبي لشراء المقاتلة  F-35، الأكثر تقدما. ومن الناحية العملية، فإن الولايات المتحدة هي المصدر الأجنبي الوحيد لتوريد السلاح المتطور إلى "إسرائيل" وبعض هذه الأسلحة تنتج بالتعاون بين الجانبين داخل "إسرائيل".

وما وراء هذه المعونة وخلفها تكمن السياسة، ومجموعة من الاتفاقيات، وشبكة من الأنشطة الاستراتيجية، ومنذ الثمانينيات، التزمت الولايات المتحدة بالحفاظ على حافة عسكرية "إسرائيلية"  نوعية أعلى من أي مزيج محتمل من الجيوش العربية المعادية، وهو ترتيب مثبت في عدد من المبادرات التنفيذية ولدى الكونغرس . وعندما يتعلق الأمر بالمشاورات الاستراتيجية، يصعب تصور قيام حكومتين بتبادل أوثق أو أكثر كثافة على جميع المستويات، ليس فقط باللقاءات المنتظمة بين رئيس وزراء "إسرائيل" والرئيس الأمريكي، وكبار القادة في الكونغرس ولكن عبر  مؤسسات الأمن القومي للجانبين التي تتمتع باتصال مكثف ومستمر، بما في ذلك مجموعة لا نهاية لها من الوفود الزائرة وفرق محترفة، فضلا عن الفرق العاملة التي تُعقد بانتظام.

ويلاحظ المؤلف أن القاعدة الأمريكية تقوم على السماح لـ"إسرائيل" بأن تعمل ما تريده شريطة أنها لن تفاجئ الولايات المتحدة بتدابير مثيرة للجدل دون استشارتها على الأقل، وقد التزمت حكومات تل أبيب بهذا ما عدا بعض الاستثناءات النادرة.

ويسرد المؤلف العديد من الأمثلة على التعاون العسكري الفعلي، وهي كثيرة جدا، وتشمل ربط "إسرائيل" بنظام  الإنذار المبكر للولايات المتحدة الذي يكشف الصواريخ والقذائف التي تطلق في جميع أنحاء العالم، وتدريبات عسكرية مشتركة، و التخزين المسبق في "إسرائيل" للسلاح والذخائر الأمريكية من أجل توفير الوقت في حالة الحرب، مع السماح لـ"إسرائيل" باستخدام بعض من هذه العناصر (وخاصة تلك التي لديها الصلاحية القصيرة) على أساس منتظم [ كما في عدوان 2006 على لبنان]، وتبادل المعلومات والخبرات في مجال الأمن الداخلي؛ والتعاون الاستخباراتي في مجالات مكافحة الإرهاب والأمن السيبراني.

[بلغت قيمة الأسلحة الأمريكية االمخزنة لدى الكيان الصهيوني 800 مليون دولار حسب أرقام 2010، مع وجود موافقة من الكونغرس على رفعها إلى 1.2 مليار دولار]

 وقد تعمقت العلاقات بشكل كبير لتقترب من عقد معاهدة دفاعية فعلية بين الجانبين، وأقرب ما كان الأمر إلى ذلك في عهد أيهود باراك (1999-2001) الذي وعد كلينتون باختراق جدي في "السلام" مقابل ضمان أمني شامل يمكن أن يساعد في تخفيف أي مخاوف فيما بعد "اتفاق السلام" من جانب الجمهور الـ "إسرائيلي"، ولكن، في ذلك الوقت، القليلون على الجانبين كانوا متحمسين للمضي قدما في هذا، رغم أن "إسرائيل"  تتمتع بالفعل بفوائد هذه المعاهدة، وعلى أي حال انهارت محادثات السلام، وفي النهاية، فضل الطرفان اتفاقا أكثر محدودية.

