"أثناء سيري في الشّارع، يدعوني النّاس إلى مجالسهم للحديث حول تجربتي مع الإصابة بفيروس كورونا، إلا أنني اتجنّب الذّهاب خشيةً من أن يصاب أحدهم بطريقة ما؛ فيقول إنني من تسبّبت بعدواه، ويلومني في حال جرى له أو لأحد من مخالطيه أيّ مكروه، على الرّغم من أنني تعافيتُ تمامًا ولم أعد ناقلًا للفيروس" يقول أحمد قاسم، وهو حكيم يخدم في مستشفى مخصص لمرضى كوفيد-19 بقطاع غزة.
دوريات طبّية هامة تنبّأت بانتشار أعراض الصّدمة النّفسيّة ما بين الطّواقم العاملة مع مصابي الجائحة، وأشارت عدّة دراسات إلى انتشار الاضطرابات النّفسيّة بين الأشخاص الذين تعافوا من الفيروس بنسبة تفوق الخمسين بالمئة، كاضطراب ما بعد الصّدمة والقلق والاكتئاب.
الحكيم أحمد قاسم واحد من هؤلاء؛ إذ التقط الفيروس، خلال عمله في قسم العناية المركزة في مستشفى غزّة الأوروبي الذي حولته وزارة الصّحة إلى "مستشفى وبائيات"، أصيب "قاسم" على الرّغم من اتباعه البروتوكول الصّحي المّقر من منظّمة الصّحة العالمية، ويقول في مقابلة مع "الهدف": "من الممكن أن يؤدي خطأ صغير إلى اصابتك بالفيروس المستجد خاصّة إذا كنت من العاملين في القطاع الصّحي، وفي العناية المركّزة على وجهٍ أكثر تخصيص، إذ يعتمد المرضى في هذا القسم بشكل شبه كامل على طاقم التّمريض".
وأضاف، بينما كنتُ في العمل، حوالي السّاعة الثّانية فجرًا، أعلمتني وزارة الصّحة، برسالةٍ قصيرةٍ، أنّ نتيجة فحص كورونا الخاصّ بي ظهرت إيجابية؛ فشعرتُ بالضّيق الشّديد. خاصّة أنّ الرّسالة وصلتني قبل وقتٍ قصيرٍ من حزمي لأمتعتي ايذانًا بانصرافي من العمل، بعد حوالي 14 يومًا متواصلة في خدمة المرضى، تغيّرت الدفّة؛ فبدلًا من العودة إلى البيت، نقلتني طواقم الطّب الوبائي إلى "مستشفى الصّداقة التّركي" المخصص لعزل المصابين بالفيروس.
وأظهرت جائحة كورونا التي تضرب العالم، منذ مارس الماضي، هشاشة منقطعة النّظير في جميع نواحي الحياة، وأثّرت الجّائحة على الأفراد من نواحٍ عدّة؛ فبالإضافة إلى التّأثيرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الظّاهرة للعيان، أثرّت الجّائحة بشكلٍ كبيرٍ على الصّحة النّفسية للأفراد حول العالم، ومهدت الطريق نحو انتشار أوسع للمشاكل والاضطرابات النّفسيّة.
في فلسطين، لا تتوفر بحوث وبائية رسمية خاصّة حول الصّحة النّفسية أثناء الجّائحة، إلا أنّ مديرة وحدة الصّحة النّفسيّة في وزارة الصّحة الفلسطينية برام الله، الدكتورة سماح جبر توقعت: "نتائج أسوأ من تلك المذكورة في دول أخرى بسبب أنّ الضّائقة الصّحية والاقتصاديّة أضافت أزمة جديدة إلى رزمة الأزمات السّابقة من انتهاكات مستمرة وممنهجة لحقوق الشّعب الفلسطيني" من قبل الاحتلال، علاوة على أنّ منظّمة الصّحة العالمية أشارت في دراسة نشرتها عام 2019م إلى ارتفاع معدّلات انتشار الاضطرابات النّفسيّة في مناطق النّزاعات بنسبةٍ تصل إلى (22.1%).
وكدول أخرى في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا تفتقر فلسطين إلى الطّاقات البشريّة العاملة في مجال الصّحة النّفسيّة، وفي مقابلة مع "الهدف"، أشارت "جبر" إلى أنّ "قطاع الصّحة النّفسية في فلسطين يفتقر إلى الكادر البشري؛ إذ لا يتجاوز عاملو الصّحة النّفسيّة (%2) من مجمل العاملين في الصّحة، ويصرف ما لا يزيد عن (%2) من ميزانية الصّحة على الصّحة النّفسيّة فمن بين ما يقارب (10,500) طبيب يوجد (32) طبيبًا نفسيًّا فقط في الضّفة وغزّة، وتقدّر الفجوة في الصّحة النّفسيّة فـي فلسطين بـ (%85) أيّ أنّ (%15) فقط ممن يحتاجون العلاج يحصلون عليه".
