Menu

التعايش مع فيروس كوفيد-19 فلسطينيًا: إعادة بناء "مجتمع الصمود" وتعزيزه!

م. تيسير محيسن

نُشر هذا المقال في العدد 20 من مجلة الهدف الإلكترونية

كنت بصدد إعداد الجزء الثاني من مقالي حول التعايش مع كورونا في الحالة الفلسطينية، حين طالعت على بوابة الهدف تقريرًا بعنوان "جائحة كورونا تواصل الفتك بالأسر الفقيرة في قطاع غزّة" وقد وجدت في الاقتباسات المذكورة ما ساعدني على كتابة هذا المقال.   
بينما يواصل الفيروس تفشيه، يسجل عدد الإصابات قفزة ملحوظة والعالم وفي بلادنا، ومع هذا، لم يطرح أحد بعد استراتيجية واضحة للتعامل مع الوباء؛ إذ يقتصر الأمر على بعض التدابير المرتبكة وأحيانا المتناقضة؛ وكأنها لا تشتق من رؤية واحدة وشاملة. 
السياق الذي نشأت فيه "أزمة كورونا" في بلادنا سياق معقد؛ ينطوي على عديد من الأزمات السابقة وبعضها من طبيعة بنيوية ممتدة. إن التعايش مع الفيروس وتدابير احتواءه ليس عملية سهلة، أو حتى ممكنة إلا بجهود حثيثة ومستمرة، ومن محاذير التعايش أن يفضي إلى "التكيف" مع أزمات ناجمة عن الاحتلال، أو يدفع باتجاه تعزيز التعاون معه؛ من عناصر هذا السياق استمرار الانقسام وتردي الأوضاع الإنسانية وتغول الاحتلال وانعدام الثقة في حكومة السلطة بشقيها، وضعف الإمكانيات.
ومثلما فاقمت كورونا الأزمات القائمة؛ عقّدت هذه الأزمات جهود مكافحة الوباء؛ فأزمة الرواتب، مثلًا، فاقمت الأزمة الاقتصادية وأزمة الأمن الغذائي، والانقسام السياسي أخل بالتوازن الاجتماعي، وبالتالي القدرة على التكيف والتوافق، وأيضا التحكم في أسباب التوتر والاحتقان ومواجهة التحديات ومدى القابلية الاجتماعية للتأقلم والتفاعل معها.
من بين أبرز التأثيرات السلبية الناجمة عن السياق المعقد والمركب أن أكثر من 100 ألف منشأة اقتصادية تعطلت من بين 147 ألف منشأة؛ تراجع الجباية وتحصيل الرسوم والضرائب مع أزمة سيولة وتراجع الطلب؛ زيادة الإنفاق الحكومي على الاحتياجات الطبية والاجتماعية والاقتصادية؛ تعرض سبل عيش الأسر للمخاطر.
قبل كورونا، كان أكثر من ربع الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر، ومن المتوقع أن ترتفع النسبة إلى 30% في الضفة الغربية و64% في غزة، ومعدل البطالة إلى 27% (49% في غزة و15% في الضفة الغربية).  
أصيب حتى الآن أكثر من 10 آلاف مواطن من قطاع غزة، وما يتبع ذلك كله من تأثير على الصحة النفسية للأفراد وانتشار أوسع للمشاكل والاضطرابات؛ من قبيل الشعور بالهلع والقلق والاكتئاب والوسوسة. هذا وانقلب نمط حياة الناس رأسًا على عقب، فلحقت أضرار جسيمة بالمنظومة التربوية والتعليمية وبالعملية الإنتاجية، وتفاقمت المشكلات الاجتماعية الناجمة عن "العزل" وقيود السفر وتغيرت طقوس الزواج وتشييع الموتى وبيئات العمل.  
تفاوتت حكومات العالم في أداءها، والاضطلاع بأدوارها المتوقعة منها؛ من حيث السيطرة على الفيروس والعمل على طمأنة الجمهور وتأمين احتياجاته الأساسية. في بلادنا ونظرًا للسياق المذكور، اعتمدت الحكومة أساسًا على إعلان حالة الطوارئ والقيام بتدابير أمنية. 
