رغم استقرار النظام العالمي ما بعد انتهاء الحرب الباردة، على هيمنة أمريكية أحادية وسيادة اقتصاد السوق، تطورت "حركية اقتصادية وسياسية" لم تشكل تحديًا للهيمنة فحسب، وإنما فرضت ضرورة إعادة هيكلة النظام برمته. مع عودة روسيا وصعود الصين وبروز اقتصادات قوية وانكفاء القوة الأعظم في عهد ترامب، بدا أن النظام يعيش حالة من "الفوضى"، التي تعني انعدام الأمن، وبالتالي انعدام الثقة بين الدول وسعي كل منها للاستقواء. بات العالم يعيش لحظة فراغ، أو ما يسميه البعض "خلو العرش"، بين قوة كانت راسخة لم تعد قادرة أو راغبة في القيادة، وأخرى صاعدة غير قادرة، بعد، على القيادة.
يعاني النظام الدولي من أزمة عضوية (بلغة غرامشي)، إذ يدور الصراع في لحظة ما بين وحدته وانقسامه بين قوتين متقاربتين. الصراع الدائر بين الولايات المتحدة والصين، هو أمر لا مفر منه؛ ولكن ليس بالضرورة أن يفضي إلى حرب؛ فالفوضى قد تكون أيضًا شرطًا لتعاون وثيق بين أنداد وشركاء.
تحظى العلاقات الصينية الأمريكية بالاهتمام؛ وقد بات مستقبلها محل تخمينات وتخوفات في ظل "الحرب التجارية" وحالة الاستقطاب الحادة، هذه المقالة عبارة عن قراءة تحليلية، لديناميات الوحدة والصراع، بالاستعانة بنظرية غرامشي، ونظرية جون ميرشايمر حول العلاقات الدولية و"فوضى النظام".
للصين ماض عريق وحضارة مزدهرة. على مدى قرون، تفوقت على بقية العالم في مجالات عدة، مع أسرة تشين حققت التوحيد، ومع أسرة هان تبنت الكونفوشيوسية؛ أسرة سونغ أول حكومة في التاريخ تطبع العملات الورقية وتؤسس جيشًا دائمًا. كما طورت في عهد أسرة مينج (1368 - 1644) جيشًا قويًا واقتصادًا مزدهرًا، وفنًا راقيًا.
بعد وفاة ماو، نفذ الرئيس الجديد، دنغ شياو بينغ، 1979 سلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، كانت بمثابة علامة على تحول النظام الاقتصادي، من نظام مخطط إلى نظام مختلط، واصل الرؤساء الآخرون تحسين الأداء الاقتصادي؛ أدت زيادة النمو الاقتصادي إلى إخراج 150 مليون فلاح من الفقر وحافظت على متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بنسبة 11.2٪.
في 2013، تم انتخاب شي جين بينغ رئيسا للصين؛ أُقرت خطة إصلاح واسعة النطاق لتحقيق نمو أكثر كفاءة وإنصافا واستدامة. اشتملت الخطة المكونة من 60 بندًا، على إحداث تغيير هيكلي (اقتصاد مدفوع بالاستهلاك)، تحسين بيئة الاستثمار. كما تضمنت الخطة إنشاء نظام ضمان اجتماعي وإصلاح النظام الصحي، ضمان استمرار معدل النمو الاقتصادي السنوي بنسبة 7٪ وتطوير العملة الصينية.
على الرغم من أنه لا يزال أمام الصين الكثير لإنجازه، فقد واصلت تقدمها السريع، وتحسنت مستويات المعيشة واتسع مجال الاختيار الشخصي؛ تندرج الصين ضمن البلدان "متوسطة الدخل" ذات الاحتياجات التنموية المعقدة، والتحدي الرئيس أمامها هو انتقالها إلى دولة ذات "دخل مرتفع"، وأيضًا تحقيق حلمها، بأن يجري الاعتراف بها كقوة عظمى تشارك بفعالية في الحوكمة وفي الاقتصاد العالميين.
