قبل تفشي فيروس كورونا، اجتاحت أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي اضطراباتٌ واسعة، في سياقٍ إقليميٍ تميز بنموٍ اقتصاديٍ متواضع، وتزايد الاستياءُ الاجتماعي والسخط السياسي وحدة الاستقطاب والعزوف عن السياسة، في الجوهر، يمكن رد ذلك إلى مجموعةٍ من المشاكل البنيوية، مثل انعدام المساواة (من بين 20 دولة تشهد تفاوتاً كبيراً حسب مؤشر جيني يوجد 8 دول من أمريكا اللاتينية)، الفساد (تم إجبار 11 رئيساً ورئيساً سابقاً في أمريكا اللاتينية على ترك مناصبهم أو سجنهم أو التحقيق معهم بتهمة الفساد)، العنف (بينما يسكنها 8% فقط من سكان العالم، تمثل المنطقة 33% من جرائم القتل في العالم)، الجريمة المنظمة حيث انتشار ظاهرة "الدولة المأسورة" أو مسلوبة الإرادة، أخيرا، بعد النمو الاقتصادي الذي شهدته المنطقة في التسعينيات حتى عام 2012، (طفرة السلع الأساسية)، لعب الركود دوراً قوياً في تعزيز السخط والاضطراب.
علاوةً على ذلك، ومع تفشي وباء كورونا واستمرار تأثيرات تغير المناخ، وانعكاسات الصراع بين القوى العالمية ذي الطابع التجاري والأيديولوجي في المنطقة، يتوقع البعض سنواتٍ صعبةً للغاية ومستقبلاً غامضاً مع صعوبة التنبؤ بنتائج الدورة الانتخابية الجديدة (2021-2024): هل يعود المد الوردي؟ هل يتراجع اليمين الشعبوي في القارة مع نجاح إدارة بايدن الديموقراطية وسقوط ترامب؟ عام 2021 يقول إن مصير الأنظمة والحكومات والاتجاهات السياسية والأيديولوجية سيحسم ما بين الشارع وصندوق الاقتراع، تذهب المنطقة إلى انتخاباتٍ جديدةٍ، وهي تشهد أسوأ انكماشٍ اقتصاديٍ منذ قرن، إذا قطعت المساعدات المقدمة للناس لمواجهة كورونا سوف تندلع الاضطرابات الشديدة.
في أمريكا اللاتينية، أثبتت الشعبوية تاريخياً أنها تتمتع بقدرةٍ كبيرةٍ على المقاومة والقدرة على التحول، ففي الوقت الذي بدا أن شعبوية "اشتراكية القرن 21" قد منيت بهزيمة، وسجلت نهاية للمد الوردي عام 2015، برزت شعبويةٌ من نوعٍ جديد "شعبوية يمينية" تتسم بالاستبداد والحمائية والقيادة الكرزماتية ونبذ المؤسسة.
لم تكن السنوات التي تلت وردية بالنسبة لليمين؛ ففي استطلاعاتٍ أخيرةٍ للرأي، ظهر أن التأييد العام للديمقراطية انخفض إلى 48٪، بينما ارتفعت نسبة اللامبالاة تجاه عما إذا كان النظام "ديمقراطياً" أم "استبدادياً" من 16٪ إلى 28٪، انخفضت الثقة في الأحزاب السياسية والنخب إلى 13٪، جاء كورونا ليفاقمَ الأزمات ويضع مصير الأنظمة على المحك، أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي هي المنطقة الأشد تضرراً في العالم النامي، 20% من عدد الإصابات في العالم، 30% من مجموع الوفيات بسبب الوباء، يتوقع أن تصلَ الوفياتُ إلى أكثر من 650 ألفاً بحلول أبريل 2021، من المتوقع أن تسجلَ العديدُ من دول المنطقة انكماشاً اقتصادياً يزيد عن 10٪.
