يوافق اليوم ذكرى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، عقب موافقة جامعة الدول العربية على ذلك، بهدف إبراز الكيان الفلسطيني، خلال دورة مجلس الجامعة ال 31، الذي بحث "إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني وإبراز كيانه شعباً موحداً، لا مجرد لاجئين بواسطة ممثلين يختارهم".
ودعت قرارات المجلس إلى إنشاء "جيش فلسطين في الدول العربية المضيفة". وواكبت هذه الدعوة إنشاء "الاتحاد القومي الفلسطيني"، في مصر وغزة وسورية؛ ودعوة عبدالناصر إنشاء كيان فلسطيني، غايته: "مواجهة نشاط إسرائيل لتصفية المشكلة الفلسطينية وإضاعة حقوق شعب فلسطين". لكن عدم تنفيذ القرارات المتعلقة بالكيان الفلسطيني، دفع القاهرة إلى تقديم مذكرة إلى الجامعة العربية، تطالب بإبراز الشخصية الفلسطينية؛ وذلك خلال اجتماع مجلس الجامعة في شتورة، في أغسطس 1960.
حددت لجنة الخبراء التابعة لجامعة الدول العربية في يوليو 1962، شكلاً للكيان الفلسطيني، يقوم على أساس الدعوة إلى مجلس وطني، يضم التجمعات الفلسطينية. وتنبثق منه جبهة وطنية تقود الشعب الفلسطيني؛ ويكون لها اختصاصات عسكرية وسياسية وتنظيمية وإعلامية ومالية. إلا أن معارضة الأردن، والخلافات بين بعض الدول العربية، حالت دون تقديم المشروع إلى مجلس الجامعة.
إثر وفاة أحمد حلمي، رئيس "حكومة عموم فلسطين"، وممثل فلسطين لدى الجامعة العربية، بحثت الدورة الأربعين لمجلس الجامعة في 15 سبتمبر، تعيين خلف له. واختير أحمد الشقيري لهذا المنصب على معارضة الأردن والمملكة العربية السعودية لذلك.
وصدر قرار المجلس الرقم 1933، باختيار "السيد أحمد الشقيري مندوباً لفلسطين لدى مجلس جامعة الدول العربية، وذلك طبقاً لملحق ميثاق الجامعة الخاص بفلسطين؛ وإلى أن يتمكن الشعب الفلسطيني من اختيار ممثليه". ودعا القرار الشقيري إلى زيارة الدول العربية، من أجل بحث القضية الفلسطينية من جميع جوانبها، والوسائل التي تؤدى رفعها إلى ميدان الحركة والنشاط.
وحدد الشقيري هدف الكيان الفلسطيني في أول خطاب له أمام مجلس الجامعة، بأن: "يصبح أهل فلسطين قوة وطنية عاملة، تسهم في تحرير فلسطين، وحمل السلاح لتحريرها بأيدي القادرين على حمل السلاح من أبناء فلسطين". وأوضح قائلاً: "أن الكيان الفلسطيني، ليس حكومة، ولا يمارس سيادة، وإنما هو تنظيم للشعب الفلسطيني، يتعاون مع جميع الدول العربية، ويهدف إلى تعبئة طاقات الشعب الفلسطيني عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، في معركة فلسطينية". وبادر الشقيري، بتسهيلات من الحكومة المصرية إلى زيارة عمّان ودمشق وبيروت وقطاع غزة. كما ألَّف وفداً فلسطينياً، من ثمانية عشر شخصاً، لحضور دورة الأمم المتحدة عام 1963.
وفي الأول من نوفمبر 1963، عقدت الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة جلسة خاصة، بحثت فيها قضية فلسطين وموضع اللاجئين الفلسطينيين بصورة رئيسية.
تحدث أحمد الشقيري، رئيس الوفد الفلسطيني، فقال: إن الوفد يطالب بعودة اللاجئين إلى وطنهم، وليس إطعامهم فتات الخبز. وإن قضية فلسطين، ليست قضية لاجئين، علينا أن نفتش عن تأمين إعاشتهم وإطعامهم وإسكانهم؛ وإنما هي قضية وطن، تعرض لأكبر غزوة استعمارية صهيونية، طردت منه مليون فلسطيني. علينا شجب الغزوة الاستيطانية الاستعمارية الصهيونية، وإعادة المليون فلسطيني إلى بلادهم وبيوتهم وأراضيهم.
