تواصل جائحة "كورونا" حصد المزيد من الأرواح في قطاع غزّة، إذ بلغ عدد الوفيات حتى يومنا هذا في القطاع بفعل الجائحة (45) وفاة وأكثر من (9816)، فيما تواصل الجائحة أيضًا تضييق الخناق على من هم أشد فقرًا وعوزًا في هذا القطاع المُحاصر منذ أكثر من 14 عامًا على التوالي.
الشاب تحسين البالغ من العُمر (28 عامًا) خريج من كلية التمريض، وكان يعمل في إحدى الكافيتريات في مدينة غزة، ويسكن مع أسرته المكوّنة من تسعة أفراد في منزل بالإيجار في عمارة سكنية في منطقة عسقولة شرق مدينة غزة، ومثله مثل الآلاف في قطاع غزة لم يحصل تيسير على وظيفة حكومية أو بطالة ولو لمرةٍ واحدة.
يقول تيسير: "كنت أعمل حالياً جارسون (نادل) في كافتيريا (استراحة) جنوب غرب مدينة غزة.. أبي كان يعمل حكيماً في مستشفى الشفاء في مدينة غزة قبل أن يُحال إلى التقاعد المالي قبل نحو عامين، وهو ممن كانوا على بند العقود وتوقّف راتبه منذ ذلك الوقت، وبعدها لم نعد قادرين على دفع إيجار الشقة للمالك، وقد واجهنا مشكلات عديدة معه لأننا لا نملك سكنًا آخر نذهب إليه، ومنذ ذلك الوقت أصبحت المُعيل الوحيد للأسرة ولبقية أشقائي".
وتابع: "ولأن دخلي محدود فأنا بالكاد أوفر الطعام للأسرة يومًا بيوم دون أن أدّخر شيكلاً واحدًا لليوم التالي، وشقيقي لديه إعاقة منذ الولادة في ساقه ولا يقدر على المشي ويحتاج بشكلٍ يومي إلى علاجات ومشدّات وأربطة وإبر مكلّفة ماليًا، وفي مساء يوم الاثنين 24/8/2020، بينما كنت أتواجد في الكافتيريا، جاءت قوة من الشرطة الفلسطينية وأبلغت مدير الاستراحة أن لديهم أمر بإغلاق كافة المحلات والكافتيريات بسبب تفشي جائحة فايروس كورونا بين السكّان في قطاع غزة، وبناءً على ذلك أُعلن إغلاق المحل وطُلبَ منّا أن نبقى في منازلنا إلى أن نتلقَ اتصالاً من إدارة الاستراحة للعودة إلى العمل".
لا أملك شيكلاً واحدًا
"كنت أعتقد في البداية أنّ الأمر سيستمر ليوم أو يومين ونعود مرة أخرى، ولكن بعد أن استمر الإغلاق بدأت أفقد صوابي كليًا، فكيف سأستطيع تأمين احتياجات أشقائي وأبي وأمي في البيت؟! وبعد مرور ثلاثة أيام استدنت مبلغًا ماليًا من مالك الاستراحة كي أتدبّر أموري الطارئة من طعامٍ وشراب، لكنني لم أعد أملك شيئًا الآن، وليس بوسعي أن أطلب من المالك مرة أخرى، وليس لدي خيارات وحتى إن رجعت للعمل، فكيف سأعيل أسرتي حيث تراكمت عليّ الديون وعدّاد الكهرباء في البيت من نوع الدفع المسبق والكهرباء مقطوعة كليًا عن الشقة منذ أسبوعين وأنا لا أملك شيكلاً واحدًا حتى أقوم بتعبئته، أمّا غاز الطبخ فلست قادرًا على تعبئة الأنابيب، إنما ألجأ لتعبئة نصف الإنبوبة (الأسطوانة) أو ثلثها على فترات، ويقوم أخوتي بإشعال النار خارج الشقة أو في المطبخ لكي نطبخ، وقد سبّب لنا ذلك الكثير من المشكلات مع مالك الشقة الذي هددنا أكثر من مرة بإحضار الشرطة لطردنا، وسمعت عن توزيع مساعدات مالية على عاملي المياومة لذا توقّعت أن أحصل على مبلغًا يُعينني لعدّة أيّام أخرى لكنني لم أحصل على شيء ولا حتى على سلة غذائية واحدة، ونحن أسرة متعلّمة، وجميع أفراد الأسر من حملة الشهادات الجامعية ولدينا قدرة على العمل، عدا شقيقي المريض، لكنّنا لم نحصل على أي فرصة"، ختم تيسير حديثه.