على الرغم من أنه من المتوقع أن تبدأَ معظمُ دول المنطقة في التعافي اقتصاديًا في عام 2021، فإن معدل النمو الإقليمي المتوقع البالغ 3.6٪ يتخلف عن توقعات النمو الاقتصادي العالمي البالغة 5.2٪. الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة، وخصوصاً في أكبر الاقتصادات (البرازيل والمكسيك والأرجنتين)، أضاف الوباء سبباً جديداً للاحتجاجات المحتملة؛ وهو سوء أداء الحكومات، ولذا، يتوقع البعض أن انتخابات 2021 ستكون بمثابة فرصةٍ للاقتصاص منها.
المد الوردي: نهاية وبداية
منذ عام 1998 ساد في المنطقة ما سمي بالمد الوردي، "اشتراكية القرن 21"، أو "شعبوية اليسار الريعية". بدت هذه الشعبوية تنتكس منذ عام 2013، اكتسب هوغو شافيز، المتحالف مع كوبا، حلفاء جدداً: موراليس في بوليفيا، أورتيجا في نيكاراغوا، كوريا في الإكوادور، حتى عام 2009، اكتسبت سياساته "المناهضة للإمبريالية" مزيداً من الحلفاء في هندوراس وباراغواي، بالإضافة إلى البرازيل والأرجنتين.
في عام 2015، أصبح التحول عن اليسار أكثر وضوحاً، تزامن المد الوردي مع طفرة ارتفاع أسعار السلع، بمجرد انتهاء الطفرة، في عام 2012 - نتيجة تباطؤ الاقتصاد الصيني - توقف النمو الاقتصادي وخفض الانفاق العام، فخرجت الجماهير إلى الشوارع، مما جعل من الصعب للغاية على الحكومات التمسك بالسلطة، بالطبع لا يمكن إنكار الدور التحريضي والتخريبي للولايات المتحدة وحلفائها في ذلك.
بفضل "المد الوردي" أمسكت قطاعات مهمشة تاريخياً مثل النساء والأقليات بالسلطة، وأبعدت عنها سماسرتها التقليديين، الجيش والكنيسة والأوليغارشية. لكن المد فشل في خلق بديلٍ للنيوليبرالية، ما من شك أن أمريكا اللاتينية تحت حكم اليسار ويسار الوسط باتت أكثر إنصافاً وعدالة، من خلال جملة أمورٍ من بينها الدخول في حقبةٍ غير مسبوقة من التقدم الاجتماعي: المشاركة السياسية للنساء، نمو الطبقة الوسطى سنويا بنسبة 1% لتصل إلى 35% من السكان. بين عامي 2000 و2014، تقلصت نسبة الأمريكيين اللاتينيين الذين يعيشون في فقرٍ (أقل من 4 دولارات في اليوم) من 45 إلى 25%، بعد نهاية الحرب الباردة، جعل المد الوردي أمريكا اللاتينية مركزاٍ لليسار في العالم، منذ الموجة الديموقراطية الثالثة، عدل اليسار في المنطقة تكتيكاته ومعتقداته، بينما ظل ملتزماً بفكرة الجمع بين دور الدولة وبين الإرادة الشعبية لتصحيح الظلم وتخفيف المعاناة الإنسانية.
منذ 2013 وتحت تأثير الأسباب التي ذكرناها، بدأ الانقلاب اليميني على المد (بالرغم من بقاء الأحزاب اليسارية قوة برلمانية لا يستهان بها)، في البرازيل ألغيت وزارة المرأة والمساواة العرقية وحقوق الإنسان، في الأرجنتين، شن الرئيس ماكري هجوماً على المهاجرين غير الشرعيين على طريقة ترامب، لكن بقيت أوروغواي نموذجاً يحتذى.
اتسمت هذه الفترة ببطء النمو الاقتصادي، واحتجاجات الطبقة الوسطى التي لم ترفض "النظام الديمقراطي"، إنما أظهرت عدم الرضا عن أدائه، وطالبت بمزيدٍ من التمثيل، والمزيد من الشفافية والمساءلة، وتحسين الخدمات العامة.