القمة العربية الأولى (1964):
دعا الرئيس عبد الناصر في 23/ ديسمبر 1963، إلى عقد مؤتمر للقمة العربية؛ لبحث التهديدات الإسرائيلية بتحويل مياه نهر الأردن. وانعقد المؤتمر في القاهرة من 13 إلى 17 يناير 1964. وناقشت القمة القضية الفلسطينية والكيان الفلسطيني، واتخذت "القرارات العملية في ميدان تنظيم الشعب الفلسطيني، وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره". وقررت: "تخويل أحمد الشقيري، ممثل فلسطين في الجامعة العربية، أن يتابع اتصالاته بالدول الأعضاء في الجامعة، وشعب فلسطين حيثما وُجد؛ ليبحث معهم الطريقة المثلى لتنظيم شعب فلسطين؛ وذلك تمهيداً لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بهذا التنظيم".
إعلان تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية:
شكل الشقيري لجنة تحضيرية لعقد المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول، اختارت أعضاءها لجان تحضيرية، عيّنها وأشرف عليها الشقيري نفسه في كلّ بلد يتجمع فيه الفلسطينيون. أدرجت هذه اللجان أسماء المرشحين لعضوية المؤتمر. ثم تولت لجنة تحضيرية مركزية معينة، كذلك، تنسيق الأسماء المرشحة، وأعدت قائمة نهائية ضمت مندوبين عن التجمعات الفلسطينية المختلفة. وضم الشقيري إليهم الفلسطينيين السابقين في مجالس النواب والأعيان والوزارات الأردنية ومجالس البلديات والقرى. وانعقد المؤتمر في 28/ مايو 1964 في القدس ، بحضور الملك حسين، ومشاركة وزراء خارجية كلِّ الدول العربية عدا المملكة العربية السعودية التي قاطعت المؤتمر. وصدر عن المؤتمر إعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية، واعتماد ميثاقها القومي، والمصادقة على النظام الأساسي واللائحة الداخلية للمجلس الوطني، وانتخاب عبدالمجيد شومان رئيساً لمجلس إدارة الصندوق القومي وعضواً في اللجنة التنفيذية. وأصدر المؤتمر عدة قرارات، عسكرية وسياسية ومالية وإعلامية. وأُلِّفت لجنة تحضيرية برئاسة أحمد الشقيري، اختارت 419 عضواً، يشكلون أول مجلس وطني فلسطيني.
وفي 28/ مايو 1964، عقد أول مجلس وطني فلسطيني جلسته الأولى في فندق الكونتيننتال في القدس، وشهدها ممثلون عن الرئيس جمال عبد الناصر، والرئيس العراقي عبد السلام عارف، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، والرئيس السوري أمين الحافظ، والرئيس اللبناني فؤاد شهاب، والرئيس السودان ي إبراهيم عبود، وأمير الكويت. كما حضرها أمين الجامعة العربية عبدالخالق حسونة، ومساعده الدكتور نوفل، ورئيس قسم فلسطين في الجامعة العربية يعقوب الخوري.
وافتتح الجلسة، ملك المملكة الأردنية الهاشمية بخطاب قومي، قال فيه: إنه التزم مع إخوانه ملوك الدول العربية ورؤسائها تناسي الخلافات بينهم، والعمل يداً واحدةً لتحرير فلسطين. وقرروا أن يتعاونوا مع الفلسطينيين على تنظيم صفوفهم وفق مشيئتهم، ودعمهم على تحرير وطنهم. وإنه لا حياة ولا حرية ولا وحدة للعرب من دون تحرير فلسطين. واستطرد الملك قائلاً: أرجو أن يعلم الجميع، أن إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الفلسطيني، لن يتعارض مع وحدة الضفتَين التي ارتضيناها. وإنني أعاهدكم، أن أبذل دمي في سبيل فلسطين.
