يحرص الكثير من الأولياء على التخطيط والتحضير قبل فترة طويلة من الإجازات والعطل المدرسية، حتى لا يشعر أطفالهم بالملل والفراغ. وكلما امتلأ برنامجهم اليومي، بين النزهة واللعب ومشاهدة الأفلام الجديدة والسفر والسباحة وغيرها.. يشعر الوالدان أنهما نجحا فعلا في تطوير مهارات الأبناء وشغل أوقاتهم بما يفيدهم ويسعدهم. لكن العلماء يرون عكس ذلك تماما ويعتبرون البرنامج الثري بالأنشطة يمنع أي فرصة أمام الطفل للاعتماد على مخيلته وأفكاره الخاصة.
تقول كلير لوكنت، الخبيرة في علم النفس التربوي، “نحن نعيش في مجتمع حيث يجب عليك دائما أن تكون مشغولا لإثبات أنك في أحسن حال”.
ووفق تقرير نشرته صحيفة لوفيغارو الفرنسية، زارت لوكنت إحدى دور الحضانة وطلبت من الأطفال أن يخبروها إن كان لديهم جهاز تلفزيون في غرفهم، ليتبين أن ثلث الأطفال دون الخامسة يملكون جهازًا.
أوضحت لوكونت أن الطفل يتعلم، بداية، عبر تقليد الكلمات والتصرفات ثم يتطور دماغه، شيئا فشيئا، بالانتباه إلى تفاصيل محيطه والعالم الخارجي، لذلك فإن إجهاده بكم هائل من الأنشطة المختلفة لا يترك له مجالا كبيرا لملاحظ تفاصيل ما يدور حوله.
وأورد التقرير أن الطفل الذي تعوّد أن يكون وحيدا سيجد دائما طريقة ما للرعاية بنفسه وملء وقت فراغه بما يناسبه. ويوصي الخبراء بتقاسم بعض الوقت مع الأبناء للنقاش ومراقبة العالم الخارجي والحديقة والزهور، مع تجنب تركهم يشاهدون التلفزيون لساعات طويلة، كل يوم، لما لذلك من أضرار على تطور مهاراتهم ونمو أدمغتهم.
وهو ما توصلت إليه نتائج دراسة كندية، أجريت خلال الثمانينات، لبحث معدلات الإبداع بين الأطفال. وتمت مقارنة 3 مدن كندية؛ إحداها تحتوي على 4 قنوات محلية، والثانية تحوي قناة محلية واحدة، والثالثة لم يدخلها البث التلفزيوني بعد. ووجد الباحثون أن أطفال المدينة الثالثة يتمتعون بمهارات تفكير أفضل وقدرات خيالية أعلى من أطفال المدينتين الأخريين.
كما قالت مختصة في علم نفس الطفل في لندن، لين فراي، إن “دور الآباء يتجسد في إعداد أطفالهم ليأخذوا مكانهم في المجتمع. وفي المستقبل، عندما يصبح هؤلاء الأطفال أشخاصا بالغين، من المفترض أن يشغلوا أنفسهم ويملؤوا أوقات فراغهم بالطريقة التي تسعدهم. لكن إذا ما بادر الوالدان إلى القيام بهذا الأمر بالنيابة عن أطفالهم فإنهم لن يتعلموا القيام بذلك أبدا”.
وأوضحت تيريزا بلتون وهي أستاذة زائرة في جامعة إيست أنجليا البريطانية بأن الملل يعتبر عاملا مهما في تنمية “التحفيز الداخلي” لدى الطفل، ما من شأنه أن يتيح المجال للإبداع الحقيقي.
وعلى الرغم من أن قدرتنا على الشعور بالملل قد تضاءلت في ظل كل ما توفره شبكة الإنترنت من مغريات، إلا أن الخبراء ناقشوا لعقود عديدة أهمية أوقات الفراغ، حيث ذكر المحلل النفسي آدم فيليبس في كتابه، “التقبيل والدغدغة والشعور بالملل: مقالات التحليل النفسي حول الحياة غير المكتشفة”، أن القدرة على الشعور بالملل قد تكون إنجازا تنمويا للطفل. وأفاد فيليبس أيضا أن الملل يجسد فرصة لممارسة التأمل في الحياة عوض التسرع والاندفاع فيها.
كما أضاف المحلل النفسي أن مطالبة الطفل بالتركيز على القيام بشيء واحد تعتبر أحد أكثر أنواع القمع التي يمكن أن يمارسها الوالدان على الطفل، لأنه بدلا من ذلك، ينبغي عليهما فسح المجال له ليستغرق الوقت الكافي للعثور على ما يثير اهتمامه. وأشار فيليبس إلى أن الملل يمثل جزءا لا يتجزأ من استغراق الوقت لاكتشاف الذات.