وأخيرا، بالإضافة إلى تزويد "إسرائيل" ما يلزم عسكريا لضمان أمنها، فإن الولايات المتحدة قد تستخدم أيضا النفوذ السياسي والدبلوماسي، في مجموعة متنوعة من المحافل الدولية، لحماية "إسرائيل" من مجموعة لا نهاية لها من القرارات الضارة فيما يتعلق بعملية السلام، ومختلف المبادرات العسكرية والدبلوماسية، وبصفة خاصة، القدرات النووية لـ "إسرائيل"، وهكذا، بين عامي 1954 و 2011، اعترضت الولايات المتحدة على ما مجموعه 38 قرارا من جانب واحد أو اعتبرت معادية لـ"إسرائيل" بشكل واضح في مجلس الأمن الدولي، عشرة في العقد بين 2001 و 2011 وحدها، وبالإضافة إلى ذلك، وبفضل الدعم الأميركي المطلق، أصبحت حرب 2006 في لبنان أول مواجهة عسكرية في تاريخ الصراع العربي الـ "إسرائيلي"، التي لم تواجه فيها  "إسرائيل" قيودا على الوقت الذي كان لازما لتحقيق أهدافها العسكرية قبل تدخل  لوضع حد للقتال.

يزعم الكاتب أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة منذ فترة طويلة ملتزمة [علنا على الأقل] بالانسحاب الإسرائيلي من معظم الأراضي التي احتلتها في حرب الأيام الستة عام 1967، ولكنها تدعم تاريخيا وجهة نظر "إسرائيل" بأن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، الوثيقة الأساس التي تستند إليها  جميع "مفاوضات السلام"، لا يتطلب بالضرورة الانسحاب الكامل. وبدلا من ذلك، تحدث القادة الأمريكيون في كثير من الأحيان عن حاجة "إسرائيل" إلى "حدود يمكن الدفاع عنها"، وإمكانية "تعديلات طفيفة تسمح لـ "إسرائيل" بأن تضم "الكتل الاستيطانية"، وغيرها من الصيغ، كما تتشاطر واشنطن وجهة النظر القائلة بأن الاتفاق النهائي يجب أن يعالج المخاوف الأمنية الإسرائيلية ويدعم معارضة "إسرائيل" لعودة اللاجئين الفلسطينيين على نطاق واسع، ومطالبتها بأن يعترف الفلسطينيون ب"إسرائيل" كدولة قومية للشعب اليهودي.

[من المعروف أن القرار 242 هو الأكثر إثارة للجدل ضمن القرارات الدولية بسبب ترجمته وتأويله، والترجمة الملفقة تبرز في البند الأول حول شمولية الانسحاب من عدمه، حيث تم تأويله من الكيان الصهيوني وبدعم من الولايات المتحدة وحلفائها، أنه يعني الانسحاب من "بعض الأراضي " المحتلة وليس من جميعها]

 

الذيل الذي يهز الكلب

وعلى الرغم من قوة العلاقة الاستراتيجية بين "إسرائيل" والولايات المتحدة، والدعم القوي الذي تتمتع به من الشعب الأمريكي، فإن هذه العلاقة لا تكاد تغيب عنها الانتقادات وهذا مرتبط بالواقع  الثقافي والديموغرافي.

ويسجل الكاتب أن انتقاد العلاقة الاستراتيجية من داخل أمريكا له عدة أشكال، ولكن الاتهام الأساسي هو: أن "إسرائيل" بدلا من مواءمة نفسها مع أولويات راعيها الأمريكي، فإنها تتصرف مرارا بطريقتها الخاصة، وتتجاهل المصالح الوطنية الأمريكية، بل تلحق بها الضرر وكذلك بعلاقاتها مع القوى الأخرى، وتعيق حرية واشنطن في المناورة، وباختصار فإن "إسرائيل" أصبحت "الذيل" الذي يهز "الكلب- الإدارة الأمريكية" وليس العكس.

ويتساءل الكاتب عن حقيقة هذه التهمة؟  ويرى أن من الصحيح أن "إسرائيل" تعمل بشكل مستقل في بعض الأحيان، وربما أكثر مما يمكن للمرء أن يتوقع في علاقة غير متكافئة كليا من هذا النوع  في الواقع، ومع ذلك، باستثناء عدد قليل من الحالات فإنها منذ أن تطورت "العلاقة الخاصة" في السبعينيات والثمانينيات، وفي كثير من الحالات قبل ذلك بوقت طويل، لا يتوقع أحد أن يكون هناك ما يكفي من الثبات والتبعية الكاملين، إلا أن الممارسات المستقلة للكيان أو "تحديه" للإدارة الأمريكية كانت قليلة جدا.

