Menu

تاريخ النضال

بخصوص حق التصويت: اشكروا الاشتراكيين

ترجمة وتحرير: أحمد.م.جابر

الانتخابات المسروقة، والبنية التحتية التصويتية المتداعية، وقوانين الهوية، تلك كانت عناوين الصحافة المأخوذة من حملة ترامب الانتخابية، وقد تبدو الهجمات الأخيرة على حقوق التصويت في الولايات المتحدة وكأنها ثمرة للحزبية المحضة، أي أنها ناتجة عن يأس في الممارسة الحزبية ما يجعل الحزب يستخدم أي وسيلة ضرورية للاحتفاظ بالسلطة السياسية، ولكن المحاولات الوقحة  للحزب الجمهوري لتقييد حق التصويت (خاصة للأمريكيين من أصل أفريقي) ربما يجب ملاحظتها باعتبارها أعراضًا لمرضٍ مزمن طالما عانت منه الطبقة الحاكمة: معارضة متأصلة ومتناقضة للديمقراطية، بما في ذلك أبسط أشكالها: حق التصويت.

في الحقيقة لم تكن اتهامات ترامب وهجماته على النظام الانتخابي أثناء حملته للفوز بالرئاسة شيئًا جديدًا في تقاليد اليمين الأمريكي رغم أنها وصفت بأنها هجمات غير مسبوقة، فمنذ بداية عهد المحافظين الجدد شن اليمين حربًا شعواء على الديمقراطية الانتخابية من خلال الزعم بأن الناخبين الفقراء (وخاصة السود والملونين)، الذين شجعهم الحزب الديمقراطي والنشطاء على مستوى القاعدة الشعبية، يتآمرون عامًا بعد عام لانتزاع الانتخابات من المنتخبين الجمهوريين- المترجم].

منذ ظهور الدولة الحديثة، حاولت الطبقات الحاكمة كبح جماح قوة التصويت للعمال وأولئك الذين ليسوا "مولودون جيدًا"، وخلافاً للقصة السائدة، فإن الرأسمالية لا تؤدي بطبيعة الحال إلى الديمقراطية، وقد حدت المؤسسة الحاكمة في أوربا من حق التصويت في القرن التاسع عشر، وفقط عندما احتاجوا لتعبئة الجماهير من أجل الحرب التي قضت على الذكور من الطبقة العاملة بشكل جماعي، واحتاجوا لزج النساء لتعبئة الفراغ، حينها فقط اضطروا للتراجع عن حجب التصويت والتخلي عن الامتياز.

طبعًا تختلف التفاصيل ما بين بلد أوربي وآخر نتيجة الفروق الفردية متعددة المستويات بين هذه البلدان، ففي بعض الدول فاز العمال بعد صراعات مريرة بأشكال محدودة من الاقتراع العام للذكور فقط قبل الحرب العالمية الأولى ولكن حقوق التصويت بشكلها الأكثر اتساعا لم تظهر إلا بعد الحرب.

لكن ما كان ثابتًا في هذه االتغيرات هو الجهات الفاعلة التي تدفع باتجاه حق الاقتراع العام: النقابات العمالية، والأطراف الاشتراكية بشكلٍ حاسم، وفي الواقع، ما أطلق عليه "الاختراق الديمقراطي" في القرن التاسع عشر يمكن بسهولة تسميته "الاختراق الاشتراكي".

بلجيكا

في العاشر من آب/ أغسطس عام 1890، خرج خمسة وسبعون ألف رجل وإمرأة إلى الشوارع، وكانت بلجيكا مثلها مثل كل الدول "الديمقراطية" في ذلك الوقت قد منحت حق التصويت فقط لأصحاب الأملاك الذكور وتم إبعاد العمال بالكامل عن الحياة السياسية للبلاد، وعلى مدى 25 عامًا بعد تلك المظاهرات يتغير الوضع، ولكن ليس قبل أن تجتاح الإضرابات العامة البلاد ثم تأتي الحرب العالمية الأولى التي مزقتها وحولتها إلى أشلاء.

