Menu

النكبة.. في ذاكرة جيل الخيام شعلة لا تنطفئ

حسن عبد الجواد _ بيت لحم

تكاد رحلة وقصص وعذابات ومعاناة النكبة التي لحقت بأبناء شعبنا في مدن وقرى ومخيمات فلسطين في الوطن والشتات تكون متشابهة إلى حدٍ كبير، حيث تعرضت في معظمها لهجمات واعتداءات من العصابات الصهيونية، وعاش أبناء شعبنا في السنوات الأولى من النكبة مشردين في الجبال والأودية يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، وذلك قبل أن يستقر بهم الحال في مخيمات اللجوء، التي شكلت بدايات الثورة وحصانتها وصمودها. 

في منزله المتواضع، جلس الحاج عامر عبد مصطفى الأحمر "أبو عماد" (81 عامًا) إلى جانب زوجته، يتذكّر أيام طفولته ونكبة قريته، عندما قامت العصابات الصهيونية المسلحة بمحاصرة قريتة "رفات" الواقعة إلى الجنوب الغربي لمدينة القدس ، وأطلقت الرصاص والقنابل على منازل القرية لتهجير أهلها في عام 1948.

يقول أبو عماد: "كنت في الصف الأول الابتدائي، عندما هاجمت العصابات الصهيونية قرية رفات بالرصاص والقنابل، في وضح النهار، وبشكل مفاجئ، ما أدى إلى إصابة عدد من أبناء القرية بجراح، وأربك أهلها، واضطرهم للخروج بشكل جماعي منها، بعد أن جمعوا بعض من أغراضهم واحتياجاتهم، متجهين إلى قرية صوريف، إلى الشرق من القرية، حيث كان يتجمع مئات من أبناء قرى بيت عطاب وزكريا وبيت نتيف وعجور واشوع وصرعة وغيرها من القرى التي هاجمتها العصابات الصهيونية".

وتابع أبو عماد: "كان الناس يعيشون في تجمعات عائلية شردت من قراها، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في أراضي قرية صوريف، ويعيشون في جو حميم من التكافل والتعاون، وينتظرون العودة إلى قراهم ومنازلهم التي تركوا فيها كل ما يملكونه في حياتهم، حيث لم يكن يتوقع أحدًا أن يطول الغياب عنها".

ابو عماد وام عماد - النكبة في ذاكرة الاجيال شعلة لا تنطفئ.jpg
 

ويواصل أبو عماد قصة التهجير القسري لأبناء قريته، فيقول: "انتقلنا مع أبناء قريتنا، بعد أسابيع من قرية صوريف، إلى قرية بيت أمر، حيث مكثنا فيها عدة أسابيع أخرى، ومنها انتقلنا إلى بيت لحم لنسكن في منطقة جبلية بالقرب من "دار الحكمة" على مدخل ما عرف بعد ذلك، بمُخيّم الدهيشة. ومن ثم انتقلنا للسكن في كهوف ومغاير منطقة هندازة من أراضي بيت لحم، ومنها عدنا جميعًا للسكن في مُخيّم الدهيشة، الذي كان يمتلئ بآلاف اللاجئين الذين تجمعوا من عشرات القرى الفلسطينية، ويقطنون في خيام زودتهم بها وكالة الغوث الدولية".

ويقول أبو عماد: "لما هجموا اليهود على خلدة، فزعت زكريا ودربان وراس ابو عمار وبيت عطاب، واستشهد وأصيب عددًا من الثوار، ومن بينهم نمر عواد من رفات. أكملت دراسة الصف الثاني في مدرسة المُخيّم التي كانت عبارة عن خيمة كبيرة تتسع لصفين مدرسيين. وبعد ذلك تركت الدراسة لأعمل في بعض الأشغال، مساعدًا أهلي في تحمل صعوبة أعباء الحياة، ليستقر حالي في العمل لحامًا، وهكذا استمرت حياة اللجوء بكل معانياتها، فيما طال انتظار العودة إلى رفات وغيرها من قرى ومدن فلسطين، لكن الحلم والأمل بالعودة ما زال يتملكنا في كل لحظة، ولا يغيب عن بالنا وذاكرتنا الحية".

وتقول أم عماد زوجة الحاج عامر(78 عامًا)، والتي تعود أصولها إلى قرية الولجة، وكانت تسكن عائلتها في قرية واد فوكين إلى الغرب من بيت لحم، قبل عام 1948: "جاءت العصابات الصهيونية، وأطلقت الرصاص صوب منازل القرية بشكل عشوائي، ما أدى إلى استشهاد  وإصابة عدد من أبناء القرية، واجبروا الأهالي على الخروج منها بالقوة، فغادروها  متوجهين إلى جبال وأودية قريتي نحالين وحوسان، وسكنوا في الكهوف والمغاير، ولما حاول الأهالي العودة إلى القرية جوبهوا بإطلاق الرصاص من قبل العصابات الصهيونية".