يزعم الكاتب أن "إسرائيل" فقدت الكثير من استقلالها أمام الولايات المتحدة، التي سمحت لنفسها بالتدخل المباشر في اتخاذ "إسرائيل" لقرارات معينة أو إجهاض قرارات اتخذتها أصلا بدون التشاور،  وهو يدلل على هذا عبر سرد تاريخي: يتوجه بحرب أكتوبر وأن الخوف من رد فعل الولايات المتحدة منع "إسرائيل" من تنفيذ ضربة استباقية.

[أصبحنا نعلم الآن من الوثائق الصهيونية أن السبب الأمريكي كان هامشيا في اتخاذ قرار الضربة الاستباقية في حرب أكتوبر، فقد كشفت مجلة معرخوت الصهيونية في عددها الأخير محاضر اجتماعات القيادة الصهيونية، وتبين منها أن هناك ثلاثة أسباب فعلية وراء الامتناع عن اتخاذ قرار الضربة وهي: تضارب الاستخبارات وضعف المعلومات وتناقضها، والعنجهية الصهيونية التي جعلتهم يعتقدون أن مصر لن تجرؤ على شن الحرب، وشخصية غولدا مائير منعدمة الخبرة العسكرية، وهذا ما دفعها لرفض قرار الضربة الاستباقية، وهنا يبرز الموضوع الأمريكي من خشية الكيان بأن ينقطع الدعم الأمريكي فيما إذا بدأ الهجوم وكان الإنذار كاذبا من الأساس].

ويقول الكاتب أن "إسرائيل" لم تشن الحرب عام 1982، ضد لبنان إلا بعد إقناع واشنطن على الأقل جزئيا بالحاجة إلى عملية عسكرية واسعة النطاق، وهي عملية دبلوماسية استغرقت أكثر جزء مناسبة للحرب ذلك العام. [في هذا التحليل يتجاهل الكاتب مقدمات وظروف العدوان الصهيوني على لبنان عام 1982، حيث كان الوضع مهيئا أصلا لمثل هذا العدوان بعد ترسيخ دويلة سعد حداد في الجنوب، ورغبة الكيان والولايات المتحدة وحلفائهم العرب تأديب الفلسطينيين لرفضهم مبادرة الملك فهد التصفوية في عام 1981، ورغم اتفاق الهدنة المنعقد في تموز 1981 قام طيران الاحتلال في نيسان 1982 بقصف مواقع لمنظمة التحرير في الجنوب، لأن العدو كان يتخوف من تجمع القوات الفلسطينية وحلفائها هناك، وردت المنظمة بقصف صاروخي لمستوطنات شمال فلسطين المحتلة، وبدأت الأمور تتصاعد واتخذ الكيان محاولة اغتيال السفير الصهيوني في لندن ذريعة كان يبحث عنها لبدء الاجتياح] و في عام 1991، امتنعت عن الرد على الهجمات الصاروخية العراقية المباشرة على سكانها احتراما للضغط الأمريكي. وخلال حرب لبنان الثانية في عام 2006، امتثلت  للطلب الأمريكي بأن تمتنع عن مهاجمة البنية التحتية المدنية في لبنان، وبعد ذلك بعامين، أدت المخاوف بشأن عدم وجود دعم محتمل من قبل إدارة أوباما القادمة لـ "إسرائيل" إلى إنهاء عمليتها العسكرية في غزة في وقت سابق عما كان مقصودا [كشفت مصادر صهيونية سابقا أن أوباما أراد الوصول إلى حفل التنصيب للولاية الثانية بهدوء وبدون مشاكل دولية، فطلب من العدو إنهاء الحملة قبل الموعد، وليس بسبب الخشية من فقدان الدعم].

يضرب المؤلف مثلا آخر بقرار "إسرائيل" نهاية القرن العشرين  بعدم ضرب البرنامج النووي الإيراني، الذي اعتبرته بالتأكيد تهديدا وجوديا، وكان هذا مثالا  حيا بشكل خاص على الأهمية التي تعلقها "إسرائيل" على الولايات المتحدة، ولا سيما الحاجة إلى الدعم الأمريكي للعمل العسكري،  والمعارضة الأميركية كانت تنبع من التشكيك في فعالية أو حتى إمكانية  توجيه ضربة ل إيران واحدة حاسمة. على العكس من ذلك، تم تنفيذ ضربة "إسرائيل" ضد المفاعل السوري في عام 2007 مع التفهم الأمريكي، إن لم يكن الدعم المباشر، ولكن فقط بعد التشاور المكثف .