في عام 1890، عام الإضراب العام الأول، كانت النخب الحاكمة قلقة من أن منح التصويت للطبقة العاملة من شأنه أن يمنح الحركة الاشتراكية الصاعدة كتيبة ضاربة لضرب قلعتها الأوتوقراطية، وعلى الرغم من تأسيسه قبل خمس سنوات فقط، فإن حزب  Ourrierكان ينمو بإطراد، حيث دمج العمال معًا في كتلة سياسية قوية ومتماسكة، وأمل قادة الأحزاب أن يتمكنوا من متابعة مسار إصلاحي صبور، وربح نقابة عمالية، وحق التصويت دون اللجوء إلى استراتيجية ثورية للإضرابات الجماهيرية.

كان حزب العمال البلجيكي أول حزب اشتراكي كبير في بلجيكا، [تأسس في عام 1885، وتم حل الحزب رسميًا في عام 1940 وحل محله الحزب الاشتراكي البلجيكي في عام 1945- المترجم] مثل أحزابه الشقيقة في الأممية الثانية [تأسست الأممية الثانية في 14 تموز/ يوليو عام 1889 كوريث لرابطة عمال ماركس الدولية التي انحلت قبل مائة عام إثر فشل كومونة باريس، وكان حلها بسبب خلافات فئوية بين الاشتراكيين والأناركيين، و خلال ربع القرن التالي، حرم الاشتراكيون من أعلى أشكال التنظيم، ولكن في يوم الباستيل، عام 1889، بعد مائة عام من الثورة الفرنسية، أعاد قادة العمال تجديد العمل الدولي من خلال ممثلين من أربع وعشرين دولة شاركوا في المؤتمر الافتتاحي للأممية الثانية – المترجم].

لكن عناد الواقع - القوى التي تمنع الإجراءات المؤيدة للعامل بشكل حازم في البرلمان - ونضال العمال أجبروا قادة الحزب على الاعتراف بأن إجراء أكثر راديكالية أصبح  أمرا ضروريا.

في عام 1893، ومتابعة للعمل الجماهيري الذي اندلع قبل ثلاث سنوات، أعلن مجلس العمال إضرابا عاما و اندلعت مظاهرات حاشدة في مدن متعددة، وقام عمال التعدين بقطع خطوط التلغراف والهاتف، وطارد الجنود قادة الأحزاب عبر الشوارع بحراب مشهرة، ورمت النساء الشرطة بالحجارة وقطع الفخار من وراء المتاريس التي بناها عمال المناجم.

توقفت إجراءات العمل المشدد وألغيت القيود على الممتلكات، ووجهت الدعوة إلى قادة حزب "أوفيريه"، بما في ذلك عامل رخام يدعى "لويس برتراند" ساعد في تأسيس الحزب إلى البرلمان.

لكن التقدم لن يحدث في خط مستقيم، فقد تسببت الانتخابات التي جرت في العام التالي بصدمة عبر أوربا حيث تم انتخاب عشرات النواب الاشتراكيين للبرلمان وليس العدد المتوقع والمأمول من الطبقة الحاكمة، وانخرط الحزب في العمل وصاغ قوانين دعم النقابات ووضع تأمين العجز ومعاشات التقاعد ودفعت النخب الحاكمة، بقانون التصويت (التعددي) بعد أن أدركت إنها تخسر هذا القانون أعطى وزناً إضافياً للمواطنين الذين يعيشون في معاقل للحزب الكاثوليكي المحافظ. ورغم اعتراضات قادة الأحزاب استمر العمال بالضغط، وعندما حاولت الحكومة تعميق عدم المساواة في حقوق التصويت أعلنت الحركة الاشتراكية مرة أخرى إضرابا عاما في عام 1902، وهذه المرة نزل أكثر من 300 ألف إلى الشوارع.