وتابعت أم عماد: "بعد ذلك تنقلت عائلتي بين بيت لحم و أريحا وبيت جالا، إلى أن استقر بنا الحال في مُخيّم الدهيشة، حيث سكنا في خيمة، في حارة الولجية، زودتنا بها وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة، إلى جانب آلاف الخيام التي كانت تملأ المكان من عشرات القرى التي شرد أهلها".

وأضافت: "كانت وكالة الغوث الأونروا، توفر لنا الحليب والعدس والبرغل والطحين والأغطية والأدوية، وعشنا سنوات طويلة، صيفا وشتاء، في ظروف حياة صعبة وقاسية لا يعلم بها إلا الله".

أمّا أبو أكرم "شريف عمارنة" (72 عامًا)، مزارع وأسير سابق، وعضو بلدية الدوحة سابقًا، من قرية رأس أبو عمار قال: "أتذكر أن عائلتي بعد النكبة التي حلت بفلسطين وبقريتنا "رأس أبو عمار"، سكنت في واد خير، بمدينة بيت ساحور، تحت شجرة زيتون، أحاطها أبو الياس خير وعائلة خير، بقطعة من "الخيش" على شكل خيمة لتقينا حر الصيف وبرد الشتاء. وكانت عائلتي، والعائلات التي هجرت من قراها، تتلقى المساعدات من دار خير وأهالي بيت ساحور، فنشرب من مياه آبارهم، ونأكل من طعامهم. وبعد ذلك رحلنا إلى قرية ارطاس وسكنا في كهف، بمحاذاة مُخيّم الدهيشة، إلى جانب عشرات العائلات التي سكنت الجبال وكهوفها ومغايرها، والتي تعتبر اليوم جزء من مُخيّم الدهيشة".

وتابع أبو أكرم: "التحقت في الصف الأول الابتدائي بمدرسة مُخيّم الدهيشة، والتي أقامتها وكالة الغوث بالقرب من الشارع الرئيسي، وكانت تتسع للصفين الأول والثاني، ولطلبة من مختلف الأعمار، وكان مدير المدرسة المرحوم والمناضل صبحي الناشف، الذي كان يحرص إلى أبعد الحدود، على تعليمنا وتربيتنا على الانضباط، وحب الوطن، وغرس مفهوم وثقافة العودة إلى مدننا وقرانا، التي هجرنا منها قسرًا".

ويقول أبو أكرم: "كانت خيام اللاجئين في المخيم تملأ المكان، وأهم ما كان يميز العلاقات بين الناس التعاون والتعاضد. وقد تم نقل أهالي الحارة الغربية "الجراشية" مع خيامهم مؤقتًا، إلى أراضي بيت جالا  قبالة المُخيّم، حيث رحب أهالي بيت جالا بذلك، وذلك حتى يتسنى لوكالة الغوث الانتهاء من بناء غرف من الطوب "البلوكات" لهم، حيث خصص لكل 6 أنفار غرفة تبلغ مساحتها 9 أمتار".

وأضاف أبو أكرم: "كانت وكالة الغوث تقدم للاجئين في المخيم ولطلبة المدرسة مساعدات، مثل الحليب والملابس والأحذية والمواد الغذائية والأدوية. وبعد سنوات فتحت عيادة ومطعم وبنت المدارس في المخيم".

ويذكر أبو أكرم، كيف شارك وطلاب المدرسة في المظاهرات ضد حلف بغداد، ومظاهرات المطالبة بالوحدة بين مصر وسوريا. وكيف كان مدير المدرسة الأستاذ صبحي الناشف يلقي خطابًا كل صباح على طلبة المدرسة، يحثهم على التمسك بالعودة إلى مدنهم وقراهم التي شردوا منها.

ويضيف: "انتقلت للدراسة للمدرسة الثانوية "دار جاسر" في بيت لحم، في فترة تنامت فيها المشاعر الوطنية والقومية بين أبناء جيلي، بتأثير وقع خطابات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فأصبحنا نشارك في المظاهرات، إلى أن وقعت هزيمة الأنظمة العربية في حزيران 67. وبعد خمسة شهور اعتقلت لمد خمسة سنوات بتهمة الانتماء لحركة القوميين العرب، ومقاومة الاحتلال. وحتى اللحظة ما زال الحلم بفلسطين وبحرها وسواحلها وجبالها وسهولها قائما ومستمرًا لا يتوقف، نزرعه في عقول وقلوب أبناؤنا وأجيال شعبنا، ضد المحتل الصهيوني، في ذاكرة لجوء لا تنطفئ".