يزعم الكاتب أن بعض التنازلات الرئيسية التي قدمتها "إسرائيل" لمصر عام 1978 كانت بضغط من الولايات المتحدة إذ يقول أن  الرئيس جيمي كارتر، هدد رئيس الوزراء مناحيم بيغن، من  أن أي تردد من جانبه للتوقيع على الاتفاق المقترح قد يكلف  "إسرائيل" قدراتها النووية، قائلا: "لا تعتمد على ديمونا وسوف ترى  أنه لم يكن لديك ديمونا ".

ويعرض الكاتب أن إسحاق رابين وشمعون بيرس نسقا بشكل "وثيق" المواقف التفاوضية مع كلينتون في البيت الأبيض، في وقت لاحق من ذلك العقد نفسه، التقى أيهود باراك مع الرئيس بيل كلينتون لكسب التأييد الأميركي لخطته لتحقيق "السلام" مع الفلسطينيين والسوريين، وبعد ذلك بقي في العام التالي على اتصال وثيق للغاية مع كلينتون وغيره من كبار المسؤولين الأمريكيين، في قمة كامب ديفيد في عام 2000.

وسرعان ما تبع الطريق خليفة باراك، أرئيل شارون، رغم انزعاجه من "خارطة الطريق للسلام" التي تبنتها إدارة بوش الثانية، ولكنه نسق بشكل وثيق مع واشنطن الانسحاب الأحادي الجانب من غزة عام 2005. في الواقع، كان الموقف الأميركي الذي أدى إلى قرار شارون للانسحاب من غزة في مجملها، لتفكيك جميع المستوطنات  هناك، وإزالة أربع مستوطنات شمال الضفة الغربية أيضا، وكان البيت الأبيض يعرف تفاصيل خطة فك الارتباط قبل وقت طويل من إعلانه لكبار المسؤولين في "إسرائيل" بمن فيهم وزير الحرب،  وفي وقت لاحق، سعى أيهود أولمرت بالمثل للتنسيق مع الولايات المتحدة في مؤتمر أنابوليس عام 2007، وفيما يتعلق باقتراحه "للسلام" مع محمود عباس في عام 2008.

ولكن رغم ذلك كانت هناك حالات تحدي يسجلها المؤلف: حيث يرى أن أسوأ الأزمات في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية  في عام 2000، عندما أدت علاقة  "إسرائيلية"  ناشئة مع الصين إلى انفراج كبير تمثل في صفقة بقيمة 2 مليار دولار لبيع طائرات الإنذار المبكر الإسرائيلية،  (فالكون)، وكان هذا المبلغ كبيرا في حد ذاته، خاصة بالنسبة لكيان صغير الحجم مثل  "إسرائيل"، ولكن الأهمية الحقيقية للصفقة تكمن في كونها نذير بالنسبة لللإدارة الأمريكية وتحذير من العلاقات الأوسع التي ترسيها الصين عسكريا، بما في ذلك مبيعات الأسلحة بدرجة أكبر بكثير، وبما أن الطائرة نفسها لم تكن لديها تكنولوجيا أو مكونات أمريكية، لم يكن هناك أي مانع قانوني رسمي للصفقة (يمنع على الكيان إعادة تصدير أو تصدير صناعات عسكرية تحتوي تكنولوجيا أمريكية المنشأ لطرف ثالث إلا في حالات تضمن الموافقة الأمريكية)، وطالبت الولايات المتحدة "إسرائيل" بأن تلغيها بسبب القلق من أن الطائرات قد تسهم في القدرات الصينية في بعض الصراعات في المستقبل.

وفي خضم هذا الصراع، طالب البعض في الكونغرس بقطع جزئي للمساعدة العسكرية، و قام البنتاغون بتأجيل اتخاذ إجراءات بشأن طلبات "إسرائيل" للحصول على أسلحة جديدة، وعلقت  القوات الجوية عملية مشتركة مع نظيرتها الإسرائيلية" ، وقد علقت المحادثات الرفيعة المستوى حول رفع مستوى العلاقات الثنائية بشكل استراتيجي، حتى إن الإدارة هددت بحرمان "إسرائيل" من الوصول  إلى تكنولوجيات الدفاع المتقدمة.

