Menu

وجهة نظر في الثقافة والمثقف وضبابية الرؤية الثقافية لدى اليسار

غازي الصوراني

لست معنياً بخلق إشكالية حول علاقة الثقافة بالوعي المشوه أو المنقوص - لدى هذا الفرد أو ذاك ممن يطلق عليه صفة المثقف - بقدر ما أدعو إلى مراجعة المفاهيم وتأملها بالمعنى التجريدي المعرفي، وتفكيكها وإعادة بنائها أو تكوينها بما يوفر إمكانية التعمق في المفهوم وإعادة صياغته معرفياً وثورياً من أجل تغيير الواقع المأزوم، وهو أمر لن يتم تحققه ما لم يدرك هذا المثقف كافة تفاصيل واقعه المعاش؛ فالثقافة هي جملة ما يبدعه الإنسان والمجتمع على صعيد العلم والفن ومجالات الحياة الأخرى؛ المادية والروحية؛ من أجل استخدامها للإجابة على الأسئلة التحررية والمجتمعية الكبرى، للإسهام في حل مشكلات التقدم والتطور، وهنا تتجلى خصوصية الواقع –واقعنا العربي- التاريخية والراهنة وتفاعلها مع المفهوم العام المعاصر للثقافة بكل أبعادها ومكوناتها العلمية؛ الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية في اللحظة الراهنة من تطور البشرية... أنا شخصياً أنحاز إلى هذا التعريف للثقافة، لأنه يتناولها كمجموعة من الأنماط السلوكية والفكرية والتربوية بمضامينها المستقبلية التي تؤطر أعمال الإنسان في علاقاته الثلاثية مع الطبيعة والمجتمع وما وراء الطبيعة؛ من خلال التواصل الدؤوب مع مسار التنوير والحداثة والنهضة والتقدم العلمي؛ عبر الحوار الموضوعي الجريء، وهذا يدفعني إلى الحديث عن ضبابية الرؤية الثقافية الديمقراطية ومسئولية اليسار الفلسطيني..  وفي هذا السياق أقول إنه على الرغم من إقراري بحالة الضعف التي تعتري مسار تطور الثقافة الفلسطينية؛ بسبب الاحتلال من ناحية وثقافة التخلف والخضوع من ناحية ثانية، إلا أن التطور مسألة نسبية تحتاج إلى كثير من المقومات على مستوى الفصائل والأحزاب، وعلى مستوى المؤسسات الثقافية الجامعية لإحياء الفكرة التوحيدية الثقافية الفلسطينية في إطار الثقافة التقدمية العربية والإنسانية، وكذلك في إطار من التنوع والتعدد والاختلاف، بما يفتح فضاءات فكرية وتأملية محفزة لمجمل الفصائل والقوى السياسية عموماً، ولقطاع الشباب فيها بصورة خاصة، بما يضمن إقبالهم على التعاطي مع قضايا مجتمعهم في المخيم أو المدينة أو القرية؛ بروح عالية من الاندفاع والرغبة الذاتية في الالتحاق بمسيرة النضال التحرري والديمقراطي، والالتحاق في صفوف الحركة الوطنية ليمارسوا دورهم المنتظر في حماية ثقافتهم الوطنية الديمقراطية وصنع مستقبل شعبهم، وكل ذلك يتطلب من فصائل اليسار؛ صحوة جدية، لكي تنهض من سباتها وتخرج من أزماتها بما يمكنها من إعادة وصل ما انقطع في علاقة السياسة بالثقافة. بمعنى التفاعل بين الوعي الطليعي والوعي العفوي؛ بما يتيح إنتاج عمل معرفي سياسي ثقافي مرتبط بصورة مباشرة بالواقع المعاش، حيث بات أحد أهم أوجه أزمة ثقافتنا الراهنة يتمثل في غياب الدور الاستراتيجي الفعال لأحزاب التيار الديمقراطي عموماً، وقوى اليسار بصورة خاصة في ممارسة الوعي – المتجدد والمعاصر- الثقافي والأيديولوجي، ومن ثم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للجماهير؛ عبر دور ريادي يوجه مسيرة الثقافة الوطنية الفلسطينية الديمقراطية ومسار الحركة الجماهيرية، وهنا أرى من المفيد، بل والضروري أن أتحدث عن مخاطر ضعف وتراجع المعرفة والوعي في صفوف أحزاب وفصائل اليسار العربي.