الفقر يواصل حصد الضحايا
أمَّا أسامة البالغ من العمر (52 عامًا)، فيعيل أسرة مكوّنة من خمسة أفراد من بينهم طفلين، ويسكن في مدينة دير البلح، وحول معاناته يقول: "أعمل في مصنع العودة "التلباني" منذ 10 سنوات عامل باليومية، منذ بداية عملي في المصنع كنت أعمل من 18 إلى 22 يومًا في الشهر، وفي الربع الأول من العام 2020، وإعلان حالة الطوارئ بسبب جائحة كورونا، تغيّرت الأوضاع وتراجعت أيّام العمل فأصبحت أعمل من 8-10 أيام في الشهر فقط. واستمر ذلك حتى تاريخ 24/08/2020 حين أعلنت السلطات عن انتشار فايروس كورونا داخل المجتمع، وفرضت حظر التجول".
وبيّن أسامة أنّه التزم "بالإجراءات الحكومية المعلنة حفاظًا على نفسي وعائلتي وأطفالي والمجتمع، وكان تأثير التدابير الوقائية السلبي كبير على حياتي، حيث نفذت المواد التموينية من المنزل، وأصبح الوضع كارثيًا خصوصًا أنّ دخلي قائم على عملي اليومي، وبسبب الظروف الحالية لم يتسنى لي العمل إلّا يوم واحد في المصنع خلال الأسابيع الماضية، ولا يوجد لي أي مصدر دخل آخر، وأعيل والدتي المريضة، التي تعاني من أمراض مزمنة مثل ضغط الدم والسكر وضيق التنفس (أزمة) وهي مريضة نفسيًا، كما تُعاني زوجتي من مرض السكر، ولا أعلم كيف سألبي احتياجات المنزل ومتطلبات الأطفال".
وأكَّد أسامة أنّه لم يحصل على "أي مساعدة من أي جهة رسمية كانت أو أهلية، أتمنى أن تزول هذه الجائحة ونعود إلى حياتنا الطبيعية على الرغم من صعوبتها ومأساويتها إلّا أنها كانت أفضل حالاً من لا شيء، وفي ظل نفاذ المواد التموينية في منزلي، لا أعلم ما الذي سأفعله حتى أسد رمق أسرتي"، مُطالبًا "الجهات المسؤولة والمعنية النظر بمساواة وعدالة في توزيع المساعدات على أبناء قطاع غزة ومساعدة عمال المياومة، وأخشى أن تطول فترة الحظر وتستمر لعدة شهور فأنا كباقي العمال الذين يعملون في شركات ومصانع غزة، نعمل بأجرٍ يومي زهيد، واليوم الذي نتوقّف فيه عن العمل ينعكس مباشرة على قوت وطعام أبنائنا".
مواجهة كورونا تقتضي حماية الفقراء من الجوع
فيما يقول "إ. م" البالغ من العمر (43 عامًا)، حول معاناته التي تنطبق على عشرات آلاف عمال المياومة، إنّه يُعاني بشكلٍ يومي بسبب انتشار مرض كورونا "فأنا عامل باليومية، ومتزوج وأسرتي مكونة من ٨ أفراد، رزقت بـ6 أطفال أكبرهم يبلغ من العمر 12 عامًا، وأصغرهم 6 أشهر، وأنا مريض بالانزلاق الغضروفي في الظهر، وأنا بحاجة إلى إجراء عملية جراحية، ومنذ سنوات وأنا أتنقّل من عملٍ مؤقت إلى آخر، وأعاني في توفير احتياجات أسرتي الأساسية قبل حظر التجوال جراء انتشار الفيروس في القطاع، وفي بعض الأحيان كنت أعمل لساعات طويلة في أكثر من عمل لأحاول توفير احتياجات أسرتي، وعملت في توزيع الصحف اليومية وكنت أقوم بإيصالها سيرًا على الأقدام لتوفير ثمن المواصلات، وكنت أجوب شوارع محافظة خانيونس لساعاتٍ طويلة، ولا تتجاوز أجرتي اليومية 20 شيقلاً، وأعود بعدها إلى البيت لأنال قسطًا من الراحة، وإذا توفّرت أي فرصة عمل بعد ذلك خلال اليوم كنت لا أفوت الفرصة رغم الألم الذي أشعر به في ظهري من إثر مرض الغضروف".