وفي النهاية، اضطرت "إسرائيل" إلى إلغاء الصفقة، ودفع 300 مليون دولار إلى الصين كشرط جزائي، وقبول آلية ثنائية لرصد جميع مبيعات الأسلحة في المستقبل إلى البلدان التي تثير القلق، ولم تتعافَ بعد العلاقة العسكرية الصينية "الإسرائيلية".

وبعد خمس سنوات، برزت نفس القضية من جديد، وهذه المرة بسبب متابعة بيع الطائرات بدون طيار في وقت سابق إلى الصين، ومرة أخرى فرضت الولايات المتحدة عقوبات على مبيعات الأسلحة والمشاريع المشتركة وتمرير المعلومات والتكنولوجيا، وقد منعت "إسرائيل" من المشاركة في تخطيط مقاتلة اف -35 الجديدة، وتم بحث سبب فشل الآلية الثنائية للرقابة ، وعدم مشاركة القيادة المدنية الإسرائيلية"  في هذه العملية، كما أكدت واشنطن إن على الكنيست أن يمرر قانونا جديدا ينظم صادرات الأسلحة، وإن على الحكومة تشكيل لجنة تنسيق مشتركة بين الوزارات لمراقبة الصادرات وخاصة البنود التي كان من الممكن أن تستخدم في أغراض مدنية أو عسكرية أو كليهما، وأخيرا، اضطر المدير العام لوزارة الحرب الصهيونية  الذي اعتبرته  الولايات المتحدة مسؤولا شخصيا عن تضليلها، إلى الاستقالة.

ويضرب الكاتب مثالا آخر على التدخل الأمريكي في السياسة "الإسرائيلية" يتعلق بتطوير "إسرائيل" للقدرات النووية المستقلة: هنا، قامت الولايات المتحدة، بمرور الوقت، بتعديل محاولتها الخاصة لمنع البرنامج النووي في سنواته التكوينية (الخمسينيات والستينيات)، ومنذ ذلك الحين، ما برحت واشنطن تحاول على الدوام إخضاع البرنامج لمعاهدة عدم الانتشار، ولكنها لم تبذل أبدا قصارى جهدها لوقفه، وبالتأكيد لم تبذل أبدا أي جهد  مماثل لما بذلته لمنع البلدان الأخرى من مواصلة قدراتها النووية، أكثر من ذلك: على مر السنين من الواضح أن الولايات المتحدة تقبلّت برنامج "إسرائيل" النووي، بل وقبلت توفير غطاء دبلوماسي له، ولا شك في أن النظرية القائمة على أسس راسخة، بأن القدرات الاستراتيجية "الإسرائيلية" المستقلة، تخدم المصالح الأمريكية فعلا في حالة حدوث حالة طوارئ وطنية،  تعمل بقوة، وفي ضوء ذلك، فإن سلوك "إسرائيل" مرة أخرى لا يبدو في أي مكان قريبا من سلوك الولد الضال.

بالنسبة للتحدي الآخر الخطير كان إقدام "إسرائيل" على قصف المفاعل النووي العراقي في عام 1981، وحتى ذلك الحين،  وعلى الرغم من أن إدارة ريغان لم تطلع على الخطة الفعلية للهجوم، فإن فترة طويلة مكثفة من المشاورات بشأن موضوع المفاعل سبقت القصف.

ويمكن أن يقال شيئا مماثلا عن الحالة الأخيرة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في معارضته الحادة لاتفاق 2015 النووي مع إيران، وحتى بعض من أنصار الصفقة الأمريكيين  اعترف بأن الاتفاق معضلة شديدة، وربما يشكل تهديدا وجوديا لـ"إسرائيل" بسبب سعي طهران للحصول على أسلحة نووية، والنية المعلنة لاستخدامها ضد الدولة اليهودية، وفي الواقع لم تقترب إيران أبدا من إنتاج سلاح نووي، والتاريخ سيحكم على نتنياهو حول هذا.

