ربمّا تعيش أجهزة الاحتلال الصهيوني ومؤسّساته حالةً من القلق بعد صدور قرار قضاة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بوجود صلاحيةٍ للمحكمة بالتحقيق في جرائم حرب ارتُكِبت بحق الفلسطينيين على الأراضي المحتلّة عام 67، إذ بموجب هذا القرار يصبح من المحتمل استدعاء مئات المسؤولين الأمنيين وضباط الجيش الصهيوني وصولاً إلى حد مُحاسبتهم.
ومن الملاحظ أنّ قرار الجنائيّة الذي صدر يوم الجمعة 5 شباط/ فبراير الجاري في لاهاي، قوبلٍ بترحيبٍ فلسطيني "زائدٍ" إن صح التعبير، فقد رأى كثيرون من أصحاب الاختصاص أنّه من المبكّر الاحتفال بمثل هذه القرارات -على أهميّتها- سيما وأنّها تعتبر خطّوة أولى من الخطوات الهامّة، ولكن في مشوار الألف ميل نحو تحقيق العدالة.
وللاستزادة والاستيضاح أكثر، هاتفنا نائب مدير عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان الأستاذ جميل سرحان وتحدّثنا بصوتٍ عالٍ حول ماهية هذا القرار، وما هو المطلوب منّا فلسطينيًا إزاء مرحلة ما بعد صدور إقرار الولاية على الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، حيث أكَّد سرحان على أنّ "قرار الدائرة التمهيديّة لمحكمة الجنايات الدوليّة قد بسط الولاية على الأراضي الفلسطينيّة في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة و القدس المحتلة، وهذا يدلّل على أنّ للمدعية العامة للمحكمة سلطة البداية في التحقيق، أي عليها البدء بالاستماع إلى الشهادات والحصول على الإفادات والملفات المتكاملة للضحايا، وفي المقابل يجب على المدّعية أن تشكّل ملفات متكاملة من أجل تحديد الجناة من السياسيين والعسكريين الإسرائيليين المسؤولين عن تلك الجرائم المرتكبة بحق أبناء شعبنا الفلسطينيين وتحديدهم الآن في فترة التحقيقات وقد يحتاج الأمر إلى إصدار أوامر قبض بحق هؤلاء".
هناك حالة تراخي من قِبل المدعية العامة
وبيّن سرحان خلال حديثه، أنّ "إصدار أوامر القبض يتم بعد إكمال الملف، أي تتقدّم المدعية العامة بطلبٍ للدائرة التمهيديّة في المحكمة والدائرة مسؤولة عن إصدار أوامر القبض، ولكن إذا نظرنا إلى الأمر بشكلٍ عام نرى أنّ دولة فلسطين قد انضمت إلى المحكمة في العام 2015، وكان ينبغي منذ انضمامها وتقديم الكثير من البلاغات وتقديم الملف من وزارة الخارجيّة الفلسطينيّة بطلب تحقيق بشأن جرائم الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوان 2008 و2012 و2014، كان ينبغي أن تتقدّم المحكمة بإجراءات جدّية، ولكن منذ العام 2015 وحتى تاريخ صدور القرار لم يكن هناك سوى إجراءاتٍ تمهيديّةٍ لما قبل مرحلة فتح التحقيق وهذا يدلّل على بطء في الإجراءات وحالة واضحة من التراخي التي يجب على المدعية العامة استدراكها وأن تسعى بكل قوّة إلى عدم الإطالة في إجراءات التحقيق".
وتابع سرحان للـ"الهدف": "مثلاً في ملف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في العام 2014 نعلم أنّ كل شاشات التلفزة وثّقت جرائم الاحتلال خلال هذا العدوان، ولدينا أيضًا لجان التحقيق على الأرض التي عملت على توثيق كل الوقائع، وقدّمت المؤسسات الحقوقيّة آلاف الوثائق بشأنها، ومع ذلك فإنّ المدعية العامة تأخرت في اتخاذ أي إجراءات بشأنها، والمسألة الثانية الهامة أنّه كان بإمكان المدعية العامة أنّ تبدأ بإجراءات فتح ملف التحقيق دون اللجوء لتقديم طلب تحديد الولاية القضائيّة، فهذا الطلب استكمالي وتابع، لكن تقدّمت بالطلب للمحكمة في نهاية العام 2019 وخلال العام 2020 كاملاً وحتى بداية العام 2021 ماطلت المحكمة في إجراءاتها بادّعاء وجود جائحة كورونا، لكن كل هذا يدلّل على بطء شديد في الإجراءات".
