Menu

رحلت الفنانة مُحسنة توفيق.. لكن "بهية" على قيد الحياة!

أحمد نعيم بدير

الفنانة الراحلة محسنة توفيق

غزة _ خاص بوابة الهدف

"لم تنتظر بهيّة انتهاء خطاب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بعد نكسة العام 1967، الذي أعلن فيه تخليه عن أي منصبٍ رسمي، حتى خرجت مُسرعةً إلى الشارع، وبصوتٍ عالٍ صدحت بجملتها الشهيرة "لأ، هنحارب، أنا بهية وبقول لأ، لا أبدًا هنحارب.. هنحارب".

الفنانة مُحسنة توفيق التي جسّدت دور بهية، ختم المخرج المصري الكبير يوسف شاهين بجملتها الشهيرة فيلم "العصفور" في العام 1974، لتصبح بعد ذلك رمزًا للوطنية ولمصر، حيث جسدت صرختها في نهاية الفيلم رغبة الشعب المصري في النضال بعد تنحّي الرئيس جمال عبد الناصر عن الحكم، وهو القرار الذي تراجع عنه فيما بعد تحت الضغط الشعبي.

عُرفت الفنانة مُحسنة توفيق بمواقفها الوطنيّة والعروبية والتقدّمية طوال مسيرتها الفنية وحتى يوم رحيلها في السابع من مايو/أيار الحالي، سيّما الداعمة لنضال الشعوب، وشعبنا الفلسطيني على وجه الخصوص في مسيرته النضالية.

"بوابة الهدف"، اقتربت ممن اقتربوا من المُناضلة توفيق لنعرّف عنها وعن مواقفها أكثر، تقول الفنانة التشكيلية الفلسطينية لطيفة يوسف أن "مُحسنة لم تكن نجمة عادية، كما الكثير من الفنانين في فترتها والآن، بل هي المناضلة اليسارية التي حافظت على مبادئها وأفكارها مع رفاق يجلونها ويساندوها في مواقفها الوطنية والقومية".

يوسف خلال حديثها لـ"الهدف"، أكَّدت أن الراحلة توفيق "حرصت أن توفق بين مبادئها وأفكارها وعملها في المجال الفني، ونجحت في ذلك كفنانة دراما تلفزيونية وممثلة مميزة في أفلام مهمة في السينما المصرية، وبين فكرها اليساري المنحاز للعدالة الاجتماعية والمساواة والصدق والإنسان والوطن مثل: فيلم العصفور وغالبية أفلام يوسف شاهين التي شاركت فيها، وفي الدراما الكثير على سبيل المثال لا الحصر دراما ليالي الحلمية".

وتابعت الفنانة لطيفة "كانت مواقفها الوطنية والقومية واضحة في دعمها ووقوفها مع الثورة الفلسطينية وضد اتفاقية كامب ديفيد ونهج الرئيس السادات، حيث من الصعب على المرء أن يفرق بينها وبين أي شخصية وطنية فلسطينية عارضت نهج السادات التسووي، بل كانت أكثر جرأة وهي تعارضه من داخل مصر وقد كانت معرضة للسجن بالطبع، ودفعت ثمن ذلك بإقصائها فترة عن عملها الفني الذي تحبه".

"كذلك وقفت بقوة ضد الحصار على العراق ومن ثم الحرب عليه واحتلاله، وكانت واضحة في عدائها للولايات المتحدة الأمريكية والغطرسة الاستعمارية الغربية"، تكمل الفنانة لطيفة، ثم تُضيف "يسجل إلى جانب الكثير من المواقف المشهودة لها، مناصرتها وتواجدها مع مجموعة من الفنانين المصريين المناصرين والداعمين للثورة الفلسطينية، إلى جانب شعبنا الفلسطيني في بيروت أثناء اجتياح لبنان ١٩٨٢، وتقاسم الحصار والعدوان معه، وأيضًا الارتحال مع قوات الثورة الفلسطينية بعد الخروج من بيروت إلى عدن فترة وجود الرئيس عبد الفتاح إسماعيل واستضافته لكوادر الثورة الفلسطينية. ولم تبخل بإظهار مشاعرها وانصهارها مع حقوق شعبنا الفلسطيني في الحرية والعودة والاستقلال".

