في حُمَّى التغريب، واقتباس الطوطم الاستشراقي كمُسَلَّمة ببغاوية، يبدو كلُّ مختلفٍ غريبًا هنا، وقد يُنظر إليه سلفًا بعين الشك حتّى! استباقًا للنيل من جهود واستخلاصات فتح غطاء العقل وخروجه من صممه، لهذا يُعدُّ من غير المألوف ذاك التغريد الخارج عن سياق المعهود تاريخيًا، باعتباره ضربًا من صدم العقل الساكن، وهذه الغاية الأولى من الحالة التنويرية، وقد تناسى العقل العربي - عقلنا – مرارًا أنَّ كُلَّ سائدٍ كان مستحدثًا في لحظته يومًا ما!
للدكتور فاضل الربيعي مساهمات مدهشة، ترقى لمستوى التأسيس النظري البحثي المختلف، سواءً أتوافقنا أو تنافرنا مع طروحاته، لكنها جديرة بالتفكير مليًا بمفرداتها، لا بالقراءة فحسب!
"الهدف"، إذ تفتتح هذا الحوار، فهي تحاول المساهمة في رفد الفكر العربي والعالمي بما هو جديد متجدد، غير متناسية جهودًا سبقت ذلك من قبل باحثين مهمين، ومنتظرة ما هو مختلف جديد في الغد القريب أو لربما البعيد.. آتٍ.
الهدف: بُعيدَ الترحيب، لكل رؤية نقطة انطلاق، وللربيعي نقطته بالضرورة، من أين بدأت؟
د. فاضل: انطلقت رؤيتي قبل كل شيء من فلسطين، أي ما يعني من خلاصة وعيي كعربي، ولأنَّها- أي فلسطين- وعيٌ للحياة والكون والتاريخ والثقافة، فقد استندت في أبحاثي إلى مجموعة مصادر لإعادة قراءة السردية اللاهوتية التاريخية المهيمنة على الوعي العام والعقل والثقافة.
الهدف: لكن، ألا يعتبر تعدد المصادر المعرفية والتاريخية والدينية والنصية والجغرافية وغيرها بصيغها ومقولاتها الحالية مُشَكلًا لحالة من التيه الراسخة، والتي تنعكس على الفهم والتقييم النهائي؟
د. فاضل: بالطبع، فإنَّ أهم تناقض في إطار هذا العمل هو أنَّ جغرافية التوراة لا تنطبق على جغرافية فلسطين والوقائع والأحداث، سواءً الدينية أو ما يبدو أنّها تاريخية، كلها لا تنطبق بأي صورة من الصور على تاريخ فلسطين القديمة، من هذا المنطق بدأت بتفكيك الرواية.
الهدف: إذن، علامَ تنطبق الرواية السائدة؟
د. فاضل: هنا سأعطيك مثلًا صغيرًا، ولتقرر أين دارت أحداث التوراة، ففي سفر التكوين نقرأ قصة عن قيام قبيلة سبأ بسرقة حيوانات وأبقار وأغنام النبي أيوب، أيمكن تخيل ذلك؟!, أي أنَّ سبأ تقطع أربعة آلاف كيلو متر لسرقة أغنام وأبقار كاهن أو نبي، هذا غير واقعي، هذه ميثولوجيا غير منطقية. هي حدثت في اليمن، وتحديدًا في عام 650 ق.م، حيث كانت مملكة سبأ وحمير, وكانت تقوم بأعمال سبي وسلب ونهب، والمنطقي جغرافيًا- كما قلت عن مسافة 4000 كيلو متر- المنطقي أنْ يكون النبي أيوب في اليمن وليس في فلسطين، بهذا المعنى؛ فإنَّ مسرح الأحداث التي سجلتها التوراة هو مسرح أحداث يمني بامتياز.