فإذا كنا نتفق على أن المعرفة هي ثمرة أولية من ثمار الفكر باعتباره وعياً مرتبطاً بالواقع المعاش وعاكساً له، فليس معنى ذلك تطابق هذه المعرفة بالواقع مع شمولية الفكر وفضاءه الواسع؛ إذ أن حجم المعرفة ودورها يتحددان حسب نسبة أو درجة تفاعلهما مع الفكر وحركة تطوره التاريخي، وهو تفاعل مرهون بدرجة تطور وحركة الواقع وصراعاته وتناقضاته الداخلية والخارجية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) في هذه المرحلة أو تلك من جهة، وبدرجة عمق وقوة الوعي الذاتي لدى المثقف العضوي في إطار العقل الجمعي أو الحزب الماركسي ودوره في مجابهة الواقع وتغييره من جهة ثانية؛ فبدون امتلاك الوعي بالنظرية والواقع تتعرض حركة الحزب وصيرورته لمخاطر الارتجال والعفوية والتفكك التنظيمي التي تولد بدورها مظاهر الشللية والانتهازية والهبوط السياسي والفكري، إلى جانب مظاهر التطرف العدمي الانتهازي، ما سيؤدي بالحزب إلى التفكك والتلاشي.

وفي كل الأحوال؛ فإن الممارسة هي أحد المعايير الهامة للحكم على وعي قيادة هذا الحزب أو ذاك وأعضائه.. فالممارسة هي التي تدل على الوعي بالنظرية ووضوح الرؤية، بمثل ما تدل أيضاً على الإرباك والتخبط السياسي والفوضى وانتشار الشعور بالاغتراب بين الأعضاء تجاه أفكار الحزب ومبادئه، ومن ثم يكون من الطبيعي أن تتراجع القناعات والدافعية الذاتية جنباً إلى جنب مع تراجع فكرة الانتماء والالتزام بالحزب، وفي هذه الحالة لا يكون مستغرباً أن يعيش الحزب حالة عميقة من العزلة عن الجمهور؛ يستحيل تجاوزها بدون خروجه من حالته المأزومة صوب النهوض، وتلك مهمة صعبة، لكنها قابلة للتحقق عبر كل المخلصين لمبادئ الحزب وأهدافه من الكوادر والأعضاء؛ الأمر الذي يفرض بداهة مزيداً من الاهتمام بكل من الوعي والممارسة في الحزب الماركسي لمحاولة تحديد الإشكالية والخروج منها صوب نهوض الحزب؛ فمن الظواهر الخطيرة لدى معظم أحزاب وفصائل اليسار العربي، أنها تتحدث عن الوعي والممارسة في وثائقها ومنشوراتها دون متابعة أو تفعيل وتفاعل على صعيد الممارسة يجسد انتماء الأعضاء واقتناعهم ودافعيتهم، مما أدى إلى مزيد من عزلتها عن الجماهير، بينما في المقابل، لا تمتلك الجماهير أطر منظمة فعالة، وبالتالي فإن وعيها العفوي البسيط لا يمكن أن يوصلها إلى حراك ثوري جذري أو تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى، بل بعض المتغيرات في ديكور السلطة أو تحقيق بعض المطالب الاقتصادية الصغيرة، وعلى الرغم من أن فقر الجماهير ومعاناتها وبؤسها وحرمانها يدفعها للتمرد العفوي، إلا أن السلطة الحاكمة (ليبرالية أو دينية) تمتص تمردها - بصورة انتهازية أو قمعية - وتدعوها للسكينة أو ترهبها. فالنشاط العفوي؛ يوجد الأزمة الشاملة التي تحاصر الفئات الحاكمة، وإذا لم يتوفر الحزب الطليعي الثوري الملتصق بالجماهير والمعبر عنها، فإن قوى اليمين أو قوى الثورة المضادة تتولى السيطرة على حركة الجماهير وافراغها من مضامينها.