وتقترح فراي أن يقوم الوالدان في بداية العطلة الصيفية بمشاركة أطفالهم، على الأقل أولئك الذين تفوق أعمارهم الرابعة، تدوين قائمة الأمور التي قد ترفه عنهم خلال العطلة. وقد تشمل هذه القائمة الأنشطة الأساسية مثل لعب الورق، ومطالعة الكتب، وركوب الدراجات. علاوة على ذلك، يمكن إضافة أفكار منمقة أكثر مثل طبخ عشاء فاخر، أو أداء دور مسرحي، أو ممارسة التصوير الفوتوغرافي.
وفي السياق ذاته، أفادت فراي أنه في حال أبدى الأطفال تذمرا بشأن شعورهم بالملل، ينبغي على الوالدين أن يطلبوا منهم التحقق من القائمة التي سبق تدوينها. وبينت أن من شأن هذه العملية أن تحمّل الطفل مسؤولية اختيار اهتماماته. وفي حين يزداد احتمال شعور الأطفال بالملل والضجر، من المهم أن يدرك الآباء أن هذا لا يعتبر مضيعة للوقت.
وقالت فراي “الشعور بالملل لا يعد مشكلة، ولا يعتبر ذنبا أيضا. أعتقد أن الأطفال في حاجة إلى تعلم كيفية الشعور بالملل بهدف تحفيز أنفسهم للقيام بأمر ما، فالشعور بالملل يمثل وسيلة لتلقين الأطفال كيفية الاعتماد على النفس”.
ويعرض الخبير كيم جون باين، صاحب كتاب “سمبليسيتي بارنتينغ” مجموعة من النصائح لمساعدة الأولياء على الفهم الصحيح لفوائد الملل لدى الأطفال.
ويفسر باين أن معظم الأهالي يعتقدون أن عليهم توفير مشاريع كثيرة وبرامج لأطفالهم حتى لا يشعروا بالملل. غير أن الدراسات العلمية تشير إلى أن هذا الشعور مفيد وله دور كبير في تطوير قدراتهم الذاتية وفي تحديد أولوياتهم وخياراتهم واهتماماتهم وقدرتهم على الصمود والتأقلم.
ولتحقيق ذلك، يحثّ الباحث باين على غلق شاشات التلفزيون التي تغرق الأطفال بالمعلومات، والتكلم بمقدار أقلّ لأن الكلام يحدّ مساحة التفكير عند الطفل.
ويقول عالم النفس، نورمان دويدج، خلال الفيلم الوثائقي “ذو براين ذات تشاينج ايتسلف” (كيف يطور الدماغ من بنيته وأدائه)، “بقاء الدماغ مشلولًا في نفس المحيط يسرع من ضموره ولضمان مرونة أنظمة الانتباه داخل أدمغتنا، المطلوب هو التنوع والتحفيز من أجل خلق وتكوين خلايا عصبية جديدة”.
كما أشار فريق من علماء الأعصاب في دراسة بجامعة هارفارد إلى أنه بإشغال العقل بشيء ما، مثل العمل وتصفح الإنترنت وأعمال المنزل وما إلى ذلك، فإن ما يحدث هو أن يكون الجسد في ما يطلق عليه اسم “الوضع الآلي”. لكن بمجرد الشعور بالملل تعود شبكة الأعصاب الموجودة بالدماغ إلى العمل.
واعتمدت الدراسة على صور مغناطيسية توضح نشاط الدماغ أثناء الشعور بالملل، واتضح أنه يساوي تقريبًا نفس النشاط أثناء القيام بأي نشاط آخر بفارق 5 بالمئة فقط.
وأظهرت النتائج أيضًا أن هناك نشاطًا كبيرًا في مناطق مسؤولة عن استدعاء الذاكرة الشخصية للفرد ومراجعة أفكار ومشاعر الآخرين واستحضار أحداث افتراضية وإنشاء التخيلات.
وعند الشروع في إنشاء التخيلات وأحلام اليقظة، يتم تحفيز اللاوعي، الأمر الذي يسمح بحدوث نوع مختلف من الارتباطات بين الأفكار المختلفة، التي تحل أصعب المشكلات.
وتولى باحثون من جامعة كاليفورنيا الجنوبية دراسة مجموعة من المراهقين المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي خلال أحاديثهم مع أصدقائهم أو أداء واجباتهم المنزلية لمدة سنتين، واكتشفوا أنهم كانوا أقل إبداعًا وخيالًا حول مستقبلهم.
المصدر "جريدة العرب"