الهدف: إذن، فما يُسمى بـ" إسرائيل" القديمة تقع جغرافيًا في اليمن؟
د. فاضل: إسرائيل القديمة لم تقم لا في عسير ولا في فلسطين بل في أرض اليمن, والذين يحبذون الاستناد إلى النص القرآني، فإنَّ القرآن يؤكد روايتي، في سورة الدخان هناك نص واضح وصريح يُخاطب بنو إسرائيل الله ويطلبون إعادة آبائهم, (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ.
القرآن يقول أهم خيرٌ أم أهل تبع, وقوم تبع في اليمن طبعًا، ولذلك؛ فإنَّ كل الترهات التوراتية, وأنَّ إسرائيل نشأت في فلسطين في عهد داوود هي خيال استشراقي، لا يوجد مصطلح "فلشتين"، ولا علاقة له بفلسطين أو باسم فلسطين المعروفة.
الهدف: أي فلسطين التي قدمت شعوبها من كريت مثلًا؟!
د. فاضل: هذه واحدة من الخرافات اللاهوتية التي صُممت وهُندست بطريقة خبيثة، في سبيل ترويج فكرة زائفة لتقول بأنَّ الفلسطينيين جاءوا من بحر إيجة، وتسللوا ليزاحموا الإسرائيليين.
الهدف: اسم فلسطين أو فلستين ملفق هو أيضًا؟
د. فاضل: السين والشين في العبرية حرف واحد, شمس = شمش، هذا الاسم ينطبق على جماعة دينية عاشت في اليمن القديم "فلستين" من جذر "فلس" إله، وثني معبود كرمزٍ من رموز الخصب (هو يرمز للسرة أو الرحم)، وحتّى اليوم في العامية العراقية "فلس" تعني السُرة – التي في الجسم-.
وادي الفلس هو في محافظة تعز باليمن, أو وادي المفاليس، الفلس وتجمع فلستين- فلسطين.
اللغة العبرية تعرف حرف الطاء، ولو كان المقصود من فلشتيم هو فلسطين فلماذا رسم محرر التوراة الاسم بحرف التاء، وليس الطاء.
فكرة أنَّ الفلسطينيين جاءوا من كريت أسسها اللاهوت بناءً على سفر حزقيال.
وما بني على نص يقول: ويل لأمة الكريتيين, ويل للفلسطينيين, ويل لأمة البحر.. هذه الأبيات الثلاثة بنى عليها اللاهوتيون ادعاءاتهم.
وبما أنّهم هذا تصوروا ذلك، فهذا يعني أنهم جاءوا من كريت، وأمة البحر يعني أنهم جاءوا من بحر إيجة، وهذا تأويل سطحي لا واقعي!
الفلسطينيون من سكان بلاد الشام قديمًا وهم رعايا الإمبراطورية السورية القديمة (الآشورية)، وهم قبائل معروفة "بني تيم طي..".
هذا، وعلمًا أنَّ تاريخ اليونان القديم لا يعرف بأي شكل من الأشكال وجود جماعة تسمى فلستيم- فلستين.
الهدف: منظمة اليونسكو فصلت في قرارها المتعلق بالمسجد الأقصى ومحيطه بين القدس وأورشليم، وهناك عديدون يذهبون إلى أنَّ تسمية أورشليم كنعانية الأصل، وليست عبرية أو يهودية.. كيف يمكن للبحث التاريخي الفصل في هذا؟
د. فاضل: أولًا؛ وضحت ذلك في كتابي الصادر عام 2007 "القدس ليست أورشليم"، وهو أحد الوثائق التي قُدمت لليونسكو، واستند إليها القرار الخاص بنفي وجود أي صلة بين التاريخ اليهودي ومدينة القدس.
ثانيًا؛ إنَّ الذين يزعمون أنَّ القدس هي أورشليم يؤمنون- يتبنون رواية الآخر، وهذا يطرح علينا سؤالًا، إذا كان اليهود والفلسطينيون يتبنيان ويقولان بأنَّ القدس هي أورشليم، كيف وعلى أي أساس تصارع العدو إذن؟!
ثالثًا؛ كل ما يزعم عن وجود حضارة أو شعب أو آثار كنعانية في فلسطين هو يردد الرواية اللاهوتية التي لا أساس لها!