استمر الاندفاع في مسيرة ملتوية في السنوات اللاحقة، وقد عززت الأحزاب الكاثوليكية، التي لا تزال مدعومة بالتصويت التعددي، أغلبيتها في عام 1912، وهاجمت حق الاقتراع العام الكامل في الهيئة التشريعية في العام التالي، وما زال الزعماء الاشتراكيون يحاولون تحقيق التوازن بين السياسة المتنافسة لعمال المناجم الريفيين والسياسيين الديمقراطيين الاجتماعيين في المناطق الحضرية، وظلوا يأملون دائما أن حق الاقتراع العام سيسن في العام القادم.

بدلاً من ذلك، جلب عام 1913 إضرابًا عامًا آخر - وهو الأكبر في تاريخ أوروبا الغربية، حيث تم إنشاء صناديق إضراب عن طريق نظام من القسائم، وتم تنظيم التعاونيات ورعاية الأطفال، ونشرت صحيفة Le Peuple (الشعب اليومية) الاشتراكية وصفات للشيوعيين لطهي الطعام في المطابخ العامة، وجذبت المعارض الفنية، وزيارات المتاحف، والمشي لمسافات طويلة في الريف أسر الطبقة العاملة لتتحد معا، ولم توفر الراحة فحسب، بل التغذية أيضاً.

ولكن الإضراب لم يحقق هدفه بالاقتراع العام الكامل والمتكافئ و فقط بعد الحرب العالمية الأولى، في عام 1919، سقط التصويت التعددي، ولكن كان على  النساء الانتظار حتى عام 1948.

ومع ذلك، فإن تلك المعارك المبكرة من أجل هذا الامتياز كان لها تأثير هائل على وعي الاشتراكيين الآخرين في جميع أنحاء القارة - وهو ما قالته روزا لوكسمبورغ، وهو الجزء الأول من كتاب "Ouvrier" ، والذي ألهم العالم الدولي بأكمله "ليتكلم بلجيكي".

الإمبراطورية الروسية

خلال الإضراب العام في بلجيكا عام 1902، كانت مدينة لوفان موقعًا لمذبحة مخيفة: قتل اثني عشر عامل بشكل غير متوقع بعد أن فتح ضباط الدولة النار عليهم.

أبعد إلى الشرق، أثار القتل الجماعي الذي تقوده الحكومة إضراباً عاماً مهماً في تهيئة مقدمات الثورة الروسية عام 1905، حيث كان الليبراليون والتقدميون قد نجحوا عام 1904 في الضغط من أجل بعض حقوق العمال ولإلغاء الرقابة، وتوسيع الحكومة التمثيلية المحلية، بينما كانت الإمبراطورية الروسية ما تزال تفتقر إلى برلمان اتحادي، وفي يناير 1905، اندلعت الاضرابات في مدن متعددة، وبلغت ذروتها في مسيرة سلمية في سان بطرسبرج مشى فيها الرجال والنساء والأطفال، وأنشدوا الترانيم وطالبوا ببرلمان منتخب، وردت القوات الحكومية بالنار قبل أن يصل المتظاهرون إلى قصر الشتاء ما أسفر عن مقتل أكثر من ألف شخص وسمي ذلك اليوم "الأحد الدامي".

تم وقف العروض المسرحية بشكل عفوي، و قام الآلاف من الطلاب والمهنيين بالتضامن مع العمال وحتى نادي التجار، الذي لا يمكن أن يكون معقلا للإعراض منع حراسه من الدخول لتورطهم في المجزرة.

في غضون أسبوعين، كان نصف العمال الروس الأوروبيين و 93 في المائة من جميع العمال في بولندا التي تحتلها روسيا قد أضربوا عن العمل و في لودز، احتجز المضربون حاكم المقاطعة رهينة في أحد الفنادق وتوقفت شبكة السكك الحديدية عن العمل في جميع أنحاء الامبراطورية.