هناك نوايا لاتهام فلسطينيين بارتكاب مُخالفات
وشدّد سرحان على أنّ "ما نريده في المستقبل هو إجراءات سريعة وفتح الملفات والاستماع إلى كافة الشهود بجديّة كبيرة وبسرعة لتحديد الجُناة، ولن نستطيع ضمن كل خطوة أن ننتظر خمس أو عشر سنوات إضافيّة، فهذه إجراءات تستوجب إنصاف الضحايا الذين لا يجب أن ينتظروا مدد زمنيّة طويلة"، لافتًا إلى أنّ "القرار الأخير هو بمثابة خطوة واحدة فقط، وفي رسالة المدعية العامة فاتو بنسودا للمحكمة الجنائية قالت إنّه تبيّن لها من حيث المبدأ اعتقاد وجود جرائم قد ارتُكِبت على الأرض (الضفة، غزة، القدس) من قِبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، ومع الأسف الشديد ذكرت أيضًا أنّ هناك اعتقاد بوجود انتهاكات ارتُكِبت من قِبل الفصائل الفلسطينيّة على الأرض لها علاقة فيما يُسمى (إطلاق صواريخ دون تمييز، وانتهاكات أخرى فيما يُسمى استخدام المدنيين كدروعٍ بشرية، وانتهاكات فيما يُسمى عدم تمكين المتعاونين مع الاحتلال من العدالة وتقديمهم إلى محاكمة عادلة وقتل عدد منهم خلال العدوان الإسرائيلي)، أي أنّ هناك نوايا لاتهام فلسطينيين بارتكاب مُخالفات أو أخطاء".
ضغوطات كبيرة على المحكمة
ورأى سرحان أيضًا أنّ "المدعية العامة للمحكمة الجنائية ملزمة في كل الأحوال بقياس وتقدير حجم كل الانتهاكات بالنظر إلى عددها وتحديد كل أسماء المتهمين فيها من أجل التقدّم بطلب للدائرة التمهيديّة في المحكمة لإلقاء القبض على الأشخاص المزمع اتهامهم للمثول أمام المحكمة في هذه التحقيقات"، مُشددًا على أنّ "المحكمة الجنائيّة واجهت ضغوطات إسرائيليّة وأمريكيّة كبيرة جدًا، حيث تعرّض عدد من موظفيها للتهديد بشكلٍ مباشر، وتعرّضت المحكمة للتهديد بوقف التمويل من قِبل الولايات المتحدة، وتبع ذلك تصريحات نتنياهو التحريضيّة التي قال فيها: إنّ هذه المحكمة سياسيّة وليست قانونيّة، وكل هذا التحريض لأنّ الاحتلال يعلم جيّدًا أنّه إذا استمرت الإجراءات القانونيّة بشكلها السليم فإنّ قادته سيتعرّضون فعلاً للمُحاكمة وهو يسعى للضغط وإعاقة عمل العدالة وتعطيل عمل المحكمة ويحرّض عليها ليل نهار لأنّ سير الأمور كما ينبغي سيؤدّى حتمًا إلى محاكمة قادة كيانه".