ثم باسم القدس، رحب أمينها روحي الخطيب بالوفود. وألقى أمين الجامعة العربية عبدالخالق حسونة كلمة باسم الجامعة. وتبع ذلك كلمة أحمد الشقيري. وقرر المؤتمرون إعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وصنفوا أنفسهم أنهم هم المجلس الوطني الفلسطيني الأول، زكوا أحمد الشقيري، المكلف من الدول العربية بتأليف لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية برئاسته. وأقر المجلس الوطني الميثاق الوطني الفلسطيني، والنظام الأساسي للمنظمة. كما تقرر إنشاء صندوق قومي فلسطيني، وتشكيل جيش التحرير الفلسطيني. وأصدر المؤتمر الوطني الفلسطيني بياناً، في ختام جلساته؛ أكد فيه أن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، إنما هو لخوض معركة التحرير، ولتكون درعاً لحقوق شعب فلسطين وأمانيه، وطريقاً إلى النصر.
وعقدت اللجنة التنفيذية أول اجتماع لها في القدس في 25/ أغسطس 1964، وبدأت مسيرة العمل الفلسطيني بقيادة المنظمة.
ردود الفعل الفلسطينية على إعلان منظمة التحرير الفلسطينية
أثارت اتصالات الشقيري لعقد المؤتمر الوطني، ثم إعلان قيام المنظمة، ردود فعل لدى المنظمات الفلسطينية المختلفة. وعلى الرغم من مشاركة بعض قيادات هذه المنظمات في المجلس الوطني الأول، إلا أن الشقيري أكد القول: "أن المشاركين في المؤتمر، شاركوا بصفتهم الشخصية، وليس بصفتهم التنظيمية".
كانت رؤية الشقيري في إطار خطته لإنشاء المنظمة، "تقوم على تجميع كلِّ القوى الفلسطينية من منظمات وفئات داخل إطار منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث يقوم التنظيم الثوري الواحد، والذي توضع تحت خدمته كافة طاقات المنظمة السياسية والعسكرية والإعلامية والمالية. وبالنسبة للمنظمات السرية التي يقوم تركيبها على أساس الخلايا، والاحتفاظ بالعناصر تحت الأرض، فإن قادتها يمكن أن يلتقوا داخل إطار المنظمة، مع بقاء تنظيماتهم سرية؛ وبذلك يتحقق التنسيق، وترسم الخطط المشتركة مع الحفاظ على الأمن وسلامة العناصر".
وواجه تأسيس المنظمة نوعَين من ردود الفعل:
الأول: مؤيد لقيامها، إذ رأى فيها تعبيراً عن الطموح العميق لإعادة جمع شتات الشعب الفلسطيني، وإبراز كيانه الوطني.
الثاني: انتقادات متعددة الأشكال والدوافع.
وبرزت المواقف من المنظمة على النحو التالي:
1. "الهيئة العربية العليا": عارضت إعلان الكيان الفلسطيني؛ لأن الحاج أمين الحسيني يعدّ نفسه الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، وأنه هو الأحق برئاسة الكيان الفلسطيني الذي لا داعي له، مادامت الهيئة موجودة. وحاول الشقيري استمالتها دون جدوى، إلى حدّ أنه عرض على الحسيني رئاسة المجلس الوطني.
2. "حركة فتح": عبرت عن رأيها من خلال مجلتها "فلسطيننا". ودعت أن يكون الكيان ذا مضمون ثوري، ومرتكزاً للثورة المسلحة، وليس بديلاً منها، وأن يكون التنظيم العسكري أساساً للكيان الفلسطيني.
وأكدت موقفها بشكل تطبيقي عندما انتهجت الكفاح المسلح بعد أشهر قليلة من إعلان قيام المنظمة، ودعتها في بيان وزع على أعضاء المجلس الوطني في دورته الثانية في القاهرة في مايو 1965، إلى سلوك درب "العاصفة"، الجناح العسكري لـ "فتح". كما دعت في مذكرة لمؤتمر القمة العربي الثالث في الدار البيضاء في سبتمبر 1965، إلى استعدادها للتعاون مع المنظمة، شريطة إبقاء القيادة بيد الشعب الفلسطيني. ووصفت المنظمة بأنها "وليدة مؤتمر القمة، وسوف تنعكس عليها طبيعة التناقضات الخاصة بهذه المؤتمرات".
3. "حزب البعث": كان موقف شعب فلسطين في حزب البعث، في لبنان، أن المنظمة ليست الأداة النضالية التي تستطيع أن تتحمل أعباء معركة تحرير فلسطين. بينما قدمت حكومة حزب البعث، في سورية، تسهيلات ملموسة للمنظمة، وفي طليعتها تشكيل وحدات عسكرية فلسطينية، وافتتاح مكتب رسمي لها في دمشق.