كانت الثورة تحوم في الهواء وخلال أشهر قليلة سيقام أول احتفال مفتوح في البلاد بمناسبة عيد العمال والتمرد على متن المدمرة بوتيمكين عام 1905  قبالة شواطئ أوديسا التي خلدها المخرج وصانع الأفلام الأسطوري سيرغي آيزنشتاين. وبحلول نهاية تشرين الأول/ أكتوبر، وقّع القيصر على مضض على البيان الذي أسّس الدوما – البرلمان الروسي- ومدد الامتياز لحق الاقتراع العام  ليشمل جميع الذكور.

في أماكن أخرى في الإمبراطورية الروسية، كانت الإجراءات الجذرية للتصويت ذات مدى أوسع بكثير، حيث لم يؤد إضراب عام في فنلندا في عام 1905 إلى تبني حق الاقتراع العام للذكور ونظام برلماني مكوّن من مجلس واحد فحسب، بل وأيضاً منح المرأة حق التصويت والترشح للانتخابات، وهي أول دولة في أوروبا تقوم بذلك. على مدى العقد القادم، سيستخدم عمال البلد هذه الحقوق الموسعة  - حيث قبل الإضراب كان  8 في المائة فقط من السكان يمكنهم التصويت - للضغط من أجل إصلاحات ثورية على نحو متزايد.

السويد

عادة يتخيل الليبرالي الأمريكي السويد كدولة أوتوقراطية اجتماعية، وفي الواقع إن تاريخ الحركة العمالية السويدية هو دليل على عزيمة الطبقة الحاكمة في البلاد - بما في ذلك مقاومتها المتشددة لحقوق التصويت.

كان الحزب الديمقراطي الاجتماعي السويدي (SAP)، هو  التعبير السياسي عن الحركة العمالية في هذا البلد، وقد تشكل  في عام 1889 وسط زيادة في تنظيم العمال واتساع الحركة العمالية، وكما هو الحال في أي مكان آخر، كان الأشخاص الذين ليس لديهم أي ممتلكات يعتد بها محرومون من الحقوق السياسية الأساسية، و كان هدف الحركة الاشتراكية السويدية هو الفوز أولاً بالديمقراطية السياسية.

في عام 1902، اجتاح إضراب عام لمدة يومين من أجل الاقتراع العام كقنبلة تحذيرية ضد الحكومة اليمينية المتشددة بدعوة من الأحزاب السياسية، ولم يكن القصد منه أبداً أن يدوم أكثر من يومين، وقد ترك الإضراب انطباعًا قويًا على الحكومة بسبب مستوى الدعم المثير للإعجاب الذي حفل به، ومع ذلك افتقر الإضراب إلى المشاركة الحاسمة للنقابات العمالية.

حدث هذا أيضا جزئياً مع الإضراب العام في عام 1909، والذي استمر لمدة شهر، وضم ما يقرب من نصف مليون عامل، وكان الهدف الأولي هو مكافحة عمليات طرد العمال وتجميد الأجور، لكن كما أشار رئيس عمال النقل، تشارلز ليندلي: "في ذلك الوقت كان هناك إيمان غير محدود تقريباً بالإضراب العام باعتباره الوسيلة الحاسمة للحصول على حق الاقتراع العام"، و كان الإضراب المستوحى من الموضع الاقتصادي يعكس بشكل متزايد التطلعات السياسية الديمقراطية للعمال.

أغلق الإضراب جميع صناعات التصدير الأساسية في البلاد، وحاول العمال تعميمه أكثر، ورد أصحاب العمل بتكتيك معياري: استيراد مرتزقة من الخارج، لمهاجمة العمال، وفي إحدى الحالات، نظم ثلاثة عمال سويديين عاطلين عن العمل بشكل مستقل خطة لتفجير سفينة كانت تضم ضباطاً مهاجمين قادمين من بريطانيا العظمى.

