أقال الرئيس البرازيلي وزير الصحة في حكومته لأنه رغب باستمرار "تقييد الحركة" فيما هو يطلب العودة للعمل، وفي إسرائيل استسلمت الحكومة لطلب وزير الحرب بينت بالعودة الى العمل، فيما وزير الصحة يصرخ بأن التهديد الأشد قادم. هذا ويدعو الرئيس الأمريكي إلى فتح الاقتصاد والعودة إلى سوق العمل! في الواقع أحد الأسئلة الحرجة التي دفعت بها الجائحة: هل يمكن إقامة علاقة متوازنة بين الصحة والاقتصاد ضمن منظومات الحكم في عالم اليوم؟
في عام 1961، أثناء حمى التهديد النووي، طالب برتراند راسل بإقامة حكومة عالمية، متساءلاً "هل للإنسان مستقبل؟". وأجاب الفيلسوف الإنسانوي: نعم، إذا لم تدمر الإنسانية ذاتها بجنون واندفاع قبل أن تبلغ النضج. اليوم لم يعد الانفجار النووي وحده ما يهدد المستقبل، وإنما الانفجار الأيكولوجي والبيولوجي. ثمة ضرورة لوقف إطلاق النار، في الحروب العبثية كما في الحرب ضد الطبيعة.
خيل للناس أن العولمة سوف تزيل السدود والحواجز وتنشأ "القرية الكونية"، وإذا بفيروس لا يرى بالعين المجردة يجبر البشرية على الإقامة الجبرية والانكفاء على الذات، وتوقيف ماكنة الإنتاج وقطع سلاسل الإمداد، وانتظار المجهول. الجهود المتعثرة لاحتواء كورونا لا تبرز الحاجة إلى تحول نموذجي في إدارة الصحة العامة والاستراتيجيات الاقتصادية والأمن البيولوجي فحسب، وإنما في نمط حياتنا برمته في ظل الواقع الذي خلقته الليبرالية الجديدة.
تظهر التجربة أن التراكم الرأسمالي الذي كان وراء الثورة الاقتصادية والاجتماعية، قد تحول مع العولمة المتوحشة إلى العقبة الرئيسية أمام سعادة البشرية. تدفع أزمة كورونا (وهي أحد نتاجات عولمة التوحش) إلى ضرورة إعادة النظر فيما إذا كان لا يزال من الحكمة وضع "الربح" قبل "المجتمع"، والاستمرار في التعاطي مع "الاقتصاد" بوصفه المحور الرئيس الذي تنتظم من حوله المجتمعات البشرية!
طبقًا للأمم المتحدة، يهدد الوباء نحو 1.25 مليار عامل (الطرد من العمل أو اقتطاع الراتب)، وأن ساعات العمل عالميًا سوف تنخفض بنسبة 6.7%، وأن الأزمة الحالية قد تلقي بنصف مليار شخص في العالم في براثن الفقر، وبذلك يكون أكثر من نصف سكان العالم البالغ عددهم 7.8 مليار نسمة، مهددون بأن يصبحوا تحت خط الفقر. هذا ومن المتوقع أن يخسر العمال حوالي 3.4 تريليون دولار من الدخل، وفقدان ما يزيد عن 25 مليون وظيفة نتيجة سياسة إغلاق الاقتصادات المتبعة. هذا ويرجح أن يعمق تأثير الفيروس الاتجاهات نحو سياسات الأبواب المغلقة، وعدم الثقة والفصل.
وبينما تكافح البلدان النامية من أجل توفير الموارد الأساسية، من المتوقع أن تشهد عواقب وخيمة بحلول الصيف، سيما وأن العمود الفقري لاقتصادها يتمثل في الزراعة، والسياحة، والتحويلات المالية من الخارج، ولما كانت هذه الاقتصادات أكثر اعتمادًا على البشر، فإن تدابير الوقاية تشكل قيدًا عليها ما يورثها مزيدًا من التداعيات: ضعف النمو، شح الأموال المتاحة لأولويات التنمية، إعاقة مكافحة الفقر المدقع.