يعتبر الكاتب أن الطريقة التي اختار بها نتنياهو معارضة الصفقة علنا كانت انحرافا، حيث أن  زعماء "إسرائيليين" آخرين، معارضين للاتفاق النووي بما لا يقل قوة عن نتنياهو ، توقفوا عن الدعوة إلى تحدي صريح للولايات المتحدة.

و بصرف النظر عن المجال النووي، فإن أكبر مجموعة قضايا مثيرة للجدل هذه الأيام، كما يرى المؤلف،  والتي تولد أعلى قدر من الشكاوى هي الاستهتار "الإسرائيلي"، بالتركيز على "عملية السلام"، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بوضع القدس، والمستوطنات، ومرتفعات الجولان. و يزعم الكاتب أنه إذا كانت إيران قضية ذات أهمية وجودية، فكذلك مستقبل الضفة الغربية، ليس فقط من حيث القيمة الدفاعية كما يقول، بل بسبب وضع "إسرائيل" في المنطقة، في المستقبل "كأمة". أما بالنسبة للقدس والمستوطنات، فهي ذات أهمية أيديولوجية عليا، وتعتبر غالبية كبيرة من الناخبين "الإسرائيليين" أن القدس قلب اليهودية و"الدولة اليهودية"، بينما أقلية منظمة تنظيما جيدا تعارض أي تنازلات بشأن المستوطنات، ومن بين الاعتبارات الاستراتيجية والأيديولوجية، فإن الأغلبية الساحقة تعلق ببساطة على سيطرة "إسرائيل" على مرتفعات الجولان.

يعتبر المؤلف أنه في المسائل ذات الأهمية الحاسمة لمستقبلها، من المناسب تماما أن تحدد "إسرائيل" مسارها الخاص، وحتى الآن، امتنع نتنياهو وهو رئيس الوزراء الأكثر تشددا عن ضم الضفة الغربية وسعى بشكل عام للحد من الخلافات مع الولايات المتحدة حول المستوطنات، بما في ذلك من خلال وضع قيود على البناء. وافق نتنياهو،  على تجميد الاستيطان لمدة عشرة أشهر في بداية رئاسته للوزراء وكبح  مرة أخرى جماح النشاط الاستيطاني في عام 2015 بسبب المعارضة الأميركية [يدور الحديث هنا عن عهد أوباما، ومن المعروف أن المشهد تغير كليا في السياسة الصهيونية عبر عمليات الاستيطان غير المسبوقة ومصادرة الأراضي وسيطرة المستوطنين على الحكومة التي تنتهج سلوك الضم المتدرج وناقشت وأقرت بعض القوانين بهذا الشأن، وأخرى قيد الإعداد للنقاش في الكنيست، بعد الموافقة من أحزاب التكتل الحاكم، بدعم وتغطية من الشريك الأمريكي في عهد إدارة ترامب].

 طبعا مال  رؤساء وزراء آخرين (رابين وبيريز وباراك وأولمرت، حتى شارون) إلى سياسات تتماشى أكثر بشكل وثيق مع الرغبات الأمريكية، وفي حالة واحدة على الأقل (باراك)، تجاوزهم  كثيرا .

يزعم المؤلف أن "إسرائيل" تواجه ظروفا خارجية صعبة وصعبة للغاية، وأن الحفاظ على أمنها قد يتطلب أحيانا تدابير غير عادية، وهو أمر اعترفت به واشنطن منذ وقت طويل، لذلك تسمح  الولايات المتحدة، لتل أبيب  بقدر من الحرية، ولا سيما في الغايات المنخفضة والعالية لنطاق التهديد، مُحررة نفسها من مسؤولية أخذ عبئ الدفاع عن "إسرائيل" على عاتقها.

ويرى أنه لا يجب النظر إلى سلوك "إسرائيل" المستقل كتحد للولايات المتحدة، ولكن كمؤشر على نضج العلاقة حيث أن الدعم العسكري والدبلوماسي ساعد على بناء "إسرائيل" القوية التي تزداد ثقة في أمنها، وهو الهدف الحقيقي الطويل الأمد للعلاقة الخاصة، إذا كان  على بلد ما أن يعتمد على بلد آخر، فإن ثروة "إسرائيل" العظيمة هي أنها تعتمد على الولايات المتحدة، كما يخلص المؤلف.