وتتابع لطيفة للهدف "لقد تشرفت أن شاركتها بندوة أثناء الانتفاضة بدعوة من ورشة الزيتون في مصر، وعلى الجانب الإنساني، عُرفت بِرِقَتها ودماثة خلقها جعلت كل من يتعامل معها يحترمها ويحبها"، خاتمةً بالتأكيد على أن الفنانة مُحسنة رحلت "دون أن تغير أفكارها وقناعاتها وتوجهاتها".

169RW.jpg
 

الناقد المسرحي والسينمائي المصري محمد الروبي، الذي حاورته "الهدف"، أكَّد أن "رحيل الفنانة مُحسنة خسارة كبيرة للسينما والمسرح في الوطن العربي، فهي القامة الكبيرة التي شاركت في شبابها في نهضة المسرح المصري مع كبار المخرجين المصريين، وكذلك لها عدد من الأدوار المتميزة في أفلام سينمائية تعد من العلامات في السينما المصرية".

"استحقت مُحسنة عن جدارة لقب "بهية الفن العربي" لما حققته شخصية (بهية) في فيلم يوسف شاهين "العصفور" من تأثير، ولارتباط هذه الشخصية في أذهان المصريين والعرب بمعنى المقاومة ورفض الهزيمة، وما زالت كلمتها الصرخة "ها نحارب" التى أطلقتها في نهاية الفيلم عنوانًا للإصرار على رفض كل هزيمة"، يُتابع الروبي.

رحلت الفنانة مُحسنة، لكن هل ما زالت "بهية" على قيد الحياة؟

يُجيب الناقد المصري وهو رئيس تحرير جريدة مسرحنا – أول جريدة مخصصة في المسرح في الوطن العربي "بالتأكيد ستظل بهية على قيد الحياة. فبهية لم تكن فقط شخصية درامية في عمل سينمائي، ولكنها صارت أيقونة يستدعيها الناس وقت الأزمات للتدليل على إمكانية الاستمرار، وهي الامتداد الطبيعي لشخصية "إيزيس" في الأسطورة المصرية القديمة، وهي الشخصية التى قدمتها محسنة أيضًا في مسرحية نجيب سرور الشهيرة "منين أجيب ناس" باسم نعيمة في عرض أخرجه مراد منير في أواخر الثمانينيات في مصر؛ كذلك أدوارها المتميزة في أشهر الأعمال الدرامية التلفزيونية ومنها "ليالي الحلمية" للقديرين أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ، حفرت لها مكانًا خاصًا في قلوب المصريين والعرب".

وعن مشوارها السينمائي، حدّثنا الروبي وهو عضو مجلس إدارة المركز القومي للمسرح، "يمكن القول أن مشوار محسنة توفيق الفني (المسرحي والسينمائي والتلفزيونى والإذاعي) هو مشوار لمسيرة هذه الفنون ازدهارٌ وانكسارٌ، فبدأت محسنة مع نهضة المسرح المسرحي في ستينيات القرن الماضي، وتوارت عن الأنظار رافضة المُشاركة في أعمال رأتها لا تليق بتصورها عن دور وطبيعة الفن منذ السبعينيات باستثناء أعمال قليلة، رأت فيها ما يحقق ما تتصوره عن الفن باعتباره طليعة المجتمع والسراج الهادي لنهضته؛ لذلك حين قدمت دورها الصغير مساحة الكبير معنى في "العصفور" كانت تعطى درسًا لكيف يُعبر الفن عن آمال وآلام الشعوب".

وأوضح أنه "لم يذكر لمُحسنة أن شاركت في عمل يُكرس ليأس أو يدعو إلى احباط، بل يذكر لها التاريخ أنها رفضت العمل مع كبار الكتاب والمخرجين لما رأت في مواقفهم ما يتناقض مع ما تؤمن به. لكل هذا وضعها المشاهد المصري والعربي في مكانة خاصة جدًا واستحقت عن جدارة لقبها "بهية"، ليس فقط لارتباط الاسم بالدور ولكن لما يعنيه الاسم عند المصريين من معنى يوازى مصر "مصر يما يا بهية".