4. "حركة القوميين العرب": دعت في بيان مشترك مع جبهة التحرير الفلسطينية، واتحاد طلاب فلسطين، والشباب العربي الفلسطيني في لبنان، إلى انتخابات حرة، ينبثق منها الكيان الفلسطيني. وهي الفكرة نفسها التي دعت إليها "الهيئة العربية العليا".
5. "الاتحاد العام لطلبة فلسطين": قرر إثر انتهاء مؤتمره العام في غزة في نهاية عام 1964، أنه يمثّل قاعدة من قواعد المنظمة.
6. "حزب التحرير الإسلامي": عبر عن رفضه للكيان الفلسطيني، استناداً إلى ضرورة قيام الدولة الإسلامية أولاً، ثم الشروع في الجهاد.
دور منظمة التحرير الفلسطينية (يونيو 1964 - يونيو 1967)
اعتمدت المنظمة عام 1964، على ركنَين أساسيَّين: أحدهما فلسطيني، تجسد في تصميم شعب فلسطين على إقامة كيانه والآخر عربي، تمثل في موافقة الحكومات العربية على الاعتراف بهذا الكيان ودعمه. وأسفرا عن إنشاء مقر المنظمة في القدس، وتأسيس الدوائر، وفتح المكاتب في العواصم العربية، ونشوء جيش التحرير الفلسطيني والتنظيم الشعبي. وتمخض جهد رئيس اللجنة التنفيذية الأولى وأعضائها والعاملين فيها ببناء هيكلها على أُسُس متينة وتشييد مؤسساتها، وأهمها المجلس الوطني ومجلس إدارة الصندوق القومي.
واقتصرت اهتمامات المرحلة الأولى، على المسائل المتعلقة مباشرة بمتطلبات النضال السياسي والعسكري والنشاطات التعبوية، التي تخدم تلك الاهتمامات؛ ويرجع ذلك أساساً، إلى أن المنظمة كانت تنظيماً معنوياً مُنع من ممارسة سلطة شرعية كافية على الفلسطينيين؛ خوفاً من أن ينتزع من الحكومات المضيفة للفلسطينيين سلطانها عليهم، كما يرى أنيس صايغ. إلا أن المنظمة بقيادة الشقيري، نجحت في أن تحتفظ بوجودها، فقد استمرت، واستقطبت اهتمام القوى الفلسطينية. ولئن تحولت دورات المجلس الوطني الثلاث في فترة الشقيري، في أقلّ تقدير إلى ندوات واسعة للعمل السياسي، فإن وجود المنظمة نفسه والأنشطة التي حفزتها، أسهما في زيادة وزن العمل الوطني الفلسطيني.
ونجح الشقيري بالاعتماد على دعم مصر في تطوير مكانة المنظمة، وتغيير صورتها في العالم العربي وأوساط الرأي العام الفلسطيني. واستطاع أن يُبقي المنظمة في منأى عن التقلبات العربية، بعدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية. واهتم بدورها في تطوير الشخصية الفلسطينية، وبناء كيان حقيقي للشعب الفلسطيني.
لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية في سنواتها الأولى مستقلة ذاتياً، بل كانت في حاجة إلى المداورة بحذر، لكي تضمن بقاءها؛ وهو ما نجح أحمد الشقيري في إنجازه، إذ لم يجعلها أداة في النزاعات العربية. وهو يلمح إلى ذلك، قائلاً: "ولدت المنظمة على فراش مؤتمر القمة، أسيرة الظروف العربية". إلا أن فترة قيادته، شهدت خلافات مع الأردن خاصة. ولكن الوساطة العربية أفلحت في وقف الحملات الإعلامية بين الطرفَين. وبادر أحمد الشقيري إلى زيارة الأردن في نهاية عام 1965؛ غير أن زيارته لم تفلح، بل ازدادت حملة الأردن على المنظمة حتى إنه طالب بحلها في يونيو 1966، وتشكيل منظمة أخرى وفق أُسُس جديدة؛ ليصبح الكيان الفلسطيني عاملاً إيجابياً.