الهدف: لا وجود للكنعانيين إذن؟!
د. فاضل: الكنعانيون لقب أو صفة تحقير أطلقتها جماعة على جماعة أخرى.
الهدف: كيف تمَّ ذلك؟
د. فاضل: إليك ما يلي من سفر التكوين، إبراهيم يطلب من أولاده لا تأخذوا "تتزوجوا" من بنات الكنعانيين ويعقوب كذلك, هذا يعني أنَّ اليهودية التي تمارس الختان- أي الطهارة- تُحقر القوم الذين لا يختنون، هم أنجاس بحسبهم, فما هو مبرر أنْ يقوم الفلسطينيون بتبني الاسم، باعتبار أنَّه لقب تحقيري، إنَّه شبيه بلقب الهندي الأحمر الذي أُطلق غربيًا على حضارة المايا.
والآن لو كان لديهم – في روايتهم- أي دليل أيديولوجي أو ثقافي مادي محسوس يؤكد رواياتهم لضج العالم به صخبًا.
خذ مثلًا، فإنَّ "يسرائيل فنكلستاين" العالم اليهودي يقول صراحة، ويعترف بأنَّهم خلال سبعين عامًا لم يجدوا ما يؤكد روايتهم.
الهدف: وهل هناك ما ينفيها؟
د. فاضل: سأقول لك ما ينفيها, المفاجئ أنَّ العبرية القديمة تسمى العبرية الصنعانية "صنعاء" أو السبئية "سبأ"، ويستخدم هذا المصطلح علماء إسرائيل، وبالتالي تناقض التوراة، وهذا يعني أنّها لهجة دينية غريبة، ليست لغة في العصر البرونزي.
ثم ماذا تعني كنعان؟ هل هناك حضارة أو مملكة؟ وأين حدودها؟
بحسب اللاهوتيين هي تمتد لمصر، وتشمل بلاد الشام، هذه تخيلات. ولو كان هناك فعلًا وقتها إمبراطورية كنعانية بهذا الحجم لشطبت مملكة آشور.. هل لعلماء الآثار هؤلاء تقديم أسماء ملوك كنعان أو منحوتاتهم أو عملتهم كل هذا خيال؟!
الهدف: على أي رواية يمكن أنْ نستند إذن؟
د. فاضل: علم الآثار التوراتي هو الذي هيمن بروايتيه على علم التاريخ، أو لِنَقُل، روى التاريخ بصوته، ونحن لم نرد بعد برواية تاريخنا بصوتنا، وما زلنا نردد الترهات الاستشراقية.
بالمناسبة، مَنْ بحثوا في آثار فلسطين، وصندوق آثار فلسطين، كلهم لم يكونوا علماء آثار، كانوا خريجي معاهد لاهوتية، تلقوا تدريبًا مرتجلًا فقط لأشهر عدة، هؤلاء هم مَنْ أسسوا الرواية التي - للأسف - نردد ترهاتها بشكل متواصل يومي, لماذا يستخدمون العبرية الصنعانية أو السبئية إنْ كانوا في فلسطين؟!
الهدف: حسنًا، مخطوطات البحر الميت "قمران"، وهي ما يزيد على 850 أثر مخطوط، بعضها تمَّ اعتباره مؤسسًا لما سمي الكتاب المقدس، هل قُرأت بالكامل وجيرت لإثبات الآخر روايته؟
د. فاضل: قبل الحديث عن مخطوطات البحر الميت، دعني أرسم لك إطارًا للتوضيح، لقد نشأ في علم الآثار تياران, الأول: التيار التقليدي الذي تقوم مناهجه على أساس مطابقة الرواية التوراتية على ما يكتشف في الأرض أو إرغام ذلك على خلاصة التفسير، وهذا هو التيار التقليدي.
