خلال أسابيع معدودة، ودّع العرب قامتين في فلكين مُختلفين من المعرفة والثقافة؛ الاقتصاد السياسي والأدب؛ المُفكّر المصري سمير أمين، والأديب السوري حنا مينا. ومع اختلاف مساحة الحركة لكل منهما من ناحية الشكل، إلا أن ثمة تقاطعات كبيرة في المضمون المعرفي الذي قدّمه كلاهما، والمحفّز لإنتاجهما، والمؤدّى المقصود منها.
اجتهد سمير أمين في قراءة الاقتصاد بنظرة كلاّنية جامعة، تختلف عن الدراسات الاقتصادية الحالية، التي تعتبر الاقتصاد هو مجموعة العمليات المحاسبية في صنف من صنوفه (الاقتصاد الرأسمالي)، وكان يعيد قراءة مجلّدات "رأس المال" لكارل ماركس كل عقدين، وبذلك استقرّت نظرته للاقتصاد العالمي على تقسيم العالم إلى شمال وجنوب، مراكز مُنتجة للتكنولوجيا، وأطراف مستهلكة لها، وبذلك أحكم الشمال (المركز) قبضته على الجنوب (الأطراف) كي يبقى الأخير فقيراً. يرى سمير أن ما يجري في العالم ليس فقراً، وإنما هو إفقار، فالبشرية اكتشفت وابتكرت ما يلزم لحلّ المشكلة التاريخية للفقر العالمي، إنها بمعنى آخر تستطيع أن تُطعم الجميع اليوم. وكانت إنتاجاته الفكرية تدور دائماً حول مفهوم التنمية، التنمية المُستقلّة في الجنوب بعيداً عن ابتزاز الشمال ورغبته في إبقاء الأول مُجرّد أسواق لمُنتجاته.
من نافذة الأدب، كان حنا مينا المتأمّل المتربّص لتفاصيل العيش في الشرق، وكان يرى في نمط العيش هذا شكلاً من أشكال النمو المستقلّ، والحصانة من موجات تشويه المجتمع القادمة من الشمال، فحب الصياد الهارب في "الياطر" لا يشبه قصص الغرام الأميركية العابرة، إنما هو الحب على طريقة وذائقة إبن الساحل السوري. إن تنمية الجنوب التي تحدّث عنها سمير أمين في أدبيّاته تفرض شكلاً من أشكال المواجهة، فُرِضت على "مفيد الوحش" في طفولته أثناء عراكه مع المُستعمِر الفرنسي، والتي أودت به إلى السجن، وأعادت تشكيل شخصيته إبان خروجه منه. إن فائض الكرامة في شخصية "الرجل الشجاع" هو بالضبط مفهوم التنمية عند سمير أمين.
لا يمكن لمدينةٍ مثل دبيّ أن تفتن سمير اقتصادياً، فيعلّق عليها في كتابه "اشتراكية القرن الحادي والعشرين"، إنها لن تتألّق بعد النفط، فهي لا تخترع التكنولوجيا، ولا تسيطر على المنظومات الإنتاجية التي تُصاحبها حقوق الملكية الفكرية والصناعية، ولا تسيطر على أنماط التمويل، ولا تمتلك القدرة على الوصول إلى الموارد الطبيعية في الكوكب، ولا تتحصّن عسكرياً بشكلٍ مستقل. وفي الجانب الآخر فدبيّ لا تحتمل وصيّة حنا، كيف لها أن تحتمل إغراءات إذاعة خبر فريد، يجلب عدداً كبيراً من المشاركات والمشاهدات مثل وفاته؟ كيف للمدينة الصاخبة أن تفهم صمت المُتأمّل وتلتفت للتفاصيل الصغيرة، تفاصيل العيش السوري التي لا تشبه تفاصيل المدن المُكتظّة والسريعة؟ إن الاقتصاد والثقافة في دبيّ يكثّفان موقف الرجلين من العولمة الرأسمالية وآليات التعامل معها، فاقتصادها لا يمثل التنمية التي يحلم بها سمير لدول الأطراف، وثقافتها أكثر صخباً وفوضى من هدوء حنا وتأمّلاته، وأكثر تشوّهاً واغتراباً عن نمط العيش في الشرق.
أسّس سمير أمين مركزه باسم البدائل، باعتبار أن البديل الاشتراكي لم يجرّب بعد، وسبب المصائب التي تتعرّض لها البشرية هو النظام القائم (الرأسمالية)، ولا سبيل للوصول إلى الاشتراكية العالمية إلا في تنمية الجنوب، في حين يرى حنا مينا إننا لسنا بحاجة لبديلٍ يحمله الغرب الرأسمالي فيُعلّمنا العيش على هواه، وعلى طريقته، ليحدث فينا انفصاماً أعمق مما جرى مع "ديميتريو" في مأساته...
سمير وحنا نافذتان واقعيتان على مواجهة العولمة الرأسمالية؛ عنوانهما التنمية الاقتصادية المستقلة ونمَط العيش المُستقلّ، وكان دافع الاستقلال هذا المُحرّك لإنتاجهما، أدباً أو فكراً اقتصادياً.