وتفاقمت الخلافات إثر غارة إسرائيلية على قرية السموع الأردنية في 13/ نوفمبر 1966، فجرت تظاهرات في الضفة الغربية، طالبت بالتسليح للدفاع عن الأرض والعرض. وحدد أحمد الشقيري في بيانه أمام اجتماع مجلس الدفاع العربي في ديسمبر 1966، مطالب المنظمة من الأردن، بدخول جيش التحرير الفلسطيني إليه، وتمكينها من الاضطلاع بجميع مسؤولياتها القومية في أراضيه، وإعلان التجنيد الإجباري، وتسليح المدن والقرى الأمامية، وإنشاء فِرق المقاومة الشعبية والدفاع المدني.
قررت الحكومة الأردنية في 4/ فبراير 1967، إلغاء اعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية، ومقاطعة اجتماعات الجامعة العربية التي يحضرها أحمد الشقيري.
واستمرت الحملات بينهما حتى تأزم الأحداث في مايو 1967، بين العرب وإسرائيل؛ ووصول الملك حسين في 30/ مايو 1967 إلى القاهرة، حيث وقّع اتفاقية دفاع مشترك مع الرئيس جمال عبدالناصر. وعاد أحمد الشقيري مع الملك حسين على الطائرة نفسها إلى عمّان.
وفي الخامس من يونيو، بدأت إسرائيل عدوانها على مصر والأردن وسورية. واحتلت سيناء، وهضبة الجولان، والضفة الغربية، والقدس الشرقية، وقطاع غزة؛ فأمست فلسطين كلُّها تحت سيطرة إسرائيل.
واجتاحت العالم العربي في عقب هزيمة يونيو1967، موجة من النقد الذاتي. و "كان من المتفق عليه بشكل عام، أن الشقيري وكافة التجاوزات اللفظية المماثلة، يجب أن تستبعد".
المنظمة ومؤتمر الخرطوم
وبعيد هزيمة يونيو 1967، عقد مؤتمر الخرطوم في 29/ أغسطس؛ تلا فيه أحمد الشقيري مذكرة باسم المنظمة، تتلخص في الآتي:
أولاً: لا صلح، ولا تعايش مع إسرائيل.
ثانياً: رفض المفاوضات مع إسرائيل، وعدم الاعتراف بالاحتلال السابق (احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1948).
ثالثاً: عدم الموافقة على أي تسوية، فيها مساس بالقضية الفلسطينية، وما يؤدى تصفيتها.
رابعاً: عدم التخلي عن قطاع غزة والضفة الغربية، ومنطقة الحمة. وتأكيد على عروبة القدس بخاصة.
خامساً: في نطاق الاتصالات الدولية في هيئة الأمم المتحدة وخارجها، لا تنفرد أي دولة عربية بقبول أي حلول لقضية فلسطين.
سادساً: التركيز الدائم المستمر على الصعيدَين: العربي والدولي، في أن قضية فلسطين وإن تكن قضية عربية مصيرية، إلا أن شعبها هو صاحب الحق الأول في وطنه، الذي يقرر مصيره.
ورفع أحمد الشقيري بذلك أربع لاءات: لا صلح، ولا تفاوض، ولا اعتراف بإسرائيل، ولا انفراد لدولة عربية بالحل. بيد أن المؤتمر لم يقرر سوى الثلاث الأولى فقط.
واقترح أحمد الشقيري على مؤتمر قمة الخرطوم باسم المنظمة، إصدار قرارات تطالب بالوفاء بالالتزامات المالية تجاه المنظمة وجيش التحرير الفلسطيني. وتمكِّن المنظمة من تحمل مسؤوليتها عن تنظيم الشعب الفلسطيني، وتعزيز جيش التحرير الفلسطيني، واستكمال سلطتها عليه، وإنشاء معسكرات لتدريب الفلسطينيين في الدول العربية بالتعاون مع المنظمة، وتمكين هذه الأخيرة من استيفاء ضريبة التحرير من الفلسطيني.
وغادر أحمد الشقيري ووفد المنظمة المؤتمر، ورفضوا كافة محاولات إعادتهم إليه في إثر رفض القمة العربية لاقتراح "ألا تنفرد أية دولة عربية بقبول أية تسوية للقضية الفلسطينية"؛ ورفض الموافقة على اقتراح "الدعوة إلى مؤتمر قمة عربي، للنظر في أي حلول مقترحة مستقبلاً للقضية الفلسطينية؛ وتحضره المنظمة".