الأرقام لوحدها تعكس أوضاعًا كارثيّة، واهمالًا حكوميًّا خطيرًا على الصّحة النّفسيّة للأفراد في فلسطين، خاصّة حين تُقرأ في ظلال الجّائحة، إلا أنّ التضامن المجتمعيّ الذي يمّز المجتمع الفلسطيني، لكثرة ما تعرض لأزمات، يسدّ الفجوة نسبيًّا، وفي هذا السياق يقول "قاسم":" بعد وقت قصير، تقبّلت الأمر، خاصّة أنّه متوقعٌ بحكم طبيعة عملي؛ ذلك جعلني على قدرٍ عالٍ من الجهوزيّة النّفسيّة بالإضافة إلى الدّعم الكبير الذي قدّمه لي الأهل والأصدقاء: "تلقيت مئات الاتصالات خلال 24 ساعة" فأوشكتُ أن أنسى إصابتي بالفيروس.
ولأنّ الدّعم النّفسيّ الذي حظي به "قاسم" لا يحظى به جميع مرضى كوفيد-19، لفتت "جبر" إلى أنها لاحظت خلال الجّائحة "نشأة شريحة جديدة من المرضى النفسيين، يمكن تسميتهم بـ"المرضى النفسيين الجّدد في فترة كوفيد-19" ومن أبرز الأعراض التي ميّزت هذه الشّريحة: الوسوسة، والهلع، إذ يعتقد الكثيرون أنّهم مصابين بالفيروس غير أنّهم في الحقيقة غير مصابين، وأصابت آخرين وساوس مزمنة متعلقة بالنّظافة أثّرت على سير حياتهم اليوميّة وعلاقتهم بالآخرين".
وكشفت "جبر" أنّ هناك آخرين ظهرت عليهم أعراض "جسديّة الشّكل نفسيّة المنشأ" تشابهت هذه الأعراض مع التي يسبّبها فيروس كورونا: "كضيق التنفّس، والشّعور بالاختناق، والتهاب الحلق"، ولم يجد الأطباء لها أيّ مسببات عضويّة حقيقيّة، بالإضافة إلى الاعراض الخفيفة الشّائعة في الطّب النّفسيّ، وأبرزها: "الهلع، الشّعور بالقلق، وتوهّم المرض".
ولفتت "جبر" خلال حديثها مع "الهدف" إلى أنها لاحظت أنّ الحوامل هنّ فئة ارتفعت بينهنّ أعراض الخوف والقلق خلال فترة كوفيد-19، خاصّة أنهنّ يخشينّ الإصابة بالفيروس المستجد خوفًا على صحة الأجنّة في بطونهنّ.
تغريد العرابيد، سيّدة حاملٌ في الشّهر الخامس، تقول في مقابلة مع "الهدف" إنّها شعرت بالخوف الشّديد على جنينها بالتزامن مع بدء تفشّي كوفيد-19 داخل مجتمع قطاع غزّة قبل نحو شهرين، وتصف حالتها: "شعرتُ بالذّعر الشّديد" منذ اعلان وزارة الصّحة في غزّة تسجيل أوّل الإصابات خارج المحاجر الصّحية.
وتضيف: تفاقمت مخاوفي مع الإغلاق الكامل، وأدخلني البتر المفاجئ في الروتين في "عزلة نفسيّة" و"قلق شديد" وبدأ من حولي يصفون اهتمامي بإجراءات الوقاية بـ"المبالغ فيه" لأتحول مع الوقت رويدًا رويدًا نحو الانطوائيّة، والقلق من التعامل مع الآخرين إلى درجة أنني بتُّ أخشى التّعامل عائلتي التي أعيش معها، ونقطن نفس المنزل.
وتعيش العرابيد مع زوجها وعائلته الممتدة، في عمارة مكونة من (6) طوابق في مخيّم الشّاطئ، وتعمل كـ"مثقّفة صحيّة" في لجان العمل الصّحي، وهي أمّ لطفل واحد، وعلى موعدٍ مع آخر، تنتظره بفارغ الصّبر.
"مذ أدركتُ أنّني في هذه الحالة قررتُ أنّ اتجاوزها"، وبدأتُ بمساعدةٍ ودعم المحيطين بي بالعودة إلى حياتي الطبيعيّة، خاصّة مع انهاء الاغلاق الكامل وعودة الروتين جزئيًا ضمن إجراءات السّلامة الخاصّة، "وها أنا الآن أعيش حياتي بشكل طبيعيّ، وألتزم بشكل تامّ بارتداء الكمامة والتباعد الجّسدي خارج المنزل" وأضحيتُ من المؤمنين بفكرة "التّعايش مع الفيروس" تقول تغريد.
جائحة كورونا التي تضربُ البلاد كشفت تقصيرًا حكوميًّا واضحًا يتعلّق بالاستثمار في قطاع الصّحة النّفسية في فلسطين، ففي الوقت الذي يسدّ فيه التضامن المجتمعي محلّ التّقصير الرّسمي نسبيًّا، تبقى الحكومة مطالبة بالالتفات إلى هذا القطاع لسدّ الفجوة.