لكن أيضًا نشأ منذ نحو عقدين التيار النقدي للنص التوراتي، يعتمد على أنَّ ما تنطق به الأرض هو الفيصل وليس قصص التوراة، لكن هيمنة اللاهوتيين على صندوق آثار فلسطين في لندن منذ 1800م هو مَنْ فرض على علم الآثار أنْ يقدم ما يبرر الرواية التوراتية، هكذا جرى اختلاق فكرة وجود إسرائيل.
الهدف: يعيد هذا السؤال إلى أصله، مَنْ هم اليهود حقًا، مَنْ هم بنو إسرائيل، هل تذهب إلى أنهم لا وجود لهم إلا كأسطورة أو خرافات؟
د. فاضل: مَنْ هم اليهود؟ مَنْ هم بنو إسرائيل؟ يجب أنْ تميّز بينهما، كما تميّز مثلًا بين قريش والإسلام، فاليهودية ديانة ظهرت في اليمن وليس في أي مكان آخر، وهو أمر مؤكد في السجلات والنقوش ومملكة حمير كانت يهودية، وتسميها التوراة يهودا من "هود"، وهم لا علاقة لهم ببني إسرائيل، كما أنهم ليسوا عرقًا أو شعبًا بل أتباع ديانة، أما بنو إسرائيل فهم قبيلة عربية وردت في سجلات اليمن والآشوريين، وقد اصطدموا بنزاعات وحروب معًا.
لا تستطيع القول إنَّ الإسلام مثلًا شعب أو أمة، هناك مسلم باكستاني، عربي ... كما نجد يهوديًا إيطاليًا، فرنسيًا .. وكذلك المسيحية هل المسيحيون العرب مع الأوربيين يشكلون أمة؟ لا بالتأكيد بل هم أتباع دين واحد فقط.
الهدف: يحاول بعض العرب اليوم، في سياق حُمى التطبيع نفي الرواية التاريخية العربية الفلسطينية في مقابل دعم الرواية اليهودية المختلقة.. كيف تتم حماية الرواية الحقيقية؟
د. فاضل: التمسك بمزيد من حقائق الهوية التاريخية للمنطقة, وهي هوية عربية جذرها التاريخي القديم السورية الآشورية، وهي خلاصة اندماج العراق ب سوريا وفلسطين والأردن, وأي محاولة لترسيخ الزعم القائل بأنَّ اليهود كانوا قبل ألفي عام في فلسطين، أو أنَّ القدس هي أورشليم هو تنازل مجاني عن الرواية التاريخية الصحيحة والدقيقة.
لذلك؛ ليس أمامنا إلا مواصلة نقد وتفكيك الرواية اللاهوتية، وقطع الطريق على محاولة هيمنتها، البعض مثلًا يزعم أنَّ "حائط المبكى" هو أحد أسوار أورشليم القديمة، وللأسف بعض الكتاب يرددون ذلك استنادًا إلى مقولة وزعم اللاهوتي، حتّى أنّه لا يوجد في نص التوراة ذاته أي إشارة إلى وجود شيء اسمه حائط المبكى، هذه أسطورة لاهوتيين فقط!
فهناك ثمة يهوديات يتباكين على تموز, وتموز هو إله العراقيين القدامى، ولا غير ذلك، وهم استندوا إلى هذه الأسطورة, وهي لا أساس لها حتّى في التوراة، هي من ضمن تأويلات تعسفية لاهوتية للنص العبري.
بطاقة تعريف:
فاضل الربيعي مفكر وكاتب عراقي، متخصص في المثيولوجيا والدراسات الأنثروبولوجية الحديثة.
فاز مؤلفه (أبطال بلا تاريخ: المثيولوجيا الإغريقية والأسطورة العربية) بالجائزة الأولى للإبداع الثقافي في مؤسسة الشاعر السعودي الراحل ناصر باشراحبل (القاهرة 2006 كأفضل كتاب في الدراسات الأنثروبولوجية ــ الإنسانية).
صدر له العديد من المؤلفات منها: الشيطان والعرش، وكبش المحرقة، وشقيقات قريش، والقدس ليست أورشليم، وفلسطين المتخيلة: أرض التوراة في اليمن القديم (عدة مجلدات) وغيرها من المؤلفات.