تعرضت أسواق الأسهم والبورصات في جميع أنحاء العالم (باستثناء بورصة شنغهاي) في أقل من شهر (بين 17 فبراير و17 مارس من العام الجاري) لخسائر فادحة، تتجاوز الخسائر التي نجمت عن الأزمات الرئيسية السابقة. يؤكد خبراء أن جائحة كورونا ليست السبب الحقيقي لهذه الأزمة، وإنما هي مجرد مفجر أو شرارة، وأن السبب يعود إلى سياسات الرأسمال الكبير وتواطؤ الحكومات معه.
تعتبر العولمة الاقتصادية أكثر مظاهر الليبرالية الجديدة صراحة وفجاجة؛ وقد أفضت إلى أزمة مالية واقتصادية 2008/2009 سرعان ما أسست لصعود أكبر موجة من اليمين الشعبوي. تاريخيًا، النيوليبرالية هي مشروع سياسي أطلقته رأسمالية الشركات لكبح قوة العمل. أنهت الليبرالية الجديدة دولة الرفاه، وقللت من سلطة الدولة لصالح الشركات العابرة للقومية والمتعددة الجنسيات، وقلصت دور النقابات العمالية.
مع مرور الوقت كثرت التفسيرات التي تربط بين حدوث الجائحة ومآلاتها بما يسمى بالعصر النيوليبرالي؛ نقدم بعض أبرز أفكارها:
الإصلاحيون: في ضوء حقيقة ما كشفه الوباء من فشل دول كان ينظر إليها بوصفها نموذجًا يحتذى في الإدارة والسياسة، ومن أن التفاوت في إدارة الأزمة بين الدول يرتبط بطبيعة السياسات المتبعة تجاه الخدمات العامة ووسائل الإنتاج، برز من يدعو إلى "الرأسمالية الأخلاقية" التي تنبثق من فهم أدم سميث الكلاسيكي للقوى التي تشكل ما نسميه "السوق الحرة": الازدهار والعدالة والحرية.
الاشتراكيون والشعبويون اليساريون: أوضحت الأزمة بجلاء أن الناس بحاجة إلى رعاية صحية مجانية وإجازة مرضية مدفوعة الأجر للجميع. بالنسبة لهؤلاء يكشف الفيروس التاجي عن الأخطاء الهيكلية لنظام تم تغطيته على مدى عقود؛ فجوة التفاوتات الاقتصادية، وتدمير البيئة، والفساد السياسي المنتشر كلها نتائج لأنظمة أصيبت "بالفشل المتزامن"، وليس ثمة بديل سوى الاشتراكية.
الشعبويون اليمينيون: كورونا يبرر المخاوف بشأن الحاجة إلى حماية الحدود وطرد الأجانب. يتم تصوير التهديد بأنه "خارجي"، والرد ببناء الجدران ووقف الرحلات الجوية. يدور الجدل حول "الانعزالية" وسياسة "الأبواب المغلقة". بالنسبة لأنصار الترامبية وذوي النزعة القومية الأوروبيون "التداول الحر للسلع والأشخاص وسياسات الهجرة والضوابط الضعيفة على الحدود؛ تسمح بوضوح بانتشار هذا النوع من الفيروسات"، عندهم الاقتصاد قبل المجتمع، والربح قبل الإنسان.
إلى ذلك فثمة آراء أخرى نجملها كالتالي:
للحيلولة دون انقطاع سلاسل التوريد، يجب نبذ نهج التصنيع "في الوقت المناسب"، والذي لا يحتفظ فيه المصنعون بمخزونات كبيرة من المواد، بل يطلبونها قبل وقت قصير من التجميع، ما يجعلها عرضة للصدمات.
يكشف الوباء مزايا وعيوب الأنظمة السياسية؛ الاستبدادية والديموقراطية. بينما انتقد الاستبداد الصيني من حيث إسكات الأصوات المعارضة والناقدة، مدح الحزب الشيوعي على احتواء الوباء بسرعة. وبينما يحتفل البعض بحرية الغرب في التعبير، يشار بالبنان إلى فشل الديمقراطيات الغربية في الحد من المخاطر بشكل فعَّال.
أخيرًا، أنصار العالمية والمدافعون عن المناخ ينظرون للفيروس باعتباره تهديدًا عالميًا يظهر الحاجة للعمل معًا، وأن الاستجابة له أظهرت ما يمكن أن يحققه العمل الجاد للتعامل مع تهديد "تغير المناخ".