ويُتابع: "كنت أعمل في رفع حجارة البناء ورفع الرمال، وأي أعمال يدوية أخرى يجلبها لي الأصدقاء للحصول على مقابل مادي يساعدني في توفير احتياجات أسرتي، كنت دائمًا أتوقّع أن تتحسّن الظروف أو أن أحصل على عمل مستقر أو مساعدة تمكنني من إقامة مشروع صغير خاص بي، وخلال السنوات الماضية، ورغم ظروفي القاسية، أكملت دراستي وحصلت على دبلوم إدارة أعمال من الكلية العربية للعلوم التطبيقية، على أمل أن أحصل على وظيفة أو فرصة عمل ثابتة، وكنت أقول في نفسي بأن الظروف الصعبة التي استمرت معي منذ سنوات طويلة بأنها مؤقتة، وفوجئت مع بداية عام 2020، بخسارة عملي في توزيع الصحف اليومية بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية وتراجع عدد المشتركين في الصحف اليومية، الأمر الذي أثر على حياتي وجعلني لا أستطيع توفير أبسط متطلبات أسرتي.. استلفت قبل الإعلان عن انتشار فيروس كورونا مبلغًا من المال من أحد الأقارب وقمت بتجهيز بسطة اكسسوارات جوالات قديمة، كنت أذهب إلى بسطتي من الساعة التاسعة صباحًا حتى الساعة الثامنة مساءً، وكان دخل البسطة قليل جدًا من 10 – 15 شيقلاً، وبعض الأيام أقل من ذلك وهي بالكاد تكفي لتوفير طعام لأطفالي ولكن ما باليد حيلة، ومع عودة المدارس وافتتاح الفصل الدراسي الجديد، فكرت في تطوير البسطة وبيع المستلزمات المدرسية، والحمد لله أنني لم أستطع توفير المال الكافي لذلك لكانت خسارتي أكبر، بعد أن تعطّلت المدارس وأعلنت وزارة الصحة والداخلية اكتشاف حالات مصابة بفيروس كورونا واتخاذها إجراءات وقيود لمنع تفشي المرض في المجتمع من ضمنها وقف المدارس ومنع التجوال، ومنذ تاريخ 24/8/2020، جلست في المنزل، وأنفقت ثمن البضاعة التي ادخرتها لتسديد الدين وجلب بضاعة جديدة، وأعاني الآن في توفير احتياجات أسرتي اليومية، فأصحاب المحلات يطالبوني بتسديد جزء من الديون لإعطائي ديون جديدة، وأنا أعيش الآن كل يوم بيومه، واعتمد على الاستدانة من الأصدقاء والجيران وأصحاب الدكاكين، وأتمنى ألّا تطول هذه الفترة لأنها أثّرت بشدة على حياتي وعلى حياة أطفالي، وعلى صحتي وصحة زوجتي النفسية".
يُشار إلى أنّ جميع المقابلات التي وردت في هذا التقرير هي خاصّة بمركز الميزان لحقوق الإنسان في قطاع غزّة، إذ سلّط من خلال مدوّنته الخاصة الضوء على جزءٍ بسيطٍ من المعاناة التي تعيشها شرائح مختلفة جرّاء جائحة "كورونا" وآثارها داخل القطاع المُحاصر.
وفي الآونة الأخيرة أكَّدت تقارير عديدة على خطورة الأوضاع المعيشيّة والاقتصاديّة التي تتدهور يومًا بعد يوم في قطاع غزّة خاصةً لدى شرائح الفقراء والأسر المحتاجة التي تعتاش يومًا بيوم، إذ قضت جائحة "كورونا" على أعمال هذه الأسر البسيطة بشكلٍ كامل بفعل حالة الإغلاق.
وهناك ما يزيد عن 85% من سكّان القطاع يعيشون تحت خط الفقر، في ظل استمرار الحصار الصهيوني والإغلاق المستمر، فيما زادت جائحة "كورونا" من الأوضاع الإنسانية تعقيدًا، ما يتطلّب تدخلاً دوليًا عاجلاً، فيما خرجت مناشدات عديدة للجهات المعنية في قطاع غزّة بضرورة توزيع المساعدات على كل المواطنين وخاصة المحجورين منهم والمصابين بالفيروس.