وعن سؤالنا حول العلاقة بين الفنان ومواقفه السياسية، شدّد الروبي على أنه "لا يمكن فصل الموقف السياسي الذي يختاره الفنان عن شخصيته، فالموقف هو الذي يتحكم في اختيارات الفنان، ومن ثم هو ما يحوله من مجرد "مشخصاتي" يؤدى أدوارًا تفرض عليه، إلى "فنان" لا يختار إلا ما يتوافق وقناعاته. هذا الاختيار قد يكلف صاحبه الكثير إلا أن الفنان الحق، ومحسنة نموذجًا، هو من لا يتنازل عن مبادئه أو مواقفه السياسية من أجل شهرة أو حتى استمرار بمنطق "أكل العيش". فمحسنة لم تكن فقط ممثلة تقوم بلعب عدد من الأدوار، لكنها كانت صاحبة موقف، دفعت مقابله الكثير سواء سجنًا أو استبعادًا، ولكنها عاشت وستظل رمزًا لمعنى أن يُعطى الفنان بصدق فيحصل من متابعيه على حبٍ صادق".

كيف يكون الوفاء للعظماء؟

"الوفاء أو التكريم الحقيقي هو النابع من الجمهور، وقد حصلت عليه محسنة ولم تزل. أما التكريم الرسمي فهو أمر مرهون بموقف المؤسسة الرسمية، وهي غالبًا ما تضطر للخضوع لإعلان تكريم فنان يختلف معها استرضاءً للجمهور، خاصة بعد رحيل هذا الفنان. أؤكّد أن أعظم تكريم هو الذي يأتى من الشعب الذي صدَّق هذا الفنان وصدَقَ معه الفنان، وهو ما رأيناه في جنازة مُحسنة"، أجاب الناقد الروبي.

الراحلة مُحسنة توفيق أثرت الدراما والسينما والإذاعة المصرية من خلال 80 عمل فني، وكُرّمت في فبراير/شباط الماضي عن أعمالها في مهرجان أسوان السينمائي في دورته الثالثة لسينما المرأة.

الكاتب والروائي حسين البدري وافق الروبي بأن "محسنة توفيق أول من حملت لقب "بهية" الاسم الذي يرمز إلى مصر بحضورها البهي في التاريخ في ذورة انكسار الحلم الناصري بعد هزيمة 1967".

وقال البدري خلال مقابلةٍ مع "الهدف"، أن مُحسنة رحلت بهدوء في ظل مأزق وجودي يعيشه المشروع العربي، صرختها في العصفور "هنحارب"، اختزلت مقاومة المصريين بعد النكسة، وكانت بشارة العبور العظيم وتحطيم الأسطورة المزيفة لجيش الاحتلال الصهيوني، فهي عنوانٌ لزمن يبدو بعيدًا وجميلًا مقارنة بواقعنا الراهن، بطلة من طراز خاص، تجيد اختيار الشريط السينمائي والدرامي الذي تطل على المشاهد من خلاله ويحمل الهم الإنساني وخيارها في الانحياز إلى قيم جمالية ملهمة، "العصفور"، "ليالي الحلمية"، "قلب الليل"، "إسكندرية ليه؟" وغيرها.

كما أكَّد البدري على أن "الفن المصري فقد واحدة من أهم صانعي وجدان الشعب عبر العقود الأخيرة، الفنانة حاملة هموم وطموح شعبها بامتياز، لقب تستحقه الراحلة بجدارة، في زمن عز فيه الفن الجاد".

"طُلب مني تغيير مواقفي السياسية، لكنني لم أفعل، كنت دائمًا أسأل نفسي عن سبب تظاهر العمال والطلبة منذ أن كنت صغيرة، وعرفت أنهم عانوا من الضغط والكبت وسوء المعيشة، وظلت حكايات كتلك تلازمني في حياتي.. قررت أن أعيش وسط الناس، وذهبتُ للمُخيمات الفلسطينية، وتعلمت منهم الإصرار والتحدي"، قالت الراحلة مُحسنة توفيق في يومٍ ما.