أطلق على الدورة الانتخابية (2017-2020) "انتخاباتُ الغضب"، وقد اتسمت بمستوياتٍ عاليةٍ من عدم اليقين، والتقلب، والاستقطاب، أنتجت هذه الانتخابات ظاهرةً متناقضة؛ أحزاب أو ائتلافات حاكمة لا تملك أغلبيةً برلمانية، وكانت لقضيتي الفساد وانعدام الأمن تأثيرٌ كبيرٌ على مزاج الناخب، كما شهدت الانتخابات لأول مرةٍ دوراً واسعاً لوسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي تعرض الناخبون للتضليل، إلى ذلك، اكتسبت الجماعات الإنجيلية نفوذاً أكبر عن ذي قبل، منذ عام 2018 لم تكن هناك امرأةٌ رئيسةٌ في أمريكا اللاتينية.
في هذه المرحلة استمر النموُ الاقتصادي الإقليمي في الانخفاض 0.6٪، مع التفاوت الكبير بين دول القارة. ونتيجةً لهذا النمو الاقتصادي الهزيل، بلغت نسبة الفقر حوالي 30٪ (المتوسط الإقليمي)، تفاقم عدم المساواة، وظل سوق العمل غير قادر على توليد وظائف جديدةٍ تحتاجها المنطقة بكلمات موجزة؛ دورة انتخابية متواضعة اقتصادياً، متوترة اجتماعياً، مستقطبة سياسياً، معقدة بشكلٍ متزايد من حيث طبيعة الحكم، شهدت في نهايتها كارثة "كورونا"، إلى ذلك، ترافقت الدورة مع نظامٍ دوليٍ أقل ديمقراطية، جعل من أمريكا اللاتينية ساحة لصراعاته وحروبه التجارية.
في خضم الوباء، دخلت أمريكا اللاتينية عام 2021 بتقويم ٍسياسيٍ-انتخابيٍ مكثف وغير قابلٍ للتنبؤ؛ حيث الاستقطاب وعدم اليقين الاقتصادي والتدهور الاجتماعي وغياب الأجندات التوافقية، من الانتخابات النصفية في المكسيك إلى الانتخابات الرئاسية في بيرو، تجري تسعُ دول من أمريكا اللاتينية انتخابات في عام 2021. سيستمر الوباء في جعل معظم بلدان القارة واقتصاداتها رهينة له، ومع ضعف الأحزاب السياسية في العديد من هذه البلدان، يرى البعض صعوداً مستمراً للشعبويات (يمينية ويسارية) ومع ذلك، يبقى الصراع السياسي الداخلي المحدد الرئيس للانتخابات، إلى ذلك، يمكن القول إن هذه الدورة تتميز بمتغيراتٍ سوف تحدد مستقبل القارة:
أولاً: استمرار الاستقطاب السياسي مع وجود أجنداتٍ وطنيةٍ غير متوافقةٍ كلياً أو جزئياً بين مختلف الجهات الفاعلة (يسار، وسط، يمين).
ثانيا: التشرذم الكبير داخل الكتل السياسية ذاتها، (اليمين البوليفي منقسم إلى خمس قوى، معارضو أنصار تشافيز قيادات واستراتيجيات غير متوافقة، في الإكوادور 16 مرشحاً للرئاسة) يتفاقم تفكك المعارضات بسبب إضعاف الهيمنة القديمة.
ثالثًا: التصويتُ القويُ لمعاقبة الحكومات (باستثناء أوروغواي والسلفادور) بسبب المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الموروثة، والتي أضيف إليها سوءُ إدارة مكافحة الجائحة، وتدهورُ الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
رابعا: تحدد هذه المتغيرات (الاستقطاب، التفكك، الإحباط) بانوراما تصبح فيها إمكانية التوصل إلى اتفاقاتٍ وتوافقاتٍ كبيرةٍ أكثر تعقيداً وأكثر صعوبة.
كانت المحددات التقليدية للانتخابات والفوز فيها والإقبال على المشاركة فيها مرتبطة كثيراً بالانحيازات الأيديولوجية والولاءات الحزبية، لكنها هذه المرة، على ما يبدو، سوف تكون محكومةً بالألم والمعاناة الإنسانية الكبيرة جراء وباء كورونا، والمفاضلة لن تكونَ بين يمينٍ ويسار، وإنما بين حكوماتٍ أجادت وتجيد إدارةَ الأزمة، وحكوماتٍ فشلت في ذلك، وهذا ما يسبب قلقاً كبيراً للجميع، ويجعل من الصعوبة التنبؤ بالنتائج.