•استقالة الشقيري
عززت هزيمة 1967 مكانة المنظمات الفدائية. وحطت من مكانة منظمة التحرير الفلسطينية؛ بسبب ارتباط رصيدها برصيد الأنظمة العربية التقدمية. ولقيت المقاومة الفلسطينية تأييداً جماهيرياً، بل اكتسبت "صفة تمثيلية" للشعب الفلسطيني، في إطار ترجيح فكرة الحرب الشعبية لمواجهة الوجود الصهيوني، ولا سيما أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وسّع خطوط مواجهتها. وبينما اتخذ أحمد الشقيري موقفاً متصلباً في قمة الخرطوم؛ كان ياسر عرفات في الأراضي المحتلة (الضفة الغربية) يحاول إقامة بنية تحتية لـ "حركة فتح" لمقاومة الاحتلال.
ودخل أحمد الشقيري والمنظمة في مرحلة عزلة سياسية، إلا أنه كان يراها "مرحلة انتقال" من الجبهة الرسمية إلى جبهة العمل الشعبي، بعيداً عن ارتباطات الحكومات العربية؛ إذ إن المنظمة رأت أن تدخل بعد العدوان الإسرائيلي الأخير إلى طور جديد، يكون للعمل السياسي فيه نصيب صغير، وأن الواجب القومي يحمل المنظمة في الظروف الحاضرة على ألاّ تكشف عن خططها ولا عن أعمالها. وأشار الشقيري إلى ذلك بقوله: "لقد مضت على المنظمة أربعة شهور (أكتوبر 67) منذ العدوان الإسرائيلي، جنحت خلالها إلى الصمت، إلاّ حينما تدعو ظروف القضية إلى تحديد موقف، وهذا يتطلب إصدار بيان وتصريح". وأكد القول أنه: "ليس للمنظمة مع الدول العربية بعد مؤتمر الخرطوم أي تعاون سياسي"، فحتم بذلك على نفسه وعلى المنظمة العزلة السياسية عن الوطن العربي، والاستمرار في إطلاق التصريحات "المثيرة"، من دون النظر في عقباها.
سارعت "حركة فتح" إلى توجيه مذكرة في 9/ ديسمبر1967 إلى الدول العربية، أعربت فيها عن قلقها من التصريحات "المضللة"، التي يدلى بها الشقيري؛ "موهماً" الرأي العام، العربي والعالمي، أن المنظمة تضطلع بواجبها الوطني في الأراضي المحتلة. وطالبت المذكرة الدول العربية باتخاذ الوسائل الكفيلة "بسد أبواب" أجهزة الإعلام العربية في وجه الشقيري؛ "حتى لا يتخذ منها وسيلة لخدمة أغراضه الشخصية في تضليل الجماهير"، ولا سيما أنه ذكر في إحدى مؤتمراته الصحفية، أن المنظمة "تمد الآن المنظمات الفلسطينية بالمال والسلاح والتخطيط والتدريب، إضافة إلى أن عناصر المنظمة النضالية تتولى قيادة النضال داخل المناطق المحتلة". وقد أذاع مكتب المنظمة في بيروت في 7/ ديسمبر 1967، أنه قد شُكِّل "مجلس قيادة الثورة لتحرير فلسطين"؛ ليكون "مسؤولاً عن قيادة العمليات العسكرية" في جميع مناطق فلسطين. ونفت "حركة فتح" في اليوم التالي، وجود هذا المجلس "الوهمي"؛ بينما وجّه الشقيري بياناً، ذكر فيه تأييد المنظمة لذلك المجلس.
وطالب سبعة من أعضاء اللجنة التنفيذية في 14/ ديسمبر 1967، في مذكرة إلى رئيس المنظمة، أن يتخلى عن الرئاسة؛ "للأساليب التي تمارسون بها أعمال المنظمة". وأعلنوا استقالتهم من اللجنة. وهم: يحيى حمودة، ونمر المصري، وبهجت أبو غربية، وأسامة النقيب، ووجيه المدني، ويوسف عبدالرحيم، وعبدالخالق يغمور. وقد بادر الرئيس في 19/ ديسمبر 1967 إلى فصلهم جميعاً. وانضم إلى المطالبين بتنحية الشقيري عبدالمجيد شومان، رئيس الصندوق القومي. وسرعان ما توالت المطالبة بتنحيته، من "حركة فتح"، و" الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "، وثمانية من أعضاء اللجنة التنفيذية الخمسة عشر؛ ما اضطر الشقيري، في 24 ديسمبر 1967، إلى تقديم استقالته.