من السمات الأساسية للصين الشعبية "قومية الدولة" (تحويل الدولة ذات السيادة إلى أمة أو دولة-أمة)، و"رأسمالية الدولة" (تحكم مؤسسات الدولة في الثروة والسلطة) أو ما يعرف بالقومية الاقتصادية بوصفها أحد أشكال قومية الدولة.
في نهاية عام 2013، ظهرت "مبادرة الحزام والطريق"، وهي عبارة عن برنامج طموح لإنشاء بنية تحتية تربط المناطق الحدودية الأقل نموًا مع الدول المجاورة. للمبادرة جانبان: جيوسياسي (نفوذ سياسي وعسكري)، اقتصادي (معالجة التفاوت الإقليمي المتزايد في الصين مع تحديث اقتصاد البلاد).
يعتقد البعض أن الصين؛ إنما أرادت أن تحاصر التوجه والوجود الأمريكي في المنطقة، وأيضًا أن تتخلص من فائض القدرة الإنتاجية الذي تحقق بفضل سياستها في مواجهة أزمة 2008، وتصدير "معاييرها ومواصفاتها"، وليس منتجاتها فحسب: (مثال صناعة السكك الحديدية فائقة السرعة، وتطوير تقنية G5).
علاقات متوترة
يعتبر القرن 20 قرنًا أمريكيًا بامتياز (لا سيما بعد نهاية الحرب الباردة)، مع التحولات الداخلية (الاستقطاب والتراجع الاقتصادي) وتبدل الظروف وهياكل السلطة الدولية: (أزمة كورونا؛ أزمة الليبرالية الجديدة؛ صعود الصين؛ الأزمة المالية...) بات استمرار الهيمنة الأمريكية أمرًا شبه مستحيل. ولما كانت الهيمنة، تعكس شعوراً بالتفوق الحضاري (وحتى تشترطه)؛ فإنه مع ترامب وإدارته، فقدت أمريكا هذا الامتياز وتضاءلت سلطتها الأخلاقية وجاذبية نموذجها. يصعب الاعتقاد أن بايدن سيصلح ما أفسده الدهر.
في أعقاب مهمة كيسنجر السرية "ماركو بولو"، أنهى وصول نيكسون إلى بكين (1972) ولقاء ماو تسي تونغ، أعواما من القطيعة. شكلت نهاية الحرب الباردة انعطافة في العلاقات الصينية الأمريكية. على العكس من سياسة كلينتون تجاه الصين، كان لدى بوش الابن شكوك تجاه قوة الصين المتنامية، وقد اعتبرها "منافسا استراتيجيا".
ثمة من يعتقد أن 3 قرارات "خاطئة" اتخذت من قبل 3 إدارات أمريكية؛ ساهمت في وصول الصين إلى ما وصلت إليه: الرد اللين على ربيع بكين؛ دعم انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية (WTO)؛ التوسط في حل أزمة سكاربورو شول 2012.
في ظل إدارة أوباما سادت علاقات إيجابية إلى حد ما، عكست درجات متفاوتة من التعاون والمنافسة؛ امتنع أوباما عن التصعيد؛ توسع نطاق العلاقة ليشمل تغير المناخ، ونزع السلاح النووي، والأمن السيبراني، ومكافحة الإرهاب، والحد من الفقر. ومع ذلك، شاب العلاقة نقص الثقة وسوء الفهم وغلبة التصورات الخاطئة.
فور انتخابه رئيسًا، أعلن ترامب حربًا على الجميع، وخصوصًا الصين. أنهى حقبة شهدت فيها العلاقات بين البلدين مزيجًا من عناصر الانخراط والاشتباك؛ التنافس والتعاون. تعكس استراتيجية الأمن القومي 2018، "المنافسة الاستراتيجية"P حالة من عدم اليقين بشأن ما يمكن أن تنتهي إليه هذه الحرب؟ وماذا يعني الفوز فيها؟ ولمن يكون النصر؟
ثمة وجهتا نظر أمريكيتين تجاه بكين المتشددة، وخلفها محافظون وقوميون، مفادها أن الصين، سواء تمقرطت أو انهارت؛ بجعة سوداء، سيكون لها تأثير تخريبي كبير. تجد هذه الرؤية جذورها في نظرية "صدام الحضارات". يشجع أصحاب الرؤية المتشددة العقوبات والتعجيل بالحرب. من وجهة نظر الرؤية المتساهلة؛ الصين مجرد "منافس اقتصادي" مرن أيديولوجيًا، وبالتالي لا بديل عن التعايش معه (المنافسة والتعاون).