ومما يلفت الانتباه أن إجراءات السلطة بشقيها لم تتخذ بالتشاور والمشاركة الفعلية مع الجمهور وممثليه ومنظماته، واتسم التطبيق في كثير من الأحيان بالقسوة والتعسف والارتباك. كما لم يكلف القائمون على إدارة الطوارئ أنفسهم -بعيدًا عن تصريحات أشبه بالفرمانات- بشرح الموقف بانتظام وبشفافية (يشعر المواطنون أن رجال الأمن هم من يقودون حالة الطوارئ وليس المهنيون)، وعليه ليس غريبًا أن تشيع حالات ليست قليلة من التخريب وانعدام الرقابة والفساد والقمع. 
طبقًا للقانون الأساسي يتطلب تمديد حالة الطوارئ مصادقة ثلثي أعضاء التشريعي، في غيابه وغيبوبته، يواصل الرئيس إصدار مراسيم التمديد للمرة التاسعة على التوالي، وتواصل "حماس" إظهار سيطرتها على قطاع غزة من خلال تشديد القيود وتخفيفها دون منطق مفهوم؛ لوحظ أن المنع يتركز في الأطراف بينما يتمتع المركز بحرية الحركة أو يمكن أن يمنعك حاجز من الدخول إلى منطقة "حمراء"، بينما يشير لك شرطي بيده إلى طريق ترابي جانبي، وهكذا اتسمت إجراءات تقييد الحركة بالذاتية والاجتهاد الآني.  
ولعل السؤال الذي يتداوله كثيرون من العامة ومن النخبة على حد سواء: أين تقع حالة الطوارئ وتدابير تقييد الحركة على متصل العلاقة بين الضرورة والخيار؟! وهل الانتقال من حالة الطوارئ إلى التعايش يعني الانتقال من "أرض الواقع" إلى "الفضاء التخيلي"، أو من الوجاهة إلى الرقمنة؟ باعتبار أن أهم طريقة لوقف التفشي هي التباعد الاجتماعي؟!
التعايش لا يعني أبدًا "العودة إلى الحياة الطبيعية"، ليس فقط لأن الأمر مرهون بمدى وعي المواطنين والتزامهم بإجراءات وتعليمات السلامة والوقاية، وإنما لأن ذلك بات من المستحيل؛ فالعالم يتغير وتتغير معه أنماط الحياة. 
تلجأ المجتمعات للتعايش للحيلولة دون وقوع الانفجار، وللتخفيف من حدة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ولتجنب الفوضى نتيجة نقص الغذاء والماء والكهرباء والأدوية. في بلادنا، علاوة على ذلك، نصف الأسر التي لديها أطفال (6-18سنة) لم تشارك في أنشطة تعليمية عن بعد نظرًا لعدم الاتصال مع شبكة الانترنت، وأغلب معيلي الأسر؛ إما توقفوا عن العمل خلال الإغلاق، أو تغيبوا عنه أو لم يتلقوا أجورهم، وما لا يقل عن 40% من الأسر انخفض دخلها بمقدار النصف، 41% انخفضت نفقاتها الشهرية على المواد الغذائية، 47% لم يكن لديها القدرة على تناول طعام صحي ومغذي، ومع ذلك لا يتفق الجميع على ضرورة التعايش، وإن كانت الأغلبية معه؛ ففريق الأغلبية يطالب بوضع خطط عاجلة للتعايش مع اتخاذ الاحتياطات اللازمة، سواء إجراءات السلامة أو تدابير التخفيف من الأعباء كتسهيل القروض والمنح وإعادة تأهيل المدراس والمرافق العامة، ومن هذا الفريق من يدعو إلى التطبيق التدريجي؛ فريق آخر يرى أنه من المبكر التعايش، وأن الوصول إليه يتطلب تنمية ثقافة التعامل مع الوباء، اشتراط تساوي أعداد المصابين بالمتعافين. ويبقى السؤال: كيف نحد من انتشار الوباء بينما نواصل القيام بأنشطتنا الاجتماعية والاقتصادية المعتادة؟
نحن بصدد مرحلة جديدة، تتمثل بالانتقال من الإغلاق ومنع الحركة، إلى التعايش، ما يتطلب تبني سلوكيات جديدة للأفراد والمؤسسات، وتعميم إجراءات التوعية بآليات العمل في مختلف القطاعات والتواجد في الأماكن العامة وممارسة الفعاليات الإنسانية (التسوق، الترفيه، العمل، السفر) على نحو يقلل من مخاطر الإصابة بالفيروس. 