قررت اللجنة التنفيذية أن يتولى يحيى حمودة أحد أعضائها رئاسة المنظمة بالوكالة، إلى حين انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني. ودعت في 25/ ديسمبر1967 إلى القيادة الجماعية، وتطوير أجهزة المنظمة. وسلم رئيس الدائرة السياسية للمنظمة أمين عام الجامعة العربية خطاباً، باعتماد يحيى حمودة ممثلاً لفلسطين لدى الجامعة.
ويعلّل الشقيري استقالته؛ بأنها ترجع إلى "مشكلته" مع "الملوك والرؤساء العرب، الذين لا يمكنه العمل معهم، ولا يمكن العمل بدونهم؛ وهذه هي المشكلة". ويرى أن للصحافة المصرية دوراً في استقالته.
• تولّي قادة المقاومة قيادة المنظمة:
تنامت حركة المقاومة الفلسطينية في أعقاب حرب 1967، فأصبح العامل الفلسطيني للمرة الأولى منذ نكبة 1948، مهماً، وفعالاً في الصراع. واطّرد العمل الفدائي، وطرحت ظاهرة تعدد التنظيمات الفدائية نفسها في ساحة النضال الفلسطيني. فأعلن تشكيل تنظيمات جديدة، وجُهِرَ بتلك التي كانت سرية منها. فبدأت تنضم إلى "حركة فتح" جماعات فدائية، وحالفت تنظيمات أخرى "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"؛ ورافق ذلك محاولة منظمة التحرير الفلسطينية شق طريقها، وتثبيت وجودها في ساحة النضال الفلسطيني. وتزعمت "حركة فتح" في أعقاب الحرب واستقالة الشقيري، المطالبة بتجديد المنظمة، ورفعت شعار استبدال قادة الكفاح المسلح بـ "ثوار المكاتب". وأصبحت في تقدير عبد الناصر أخلص الجماعات الفلسطينية، وأقدرها على تولّي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي يناير 1968 دعت "حركة فتح" إلى عقد مؤتمر عام في القاهرة، من أجل البحث في إقامة الوحدة الوطنية، وتدعيم الكفاح المسلح وتنميته، وتشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر وطني تضم جميع حركات المقاومة، والشخصيات المستقلة. وقد لبت الدعوة ثماني منظمات، بعد أن اعتذرت منظمة التحرير الفلسطينية و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". وأسفر المؤتمر عن قرارات تتعلق بالوحدة الوطنية في المجال العسكري للفصائل المشاركة في المؤتمر. وألّفت المنظمة لجنة تحضيرية مكونة من أربعة أشخاص برئاسة يحيى حمودة؛ للاتصال بـ "حركة فتح" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". وبعد عدة اجتماعات، اتُّفق على تشكيل المجلس الوطني في دورته الرابعة من مائة عضو؛ لتدخل من خلالهم كلُّ التنظيمات الفدائية إلى المنظمة، تمهيداً للدخول في اللجنة التنفيذية، ثم رئاستها فيما بعد. وفي 10يوليو 1968 دخلت "حركة فتح" المنظمة في المجلس الوطني الرابع؛ لكونه أرضاً مشتركة مقبولة، وذلك بشرطَين:
الأول: ألاّ يعني دخولها إلى المنظمة قبولها بالطريقة التي أنشئت بها، بصفتها ممثلة للكيان الفلسطيني بقرارات مؤتمر القمة العربي؛ لأن ذلك يجعلها منظمة قومية، مرتبطة بالواقع العربي الرسمي؛ ما يعكس تناقضاته عليها.