ومع تحول الأيام إلى أسابيع، اضطر قادة الإضراب إلى التراجع، وكان معهم القليل من المال لتغطية الإضراب مع حالة ركود اقتصادي، عطلت الإغاثة، وعندما انضم عمال الطباعة قام الليبراليون بتشغيل المرتزقة، وعانت عائلات العمال بشكل كبير مع الحرمان المتزايد، و كانت جمعية أصحاب العمل السويدية في وضع القادر في نهاية المطاف على إملاء الشروط، وهذا ما فعلته بالضبط.

لكن في حين أن الإضراب كان يعتبر نكسة في نواح كثيرة، إلا أنه عرف عالميا على أنه اليوم الذي يشكل أساس إرساء الديمقراطية في المجتمع السويدي، وفي وقت لاحق من ذلك العام، حصل جميع الرجال في البلاد، بغض النظر عن ممتلكاتهم، على حق التصويت في غرفة واحدة على الأقل من الحكومة الفيدرالية، والديمقراطية السياسية الكاملة التي كانت بعيدة أصبحت الآن في الأفق.

ألمانيا

كان ما يقرب من ثلثي ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر يقع ضمن مملكة بروسيا التي تمكنت من توحيد الولايات الألمانية عام 1871، وعلى الرغم من أنه تم تمرير الحق العام في التصويت والمساواة في ذلك  العام والحق السري في التصويت لجميع الذكور فوق سن العشرين، إلا  أن بروسيا حافظت على نظام يعود إلى عام 1849، يقسم الناخبين إلى ثلاث فئات على أساس شريحة الضرائب الخاصة بهم.

[ممملكة بروسيا مملكة ألمانية تواجدت منذ عام 1701 -1918 وضمت أجزاء من ألمانيا الحالية وبولندا وروسيا وليتوانيا والدنمارك وبلجيكا وجمهورية التشيك. وكانت القوة الداعمة لحركة توحيد ألمانيا التي قادها بسمارك عام 1871 والدولة الرائدة في الامبراطورية الألمانية حتى انهيارها في عام  1918- المترجم].

هذا الترتيب مع عدم التكافؤ هو ما دفع الزعيم الاشتراكي الأسبق فيلهيلم ليبكنخت لأن يصف الرايخستاغ باسم "ورقة التين المطلقة"، إذ أنه خلق حالة، حيث احتفظ 4٪ من الطبقة الأولى بقوة انتخابية أكثر من ناخبي الطبقة الثالثة الذين شكّلوا 82٪ من المؤهلين، وكان هناك أمر آخر غير ديمقراطي ضد سلطة العمال: فالغرفة العليا، الرايخسرات، يمكن أن تمنع أي تغييرات دستورية يقر بها الممثلون المنتخبون بشكل مباشر في الرايخستاغ. وكان الرايخ الثاني حسب ما وصفها ماركس "الاستبداد العسكري تحت حراسة الشرطة، منمق مع أشكال البرلمانية".

[كان الرايخ هو الاسم الرسمي لألمانيا من 1871-1945 ويعني  "الإمبراطورية الألمانية، ويقسم إلى ثلاث فترات: الرايخ الأول استمر من 1871 ولم تكن ألمانيا قد اكتملت، فيما ابتدأ الرايخ الثاني عندما استطاع بسمارك توحيد ألمانيا حول بروسيا عام 1890 واستمر حتى عهد جمهورية فايمار عام 1918 وبعدها بنى هتلر الرايخ الثالث على أنقاضها –المترجم]

رغم الظروف المعاكسة ازدهر الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني(SPD) ، وكان أكبر حزب اشتراكي في القارة، الحزب الدولي الثاني بامتياز وأعلن برنامج إرفورت الذي تم التصديق عليه عام 1891، أن: "نضال الطبقة العاملة ضد الاستغلال الرأسمالي هو بالضرورة صراع سياسي، لا يمكن للطبقة العاملة أن تربح كفاحها الاقتصادي ولا تستطيع أن تطور تنظيمها الاقتصادي بدون حقوق سياسية". وفي قمة مطالب الحزب: "حقوق التصويت الشاملة والمتكافئة والمباشرة عبر التصويت السري لجميع المواطنين فوق سن العشرين، بغض النظر عن الجنس".