حرب تجارية
بعد أن تولى ترامب منصبه شن حربًا تجارية ضد الصين (عقوبات ومراقبة وقيود)، تهدف إلى عدم التصالح مع صعود قوة عظمى ذات نظام سياسي وأيديولوجية متميزة؛ التقدم الصيني يضر بالمصالح التجارية الأمريكية، ويؤثر على الوظائف، ويساهم في التحديث العسكري الصيني اعتمادًا على اقتصاد الابتكار الأمريكي و"سرقة التقنيات الأمريكية". اشتدت حدة المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية؛ اُتهمت الصين بأنها تضع حواجز أمام أسواقها وتستغل الانفتاح الأمريكي، وتطبق سياسة حمائية وتنتهك حقوق الملكية الفكرية عبر عمليات السرقة والقرصنة؛ تعززت المواجهة على جبهتي التجارة والأمن القومي.
كشفت سياسة ترامب تجاه شركات صينية تعمل في الاتصالات، عن فجوة تكنولوجية تتزايد يومًا بعد يوم بين البلدين، أما التذرع بأسباب تتعلق بالأمن القومي ففيها نظر ولا يوجد دليل ملموس عليها. بالمقابل ينظر الصينيون إلى هذه القيود باعتبارها جزءًا من جهد أكبر لمنع الشركات الصينية من الوصول إلى السوق الأمريكية، ولا بد من الرد. من الواضح أننا بصدد قيام نموذجين منفصلين للحوكمة الرقمية العالمية (البلقنة)، في مواجهة خطط أمريكية لـ"شبكة نظيفة"، ردت الصين بالتشديد على "السيادة الالكترونية".
لا يصعب القول إن العلاقة الصينية الأمريكية؛ خضعت وسوف تخضع دومًا لديناميات متناقضة؛ تصبح الحرب معها محتملة؛ فمن اختلاف الأنظمة الاجتماعية والأيدلوجية إلى اختلاف المصالح الاقتصادية والاحتكاكات الإقليمية وتباين وجهات النظر تجاه قضايا دولية كثيرة. تفشي وباء كورونا فاقم الأمور نحو مزيد من التصعيد وصلت حد الاتهامات المتبادلة حول منشأ الفيروس واستعمال أوصاف عنصرية غير لائقة.
توجد دوافع للتصعيد لدى الطرفين؛ من جانب الأمريكان كراهية الأجانب "شيطنة الصين"، إحياء التصنيع والاستقلال في مجال الطاقة. ولدى الصينيين شعورهم بالاضطهاد التاريخي، الإصلاحات الاقتصادية ورغبتهم في المشاركة في قيادة العالم. إذن فالحرب التجارية لا تتعلق بالتجارة والمصالح الاقتصادية فحسب، وإنما بالهيمنة أيضًا.
يرى البعض أن القيادة الصينية ربما لا ترغب في التصعيد؛ فهل تلتقط إدارة بايدن المبادرة وتقطع مع إرث ترامب المدمر؟! تعلمنا أزمة كورونا أنه لا بديل عن التضامن الإنساني، وأن مواجهة التحديات بشكل جماعي كفيل بتحقيق إنجازات رائعة؛ شرط أن يعمل الجميع على التخفيف من الضيق السياسي والإحباط الاقتصادي والاجتماعي الناجمين عن الصراعات والعولمة المتوحشة والإدارة الخاطئة للأزمات. "إن فيروس كورونا يتطلب تعزيز التضامن الدولي والعمل المشترك، واتباع إرشادات العلم وإطلاق العنان للدور القيادي لمنظمة الصحة العالمية، ووضع استجابة دولية مشتركة للتغلب على الجائحة"[1]
[1] من خطاب الرئيس الصيني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر 2020)