مع فوز الديموقراطيين في انتخابات الرئاسة الأمريكية يبدو أن أشياء كثيرة في الخارطة السياسية لمنطقتنا (محاور ومصالح وتحالفات) سوف تتغير وتتكيف، أو سوف تُغير وتُكيف.
نتائج الانتخابات الإسرائيلية في شهر مارس/أذار الجاري سوف تعزز أو تعرقل عمليات التغيير والتكييف، أما الانتخابات الفلسطينية في مايو/أيار القادم فلن تكون أكثر من مجرد "موضوع"، سواء أُجريت أو أُجلت أو أُلغيت، من بين موضوعات أخرى كثيرة لهذه العمليات.
في هذه المقالة سوف نتناول الانتخابات الإسرائيلية بالتحليل على أمل أن يكونَ المقال التالي حول الانتخابات الفلسطينية.
أحد أهم الأسئلة المتعلقة بمعالم سياسة إدارة بايدن الخارجية في الشرق الأوسط يتصل بما إذا كان سيتبع نهج سلفه باراك أوباما، أو يتبنى رؤيةً جديدة؛ سوف تتسم هذه السياسة عموماً بتغيير المسار، خاصةً تجاه إيران وحرب اليمن، لكنها من غير المرجح أن تحدث تغييراتٍ كبيرة في الوضع الراهن للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. طبعاً إدارة بايدن لن تعود إلى أوسلو ولن تتراجع سريعاً عن صفقة القرن، كل ما في الأمر مجرد إحياء تدريجي لدور واشنطن التقليدي كوسيط "غير نزيه" بين طرفي الصراع.
الانتخابات للمرة الرابعة في إسرائيل خلال عامين تؤشر على متغيرٍ رئيس؛ تزايد حدة الاضطراب في نظام الحكم والحاجة الملحة إلى إدخال تعديلات جوهرية عليه، هناك من يرى أن نتنياهو، المتهم بقضايا فساد، استطاع أن يجعل من هذا الاضطراب أداة سياسية داخلياً وخارجياً لتحقيق مآرب والنجاة من الملاحقة القضائية وتجنيب إسرائيل مزيد من الضغوط الخارجية، وخصوصاً من إدارة ترامب، كما تشير المعطيات، الانتخابات القادمة لم تعد تتمحور حول نتنياهو، إذ تحتل الأزمة الاقتصادية اهتمام الناخبين، ومن ثم تفشي وباء كورونا، تشققات المجتمع الإسرائيلي وأخيراً النووي الإيراني.
بعد ثلاث جولات انتخابية في غضون عامين، يبدو أن بعض "الحقائق" أو الاتجاهات بدت تطفو على سطح السياسة الإسرائيلية: تنامي الشعور بالقلق في أوساط إسرائيلية يسارية بخصوص مستقبل "الديموقراطية" في إسرائيل، اليمين يزداد قوة، لكنه يعاني من اختلافات تتعلق بالموقف من رئيس الوزراء نتنياهو، تتنامى الأهمية النسبية لقضايا المجتمع والاقتصاد وإلى حدٍ ما الأمن، مع بقاء الولاء الحزبي على حاله حتى مع ظاهرة تفكك القوائم المشتركة أو الخروج من الأحزاب وعليها، البعض يرى أن الأزمة متعددة الأبعاد تهدد الاستقرار الاقتصادي والسياسي وتفاقم شروخ المجتمع؛ وأنها لم تبدأ مع كورونا أو بسببه، لكن الوباء كشف وعمّق نقاط الضعف القائمة وزاد عليها.
من المفيد الإشارة إلى موقف نتنياهو واحتمالات نجاحه بعد انسحاب ساعر وتنامي المعسكر المناوئ له، استمرار التظاهرات ضده، تهديد المحاكمة بتهم الاحتيال والرشوة وخيانة الأمانة.