يجب عدم استغلال الخطوات القانونيّة سياسيًا
وأردف سرحان في هذا الجانب بالقول: "الجديّة في إجراءات المحكمة والوصول إلى نتائج هو ما يمكن أن نرّحب به بالكامل وهذا مسألة قابلة للتقييم في نهاية المسار وليس في البداية التي نحن فيها، وفترة التحقيق هي بداية فقط تستوجب اتخاذ كل الإجراءات وننتظر كيف ستسير الأمور خلال التحقيقات"، وحول إذا ما ذهبت السلطة الفلسطينيّة لاستخدام قرار المحكمة الأخير كورقةٍ تفاوضيّة مع الاحتلال مستقبلاً في ظل إدارةٍ أمريكيّةٍ جديدة، عقّب سرحان: "نحن كجهاتٍ حقوقيّة نُطالب بعدم تسييس الخطوات القانونيّة وعدم المساومة على العدالة وحقوق الضحايا، وعلى القيادة السياسيّة الفلسطينيّة ألّا تربط بين هذا القرار واللجوء إلى المحكمة وسير إجراءاتها مع أي مسارٍ سياسي، لأنّ المسارات القانونيّة فقط هي ملك لأصحاب الحقوق والضحايا، لذلك لن نقيّم الأمور الآن وسننتظر موقف السلطة من كل مرحلة من المراحل وفيما بعد سنقيّمها ولكل حدثٍ حديث".
وبشأن المؤسّسات الحقوقيّة، رأى سرحان أنّها "يجب أن تكون جاهزة لتقديم أيّة مساعدة في إطار إجراءات التحقيقات، وحتى اللحظة لم نرى خطّة واضحة ومحدّدة للمدعية العامة للمحكمة الجنائية في إطار التحقيقات، ولكن عند نشرها لهذه الخطّة والاطّلاع على تفاصيلها المرتبطة وبالإجراءات ومسار التحقيقات سنكون على استعدادٍ كامل لتقديم كل ما يلزم من بيّنات وملفات والمساعدة في إيصال الشهود وتوثيق الحالات، ولكن حتى الآن لم نطّلع على أيّة خطّة للبدء في التحقيق من قبل المدعية العامة".
ارتداد الأمواج فلسطينيًا!
قال سرحان في هذا الإطار، إنّه "في حال تم اتهام أي فلسطيني تحت أي عنوان فيجب أن تكون دولة فلسطين جاهزة للدفاع وأن تتخذ إجراءات قويّة نحو الدفاع، والمدعية العامة في طلبها للدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائيّة قد ذكرت أنّ لديها ما يُشير إلى قيام الفصائل الفلسطينيّة بارتكاب بعض المُخالفات التي ذكرناها سلفًا، وتلك التهم الثلاثة ينبغي أن نفهم جيدًا ما هي الأغراض التي تقصدها المدعية العامة من ورائها، وكيف نظرت إلى هذه الأمور، ونحن لم نرى أي انتهاك جدّي قامت به الفصائل الفلسطينيّة يستوجب اختصاص محكمة الجنايات".
وختم سرحان حديثه مع "بوابة الهدف"، بالقول: "المراقب والمتابع يعلم تمامًا أن الانتهاكات الإسرائيليّة أدّت -على سبيل المثال وليس الحصر- إلى استشهاد أكثر من ألفي فلسطيني خلال عدوان العام 2014 فقط، بالإضافة إلى ملف الاستيطان وغيره من الملفات الكبرى التي تشكّل جرائم حرب وهي جزء من اختصاص محكمة الجنايات ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن نُقارنها بأي حالات أو أعداد تدّعى فيها أنه تم إطلاق صاروخ من غزّة لم يميّز بين المدنيين والعسكريين وأدى إلى حالة من الهلع، أي حجم الأضرار لا يُقارن ولا يستدعي أن تتدخل فيها المدعية العامة للمحكمة".
ومن المؤكّد ألّا يكون الطريق نحو العدالةِ مفروشًا بالورود كما يتخيّل البعض، بل طريقًا وعرًا بحاجة إلى حشد كل الطاقات والإمكانيات القانونيّة حتى بلوغ الهدف المنشود من هذه التحقيقات، سيما مع الإعلان عن انتخاب المحامي البريطاني من أصول باكستانية خان كريم، مدعيًا عامًا جديدًا للمحكمة ولمدة 9 سنوات، تبدأ من 26 يونيو/ حزيران المقبل، ليخلف المدعية الحالية فاتو بنسودا، والتي تشغل المنصب بالجنائية منذ العام 2012، ما قوبل بارتياحٍ ملحوظ من أواسط صهيونيّة ترى في خان كريم "شخصية برغماتية لا تسعى إلى تسييس محكمة الجنايات الدولية"