لم تكن الطبقة الحاكمة سعيدة بعد أن تطورت حركة الإضراب لتعم البلاد وأصر أصحاب الأعمال على أن يقوم القيصر بإلغاء حق التصويت لجميع المنتمين إلى الديمقراطية الاجتماعية، وأن يحد بشكل قانوني من الإضرابات، وقال القيصر الذي لم تكن تنقصه الفصاحة الخطابية الاستبدادية أمام مجموعة من المجندين الجدد في لوتسدام في تشرين ثاني/ نوفمر 1891: "قد تؤدي المكائد الاشتراكية الحالية إلى أن أطلب منكم إطلاق النار على أقاربكم وإخوتكم وحتى والديكم، وحتى ذلك الحين عليكم اتباع أوامري يدون تذمر". ولكن رغم التحريض وبفعل التنظيم والدعاية القوية أصبح  الحزب الديمقراطي الاشتراكي أكبر حزب في البرلمان البروسي بحلول عام 1908. وقد قادوا مظاهرات جماعية متكررة من أجل حق الاقتراع الكامل، والتي قوبلت بقمع وحشي حكومي.

وعشية الحرب العالمية الأولى، كانت حقوق الاقتراع لا تزال محصورة في النخب المالكة، ولكن نظرا لجهودهم تم الاعتراف بحق الحزب الديمقراطي الاشتراكي بأنه أكثر القوى ديمقراطية باستمرار في ألمانيا ما قبل الحرب.

بريطانيا العظمى

من بين جميع الدول الأوروبية في الأممية الثانية، كان لدى بريطانيا العظمى نظام حرمان جماعي عميق الجذور في النظام السياسي للبلاد، وفي بداية القرن التاسع عشر، نتيجة نظام انتخابي ساده الغش الشديد، استطاع 4٪ فقط من السكان التصويت و في منتصف القرن، قوبلت مظاهرات مؤيدة للاقتراع قادها الشارتيين – أول حركة عمالية جماهيرية في التاريخ الأوروبي - بكراهية الطبقة الحاكمة، و في أواخر عام 1884، ظل الوصول إلى التصويت غير متساوٍ بين المدن والريف، وبعد أن غيرت الإصلاحات تلك العوائق غير الديمقراطية، كان على الناخبين المؤهلين أن يقدموا دفعة أساسية  للتأهل.

[ الحركة الشارتية: الميثاقيين، تعتبر الجمعية الشارتية عام 1840 أول حزب عمالي أنشئ في العالم على الإجمال، وكانت أهدافه: "التغلب جذرياً على النظام السياسي الرجعي المتخلف" وإلى جانب هذا الهدف، فقد وضعت نصب عينيها النضال في سبيل حق " الانتخاب"، واعتبرت ذلك شرطاً مهما في نضالها، واعتقدت الحركة إنه لا يمكن تحقيق أي تقدم، إلا إذا شاركت أكثرية الجماهير في الانتخابات. نشأت الشارتية كان في "جمعية عمال لندن" التي تأسست عام 1836م، وكان أحد تلامذة روبرت اوين المسمى (وليم لوفيت) قد أسسها ونشر برنامجها عام 1836م بشكل علني – المترجم]

ببساطة، لم يكن باستطاعة الطبقة الحاكمة أن تقبل الموافقة على إجراء اعتقدوا أنه يمنح "الرعاع"  السلطة السياسية: الاقتراع العام، في تقدير رجل الدولة البريطاني توماس باينغتون ماكولاي فإن حق الاقتراع العام كان "غير متوافق مع الملكية" وبالتالي "لايتوافق مع الحضارة نفسها".

واجه ماكولاي الطبقة العاملة وحركتها المزدهرة، حزب العمل، الملتزم بشدة بالتصويت العام، قد تحرك من أجل الديمقراطية السياسية وتمكن من انتزاع بعض التنازلات قبل الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1911، ضغطوا من أجل إنهاء حق النقض الذي أصدره مجلس اللوردات حول التشريع.