كان الاعتقاد أن المحدد الرئيس في الانتخابات سيكون الموقف منه (مع/ضد)، في الواقع هذا كان صحيحاً في الانتخابات الثلاثة الفائتة، اليوم ثمة قضايا اقتصادية واجتماعية أخرى تتقدم، الغريب أنه حسب الاستطلاعات، فإن فرص نتنياهو مازالت قائمة؛ فالناخب الإسرائيلي من اليمين والجمهور العادي لا ينسى إنجازاته: التطبيع العربي، تراجع القضية الفلسطينية، أنشطة الموساد ضد إيران، الحصول على لقاح ضد كورونا وحصول إسرائيل على المرتبة الأولى في التطعيم عالمياً، وتسجيل حضور دولي قوي، بالرغم من اتهامات خصومه من يسار الوسط ومن أنصار حزب "أمل جديد" و"إسرائيل بيتنا"، بتوظيف المنح المالية المقدمة في ظل جائحة كورونا لأغراض سياسية انتخابية، وأن الإغلاق الثالث لم يكن لأسبابٍ صحية، وإنما أيضاً لأغراضٍ سياسية، وأنه تعمد عدم إقرار الميزانية حتى يذهب إلى انتخابات رابعة، على أي حال، دعونا نستعرض بعجالة بانوراما القوائم والكتل الانتخابية:
من أبرز الظواهر في الحملات الانتخابية منذ تسعينيات القرن الماضي، وخاصة في عامي 2019 و2020، تعدد القوائم المشتركة، في انتخابات الكنيست (مارس) 2020، تم انتخاب 8 قوائم تمثل 19 حزب؛ اليوم تشهد الظاهرة تراجعاً واضحاً بعد أن أثبتت عدم جدواها وإمكانية استمرارها.
انتهى ماراثون تشكيل القوائم الانتخابية إلى 14 قائمة لديها فرصة لتجاوز نسبة الحسم (3.25%): 7 منها تنتمي إلى اليمين (قومي، ديني، متطرف)، 5 تنتمي إلى معسكر يسار الوسط، قائمتين عربيتين؛ هذه القوائم هي: الليكود، شاس، يهوديت هتوراة، يمينا، إسرائيل بيتنا، أمل جديد، الحزب الصهيوني الديني، العمل، أزرق أبيض، ميرتس، الحزب الاقتصادي، يش عتيد، القائمة الموحدة، القائمة المشتركة.
حسب نتائج الاستطلاعات، من المحتمل أن يحصل تحالف نتنياهو على 50 مقعداً، بينما يمكن أن يحصل معارضوه على 59 مقعداً، بمن فيهم "أمل جديد" و"إسرائيل بيتنا"، أما يمينا فتحصل على 11 مقعدا، وبذلك يتراوح عدد المقاعد التي يحصل عليها اليمين القومي والديني مجتمعاً ما بين 75-78 مقعداً، ويحصل يسار الوسط على 33 مقعداً، كما يتراجع التمثيل العربي من 15 عضواً إلى ما يتراوح بين 9-12 فقط.
نظرياً، بمقدور نتنياهو أن يشكل حكومة لكنه بحاجة إلى دعم "يمينا" والقائمة الموحدة، وإن كانت قوة المعسكر المناوئ له تبدو أكبر، لكن لا يوجد قاسم مشترك بين جميع مركباتها، باستثناء السعي لإنهاء حكمه؛ نفتالي بينيت لم يعلن بعد انضمامه إلى أي من المعسكرين، ويشترط تولي رئاسة الوزراء في حال انضمامه للمعسكر المناوئ، اللافت أن نتنياهو مازال يتقدم على منافسيه في كل استطلاعات الرأي (ساعر، لبيد، بينيت) على منصب رئيس الوزراء.
في الطريق إلى الانتخابات الرابعة انشق جدعون ساعر عن الليكود، وشكل حزب "أمل جديد" (يمين قومي علماني)، يركز حزب "يش عتيد" برئاسة يائير لبيد على القضايا الاجتماعية والمدنية وقضايا النظام وبدرجة أقل على قضية الأمن؛ ينتمي الحزب إلى الوسط، ويشكل العلمانيون معظم أنصاره وممن ينوون التصويت له.