من الواضح أن صراع العالم ضد كورونا سيشكل لحظة فارقة في التاريخ الحديث. نحن نشهد تفكك منظومة شاملة وبروز احتمالات متعددة بما في ذلك الذهاب إلى الأسوأ. يرى البعض فيما يحدث فرصة أمام اليسار والقوى المعارضة بعد 40 عامًا من العولمة والتركيبات الإيديولوجية للنيوليبرالية، لبدء نقاش حول إعادة التنظيم السياسي والاقتصادي.. يتضمن النقاش بعض القضايا التالية:
احتمالية صعود الصين وتبوأ موقع قيادة العالم بسبب انكفاء الولايات المتحدة وسياستها "الانعزالية" وفشلها في الاستمرار بقيادة العالم، وما صاحب ذلك من تراجع بعض الأفكار السياسية المرتبطة بها، وبالطبع تراجع العولمة لصالح صعود القومية وانهيار الاتحاد الأوروبي. في ظل الإخفاق الذي أظهره الغرب، فإن العالم سيشهد خلال السنين والعقود القليلة القادمة انتقال الثقل السياسي والنفوذ الاقتصادي بشكل تدريجي منه إلى الشرق.
التوفيق بين تدابير الصحة العامة والإنتاج الاقتصادي. تقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة لا يعني بالضرورة تشجيع الاقتصاد وزيادة النمو، بل العكس؛ فقد أظهرت الكورونا مدى علاقة وتأثير الصحة بالاقتصاد، فالقيود على الحركة والتنقل كوسيلة بديلة عن توفر المستلزمات الطبية أدت الى خسائر فادحة في الاقتصاد. يمكننا أن نتعلم الدروس من هذه الأزمة لبناء اقتصاد أكثر إنسانية وعالم أكثر عدالة وإنسانية (تحقيق التوازن بين الانفتاح والحماية، الترابط والاعتماد على الذات).
الفيروس فتح نافذة أوفرتون على مصراعيها. باتت تُناقش أفكار سياسية واقتصادية لطالما رفضت سابقًا أو اعتبرت خيالية: التدخل الحكومي، مراقبة الدولة للنشاط الفردي وغير ذلك. تُسرّع الجائحة التغيرات الجارية بالفعل: يمكن أن تحدث التحولات التي قد تستغرق عقودًا في غضون أسابيع.
هناك خطر كبير يتمثل في أنه بدلاً من تغيير المسار، سيعيد عالم ما قبل كورونا إنتاج ذاته. يستفيد القادة السلطويون في كل مكان من الأزمة لتضييق الخناق على الحريات الفردية والانحدار بسرعة نحو الاستبداد (المجر، إسرائيل، أمريكا،..). ثمة خشية من أن ينتج الوباء البيئة المثالية لانفلات الأيديولوجيات الشعبوية من عقالها، وأن يحصل التراجع عن الخيارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعاون الدولي.
مع تعطل خطوط الإمداد والتوريد، ستبحث المجتمعات المحلية عن المنتجين المحليين والإقليميين لتلبية احتياجاتهم اليومية. سيعتاد الأشخاص بشكل متزايد على التواصل مع الآخرين من خلال الاجتماعات عبر الإنترنت، وفي الوقت الذي سوف يتم فيه الإنتاج محليًا، قد نشهد زيادة كبيرة في عولمة الأفكار الجديدة وطرق التفكير.
كي لا نخسر الرهان أمام جائحات قادمات، لا بد من أخذ العبرة لمواجهة الأخطار الثلاثة: الخطر النووي، الأيكولوجي، البيولوجي، أولوية قيم التضامن والتعاون العالمي على الخضوع للقوانين العمياء لأسواق المال والأعمال، والشركات، التي لا غاية لها سوى تعظيم المكاسب والأرباح.
بروز وتبلور ملامح مستقبل منطقة الشرق الأوسط في عالم ما بعد كورونا؛ انهيار أنظمة، امتلاك إيران سلاحها النووي، وجود فرص لإسرائيل وخاصة في مجال صناعة الهاي-تك، وهي تعزز مكانتها وعلاقاتها السياسية والاقتصادية؛ سواء مع الولايات المتحدة أو الصين.
*باحث وكاتب وعضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني - فلسطين
*نُشر هذا المقال في العدد الثالث عشر من مجلة الهدف الرقمية