أخيرا، في أعقاب الحرب العالمية الأولى تم إقرار حق الاقتراع العام للذكور، وفازت النساء بالتصويت في عام 1928. والنظام النظام السياسي الذي أدى، حسب تعبير لينين ، إلى حبس الجماهير العاملة في "نظام مدرّج جيدًا من الإطراء والأكاذيب والغش"، كان قد تم كسره.

المقاتلون من أجل الديمقراطية

أبدت الأحزاب الاشتراكية المبكرة التزامًا لا يلين بالاقتراع العام - وهو التزام لا يضاهيه سوى تفانيهم الأخلاقي والعملي في هذا السبيل، فمن ناحية، كانوا عازمين على قلب هياكل الهيمنة وعدم المساواة أينما وجدت، وفي المجال السياسي، كان العاملون تابعين، خاضعين لقرارات المسؤولين الذين لم يكن لهم يد في اختيارهم.

على مستوى عملي أكثر، أقر الاشتراكيون الأوائل بقوة الاقتراع وانضم كفاحهم من أجل حق الاقتراع العام إلى النضالات السياسية والاقتصادية، مما حول الأصوات إلى هدف للتكتيكات الراديكالية والارتقاء الثوري، فقد أدركت الفصائل المختلفة أن السعي وراء أداة (التصويت) يعني حيازة ما يمكن أن يستخدمه العمال كجزء من الصراع الطبقي الأوسع، كان هدفهم هو خلق "ديمقراطية حقيقية من القاعدة إلى القمة" حسب ماركس.

واليوم، وسط معارك في الولايات المتحدة للحفاظ على الوظائف الأساسية لنظام التصويت الديمقراطي، يجب ألا ينسى الاشتراكيون دورهم التاريخي في النضال من أجل الديمقراطية السياسية فالكثير حتى من العناصر الديمقراطية الليبرالية جاءت بفضل المعارك التي خاضها الاشتراكيون ضد البقايا الإقطاعية للنظام القديم والأوليغاركية الرأسمالية الجديدة.

يكاد الحق العالمي في التصويت، الذي لا يكاد يبلغ قرنًا من الزمان - ولا ينطبق إلا على الذكور المنحدرين من أصل أوروبي – أن يكون رضيعًا في حاجة إلى الحذر الشديد في التعامل معه والاعتناء به، و تكشف الظلال الحالية لجيم كرو [ هذه استعارة، حيث قوانين جيم كرو هي قوانين الدولة والقوانين المحلية التي تفرض الفصل العنصري في جنوب الولايات المتحدة. تم تفعيلها جميعًا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بواسطة الهيئات التشريعية الحكومية التي يسيطر عليها الديمقراطيون بعد فترة إعادة الإعمار. تم تنفيذ القوانين حتى عام 1965- المترجم]  سواء في جورجيا أو داكوتاس، عن التهديدات المستمرة لوجودها، فضلاً عن سلالة القلة غير الديمقراطية التي تمارس نفوذًا قويًا في الجمهورية الأمريكية ولم تقبل بعد حق الاقتراع العام.

يجب أن نرفض التصريحات الراديكالية التي ترفض التصويت باعتبارها غير ذات معنى، بل تخلط المعركة من أجل الاقتراع العام مع النضال من أجل الاشتراكية والديمقراطية الراديكالية، كان التصويت بمثابة غزو تاريخي للطبقة العاملة، ويظل " الحجر الورقي" في أيدي المحرومين  [الحجر الورقي هنا، استعارة أخرى من عنوان كتاب لآدم بروزوسكي وجون سبراغ بعنوان الحجارة الورقية: تاريخ الاشتراكية الانتخابية – المترجم].

*نشرت هذه المقالة في 21 /12/2018  تحت عنوان Like Voting Rights? Thank a Socialust والمؤلف هو: آدم جي ساكس، دكتوراة في التاريخ.

المصدر:  https://jacobinmag.co