 ويطرح هذا الوضع قضيتين نقضيتين: الوعي والتنظيم؛ فهل تستطيع الجماهير تطوير وعيها وتنظيم صفوفها؟

وجوابنا إنها عاجزة عن ذلك، لأن العمل التنظيمي (الحزب)، وكذلك مواجهة القوى الحاكمة، بحاجة إلى تقنية عالية مسبوقة بالوعي والرؤية والبرامج الواضحة، بحاجة إلى الثقافة، والدراسة والاضطلاع والمتابعة اليومية لكل شأن من شئون الصراع مع العدو الوطني أو على مستوى التناقضات الداخلية والصراع الطبقي؛ فالممارسة هي التي تدل على طبيعة الوعي.

 وهنا يبرز دور الفئات الواعية، والمناضلة والمثقفة، لأنها القادرة على تأسيس الإيديولوجيا المناهضة للإيديولوجيا السائدة، والقادرة على هزيمتها، وفي هذا الجانب نؤكد على أن الوعي دون ممارسة ثورية، لا يؤدي الى انتصار، وكذلك فإن الممارسة الثورية دون وعي ثوري، لا تحقق نفس الغرض؛ إنهما معاً طريق الانتصار، لأن الوعي الثوري يضيف للحركة العفوية؛ العقل والتنظيم، وهما مكمن قوة.، وتجعل الهجوم لإسقاط أنظمة الاستبداد والتخلف ممكناً، بل وضرورياً، لأنه يعطي التنظيم (بعد أن يستكمل كافة الشروط) القوة الجبارة التي تدعمه وتجعل انتصاره محتماً.

التحديد المفاهيمي المباشر للمثقف الثوري:

بالنسبة لاجتهادي المنحاز لشمولية مفهوم المثقف؛ فإن الشمولية التي أقصدها هنا لا تتناقض مع التعريفات التي عبّر عنها مجموعة من المفكرين في تعريفهم للمثقف بأنه: "هو الإنسان الذي يضع نظرة شاملة لتغيير المجتمع" أو هو: المفكر المتميز المسلح بالبصيرة كما يقول ماكس فيبر، أو هو: الذي يمتلك القدرة على النقد الاجتماعي والعلمي والسياسي أو هو: المفكر المتخصص المنتج للمعرفة، وهي تعريفات عامة لا تحرص على تحديد الزاوية أو الموقع الذي ينطلق منه ذلك المثقف في ممارسة النقد الاجتماعي أو السياسي أو في صياغته للنظرة الشاملة للتغيير... والزاوية التي أقصدها هي الموقع الطبقي بالتحديد (عبر الالتزام التنظيمي بالحزب الماركسي)، فهو الغاية والقاعدة المنتجة والمحددة لكل رؤية فكرية ثقافية أو لكل ممارسة نقدية. فالمثقف هو الحامل لرسالة؛ لموقف؛ لرؤية نظرية مستقبلية، وهو أيضاً المثقف العضوي الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المٌشَكّلة من العمال والفلاحين الفقراء، وهو "الداعية"؛ "الاختصاصي"؛ "المٌحَرِّض"؛ "صاحب الايدولوجيا" أو حاملها؛ المدافع عن قضايا الحقوق والحريات؛ الملتزم بالدفاع عن قضية سياسية أو قيم ثقافية ومجتمعية أو كونية، بأفكاره أو بكتاباته ومواقفه تجاه الرأي العام، وتضحياته من أجل المبادئ العظيمة التي نذر نفسه من أجلها؛ فهذه صفة ومنهجية المثقف العضوي الثوري، بل هذه مشروعيته ومسئوليته تجاه عملية التغيير التي يدعو إليها.

 لذلك أرى ضرورة الجمع بين المثقف حامل الرسالة، وبين المثقف العضوي الملتزم تنظيمياً، بحكم تقاطع أو توحد الرؤيتين في نقطة التقاء هامة، وهي الوظيفة النقدية للمثقف، والوظيفة النقدية هنا تتخطى التبشير أو الرسالة إلى التغيير الثوري والديمقراطي.