الثاني: أن تظل "حركة فتح" بما فيها قواتها "العاصفة"، محافظة على شخصيتها الاستقلالية، وتنظيماتها السرية، ومنطلقاتها الوطنية. كما اشترطت أن يتضمن المجلس الوطني اشتراك الهيئات والمنظمات الفلسطينية كافة، واستقلاله الكامل عن جميع الحكومات العربية، وفرز مناضلي الصالونات من الحركات الفدائية. وأكدت أن أهمية هذا المجلس الوطني تنبع من ضرورة قضية وحدة التنظيمات الفلسطينية المقاومة، ونقل الكفاح المسلح إلى مرحلة أعلى. كما دعت كافة المؤتمرين إلى تحقيق أسباب النجاح للمؤتمر، وحمايته من الأخطاء والأخطار، والتي تتمثل في ثلاثة عوامل:
1. جعْل مهمة المجلس الأولى والأساسية، هي العمل على زعزعة وجود العدو في الأراضي العربية المحتلة. وهو لا يتحقق إلاّ بمزيد من الالتحام بالشعب وتنظيمه وتوجيهه، وتدريبه عسكرياً وسياسياً؛ وبرسم إستراتيجية عسكرية وسياسية واضحة؛ للتحرير وما بعده.
2. التحذير من حمل تناقضات منظمات المقاومة إلى المجلس الجديد، ومحاولة كلِّ منظمة التشبث بخطها السابق.
3. تولّي المجلس الوطني رسم استراتيجية سياسية للعمل المسلح، توضح أهدافه، وتحدد مداه.
4. قررت الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني، أن ينتخب هو نفسه أعضاء اللجنة التنفيذية، بدلاً من أن يسميهم رئيسها، الذي كان يجمع بين رئاستَي اللجنة والمجلس. فتقرر الفصل بين المنصبَين، وأصبحت اللجنة تنتخب رئيسها من ضمن أعضائها. كما عُدِّل الميثاق القومي الفلسطيني إلى الميثاق الوطني الفلسطيني.
وقرر المجلس كذلك، استمرار اللجنة التنفيذية التي يرأسها يحيى حمودة في ممارسة صلاحياتها، وإرجاء انتخاب لجنة جديدة إلى حين انعقاد الدورة الخامسة للمجلس الوطني في فبراير 1969. وانتخبت الدورة الخامسة يحيى حمودة رئيساً للمجلس. وانتخبت لجنة تنفيذية بالتزكية، تضم ممثلين عن "حركة فتح"، و"الصاعقة"، و"المنظمة"، و"المستقلين". وبادرت اللجنة إلى انتخاب ياسر عرفات رئيساً، وإبراهيم بكر نائباً له.
استقبل عبد الناصر أعضاء اللجنة التنفيذية، وأكد وضع إمكانات مصر بلا حدود، في سبيل دعم المقاومة المسلحة. وبدأت مرحلة جديدة من مراحل الوحدة الوطنية بدخول منظمات المقاومة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية بدءاً من عام 1986. وتمكنت فتح من السيطرة على الشبكة الإدارية والمالية وجيش التحرير، الذي كان يضم اثني عشر ألف رجل من وحدات نظامية، إضافة إلى قوات التحرير الشعبية التابعة للمنظمة كذلك؛ لكونها جزءاً من جيش التحرير. وكان من أولى مهمات فتح "تطهير" المنظمة من بيروقراطيتها، وحل مشكلات جيش التحرير الفلسطيني المتراكمة خلال سنوات الركود السابقة. كما سعت فتح إلى تبديد عوامل الشقاق داخل المقاومة والناتجة من تعددية الفصائل. وتأسست قيادة الكفاح الفلسطيني المسلح بقيادة قائد جيش التحرير الفلسطيني، للتحكم في تعدد المنظمات، ولتكون قاعدة لتنسيق العمل، وخطوة نحو تنظيم جبهة واسعة، تجمع الفدائيين.
وشكل وصول الفصائل الفدائية بقيادة "فتح" إلى قيادة المنظمة، بحلول عام 1969 دفقاً في نشاط المنظمة، وفي الشعور الوطني عند الفلسطينيين، إضافة إلى التغييرات في الأجيال والقيادة؛ ما أحدث تحولات بنيوية مهمة. وبذلك، لم تضعف حرب 1967، على عكس حرب 1948، بناء الكيان المؤسسي للشعب الفلسطيني؛ فازدادت أهمية المنظمة، وتعززت مكانتها في الحياة السياسية الفلسطينية، واطَّردت انطلاقة الكفاح الفلسطيني المسلح.