يتوقع أن يلعب "يمينا"، الذي يرأسه نفتالي بينت، دوراً مقرراً في مصير نتنياهو بانضمامه لأحد المعسكرين؛ تأسس الحزب قبيل انتخابات (2019) كقائمةٍ مشتركة من ثلاثة أحزاب: "اليمين الجديد" بقيادة بينيت و"الاتحاد الوطني" بقيادة بتسلئيل سموتريتش، و"البيت اليهودي، وتفكك التحالف بعد انسحاب الاتحاد الوطني وتشكيل الحزب الصهيوني الديني، كما قرر "البيت اليهودي" عدم خوض الانتخابات،
بينما لم يطرأ تغييرٌ كبيرٌ على "إسرائيل بيتنا" (ويجمع في رؤيته بين توجه يميني متشدد سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وبين توجه علماني مدني تجاه طبيعة الدولة والمجتمع)، وكذلك يهوديت هتوراة، وشاس، وميرتس؛ مني أزرق أبيض بفشل سياسي كبير (بعد حوالي شهر من الانتخابات الثالثة، تفكك الحزب إلى 3 مكونات: يش عتيد، تيلم وفصيل غانتس الذي استمر يحمل ذات الاسم.
لم تعد المشاركة في الانتخابات تثير جدلاً واسعاً في أوساط فلسطينيي 48، لكن ظهرت أخيراً خلافاتٌ حول طبيعة وغرض المشاركة: هل فقط تحسين فرص الوصول إلى الخدمات والموارد أم الدفاع عن القضايا القومية الجماعية أيضا؟
بعض التطورات الأخيرة (مأزق نتنياهو،..) فتحت مساراً يهيئ لشرعنة "الصوت العربي" من قبل الأحزاب الصهيونية، وصولاً إلى الشراكة في الائتلافات الحكومية؛ كان نجاح القائمة المشتركة سابقاً نبه إلى الإمكانات الحرجة لهذا الصوت، وسؤال الشرعية، وفرص الشراكة، واللافت أنه مع هذا التطور، تنشطر القائمة المشتركة ويندلع نقاش حاد ويخرج منصور عباس على الاجماع، مغازلاً نتنياهو، ورافضاً للاتفاق مع "المشتركة" على فائض الأصوات؛ الأمر الذي يصب في مصلحة اليمين، ويضعف من الإقبال العربي على المشاركة في الانتخابات.
لم يقتصر الأمر على نتنياهو، فها هو لبيد يعلن أنه يمكن أن يشكل ائتلافاً مع ممثلي الكتل العربية؛ يبقى التساؤل هل التحول لدى الطرفين يعتبر تحولاً حقيقياً أم إنه مجرد مناورة، هل يضع حداً للاستبعاد المتبادل؟ ثمة من ينبه لمخاطر الاتجاه الاندماجي من الطرفين ولأسباب مختلفة: قد يندفع اليمين المتطرف إلى تصعيد ممارساته العنصرية ضد العرب، ربما يكون ثمن التحول "التنازل" عن دعم فلسطينيي الضفة وقطاع غزة وتبني قضاياهم والدفاع عنها.
وكما في كل انتخابات، يثار تساؤلٌ عن مدى تأثير الصوت العربي؟ في الواقع، يشكل فلسطينيو 48 ممن يحق لهم التصويت 15% من إجمالي عدد الناخبين في إسرائيل، ما يؤهلهم، نظرياً، للحصول على 18 مقعداً. التمثيل البرلماني البارز مع النضال خارج البرلمان من شأنه أن يحقق بعض مطالب الجمهور العربي، ويجبر صانع القرار الإسرائيلي على الاستماع إلى صوته، وبذلك ينتقل الفعل السياسي لفلسطينيي 48 من مجرد الاحتجاج إلى التأثير (عبر امتلاك السلطة).
تنشط في أوساط فلسطينيي 48 تعدديةٌ حزبية مستقلة ووطنية وشاملة؛ في غضون ذلك يمكن الحديث عن مجتمع سياسي ومدني عربي يعبر عن تطلعات قومية ومدنية، في قمة هذا المجتمع قادة ملهمون، مثقفون، يمتلكون مهارات القيادة ولا تنقصهم الحنكة، ورغم اختلاف مرجعياتهم الأيديولوجية ومواقفهم السياسية، إلا إنهم تمكنوا من تدشين أولى لبنات الوحدة والشراكة.