من بين أشياء كثيرة ربما يكون الوباء قد وجه ضربة كبيرة للعقل الإنساني، لكنه بذات القدر يدشن بداية عصر جديد من إعادة هيكلة الوجود البشري؛ التعايش، باعتباره شكلًا من أشكال التكيف والتعلم وإدخال أنماط جديدة من الفكر والفعل والسلوك والبنى المادية، هو نمط من أنماط "الصمود". 
الصمود وبالتالي التعايش، ينمو ويتطور ويتعزز، بوصفه عملية اجتماعية وثقافية، ومن أبرز ركائزه: الاقتصاد الخلاق والمتنوع؛ القيادة الحكيمة والتنظيم المتماسك وتحقيق الاجماع؛ البنية التحتية الملائمة وتوفر الخدمات الأساسية؛ أخيرًا التعلم والوعي والانفتاح وشبكات الأمان الاجتماعي. 
من منظور اقتصادي واجتماعي، التعايش فلسطينيًا يعني التكيف مع التدابير المتخذة ومحاولة تقليل الخسائر والمخاطر إلى الحد الأدنى وصولًا إلى التعافي، وأيضًا اتباع سلوكيات وأنماط علاقات تقلل الإصابة وتعزز الالتزام. 
ثمة بعض الملاحظات: التدابير الاقتصادية المتخذة قاصرة وتعتمد على الجهود الذاتية أو تدّخل المنظمات الدولية (الحماية الاجتماعية ومشاريع الطوارئ)؛ تواضع جهود الحكومتين في الإعفاء الضريبي والسيطرة على الأسعار وإعادة ضبط سلاسل التوريد، وبعضها متواطئ طبقيًا؛ فجوة في الاستعداد للتعامل مع الوباء (سلوكيًا واجتماعيًا واقتصاديًا)؛ تسجيل حالات قمع وانتهاك للحريات والحقوق؛ الانقسام أضعف إمكانية التعايش وسمح بإساءة استخدام السلطة، وحال دون تحقيق الشراكة التي تعتبر شرطاً لازمًا وضروريًا للتغلب على المحن وتحمل الأعباء دون تمييز (لجنة الطوارئ العليا اقتصرت على جهة واحدة)؛ لم تهتم اللجنة بالتغذية الراجعة، إلا ما كان من صخب وسائل الإعلام أو نتائج لقاءات المسؤولين بالجمهور. لا أحد يجزم بصحة النماذج التي قدمتها لجان الطوارئ والاستدلال على صوابية الحلول من حيث التناسب والكفاية، بعض التدابير كانت تمييزية تجاه فئات معينة، وبعض التدابير الرسمية والسلوكيات الجماهيرية تفسر بالمراوحة بين الرغبة في الاستجابة السريعة للكوارث وبين الحرمان من الموارد والوصول إليها.  
اتسم سلوك أهل غزة باللامبالاة، والاطمئنان القدري حتى أن بعضهم روج لمعجزة إلهية. لا يشعر الناس بالخطر وإن أصيبوا أو خالطوا مصابين؛ فالإصابة أقل خطرًا مما خبروا من معاناة. أنماط جديدة من السلوك يمكن ملاحظتها سواء جاءت بقناعة أم بتأثير الخوف، من ذلك تغيير نمط الحركة عبر تقليصها واقتصارها على الضرورة وبالتزام صارم بالإجراءات؛ بروز ثقافة جديدة خاصة بالسوق وعمليات التسوق؛ التركيز على الاحتياج الفعلي؛ الشراء بالطلب؛ الاكتفاء ببدائل منزلية. كما تغيرت العلاقات داخل الأسرة وداخل المجتمع؛ من حيث إعادة توزيع الأعباء وتبادل الأدوار؛ أهمية التواصل؛ تزايد العنف المنزلي؛ إيلاء كبار السن والمرضى المزمنين عناية خاصة؛ تراجع وتيرة المجاملات وتبدل أشكالها،كما تبدلت أنماط الترفيه والرياضة والندوات العامة والاجتماعات العائلية باتجاه مزيدًا من الرقمنة، بديلًا عن كل الأنماط التي تقوم على التجاور واللقاءات الوجاهية.