Menu

حديث ذو شجون عن قطاع غزة والخصائص التي ميزته حتى 1993 وعن التطور الاجتماعي في الضفة والقطاع منذ عام 1994 إلى اليوم

غازي الصوراني

بوابة الهدف الإخبارية

الحديث عن قطاع غزة الفلسطيني لا يعني على الإطلاق اختلاف طبيعة الرؤى والأهداف والأفكار التوحيدية الوطنية التحررية، والديمقراطية فيه عن أي موقع آخر في القدس وبيت لحم وجنين والخليل ونابلس ويافا وحيفا والمثلث والنقب.. بل هو امتداد لتلك الأهداف التي توحد شعبنا في الداخل وفي المنافي من أجل استمرار النضال التحرري والديمقراطي وتحقيق الهدف المرحلي في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.

فقد ظل قطاع غزة منذ عام 1948 وحتى توقيع "إعلان المبادئ.. أوسلو سبتمبر 1993" الكارثي، الجزء الوحيد الذي بقي يحمل (رسمياً في المحافل الدولية والعربية) اسم فلسطين، إضافة إلى ذلك فإن مواطني القطاع الذين بلغ تعدادهم منتصف 2015 (1.788) مليون نسمة ينتمون إلى كل مدن وقرى فلسطين، من صفد والجليل إلى يافا وعكا وحيفا على الساحل إلى اللد والرملة وجنين وطولكرم ونابلس والقدس وبئر السبع ومعظم القرى الفلسطينية.. وبالتالي ليس غريباً أن يحمل قطاع غزة لقب "سفينة نوح" الفلسطينية، ويصبح – منذ النكبة حتى اللحظة الراهنة- بمثابة الأم الوَلاّدة للهوية الوطنية الفلسطينية.

فعلى أثر هزيمة "الجيوش" العربية التي قادها الجنرال الانجليزي "جلوب" عام 1948، وإعلان قيام "دولة إسرائيل"، ومن ثم عقد اتفاقية الهدنة الموقعة في رودوس بين الوفدين الإسرائيلي والمصري بتاريخ 24 شباط/ 1949، تحددت "خارطة" منطقة غزة، وبدأ فصل جديد من حياة أبناء شعبنا الفلسطيني فيها، فبعد أن كانت هذه المنطقة تعرف بلواء غزة، والتي ضمت أربع مدن وستين قرية وبمساحة تبلغ (13688 كيلو متر مربع) أصبحت تعرف باسم "المناطق الخاضعة لرقابة القوات المصرية في فلسطين" وتضمنت فقط مدينتين هما غزة وخانيونس وتسع قرى هي جباليا / والنزلة / بيت لاهيا / بيت حانون / دير البلح / بني سهيلة / عبسان الكبيرة والصغيرة / خزاعة / رفح، وعلى مساحة من الأراضي لا تتجاوز 365 كيلو متر مربع تمثل نسبة 1.35% من أراضي فلسطين.

أما اصطلاح "قطاع غزة" فقد ظهر رسمياً منذ أوائل شهر كانون الثاني1954 في "قرار  رئيس الجمهورية المصرية اللواء محمد نجيب، الذي يقضي بتعيين الأميرالاي عبد الله رفعت حاكماً إدارياً لقطاع غزة" ضمن حدوده "الجديدة" التي تبدأ من قرية رفح جنوباً إلى بيت حانون شمالاً بطول حوالي 45 كيلو متر وعرض يتراوح بين 6-11 كيلو متر.

الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في القطاع بعد النكبة :

عبر استقراء نتائج النكبة عام1948، يمكن التعرف بوضوح على الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية في قطاع غزة ضمن الأوضاع الطارئة الجديدة، فقد "ترافق وجود "مجتمع اللاجئين" مع انهيار شبه كامل للقاعدة الاقتصادية التي كان يقوم عليها المجتمع في مرحلة ما قبل 1948" .

ويمكن تلخيص أبرز ملامح "المجتمع الجديد" فيما يلي:

1- تعرض قطاع غزة لتغير بنيوي على الصعيدين الاجتماعي والسكاني، فقد كان عدد سكانه قبل النكبة (90) ألف نسمة، ارتفع إلى 300 ألف خلال عام واحد، ومعظم هؤلاء (لاجئين ومواطنين) منحدرون من أصول ريفية فقيرة جداً "ولا يتمتعون بخبرات فنية أو تقنية مميزة" .

2- فقد القطاع جزءاً كبيراً من موارده الاقتصادية:

‌أ) 67% من أراضيه ضمن قضاء غزة.

‌ب) انتشرت البطالة في صفوف العمال من أبناء القطاع الذين عملوا في السابق في معسكرات قوات الانتداب، أو في الأسواق الفلسطينية المختلفة.

‌ج) فقد العدد الكبير من المقاولين والتجار جزءاً كبيراً من أعمالهم.

3- تقلصت ملكيات كبار الملاكين إلى درجة كبيرة، فلم تعد العائلات الغزّية شبه الإقطاعية (الأفندية) تستحوذ على عشرات الألوف من الدونمات، وفقدت معظمها أكثر من 80% من أراضيها، ورغم ذلك فقد ظل عدد من هذه العائلات يمتلك قطعاً كبيرة من الأراضي قياساً إلى مساحة الأراضي الزراعية في القطاع ضمن الأوضاع الجديدة.

ومن الجدير بالتسجيل أن هذه العائلات بقيت هي الأكثر سطوة ونفوذاً، وبقي الطابع "الأرستقراطي" الإقطاعي وعقلية "السيادة" في التعامل مع الجماهير الفلسطينية في القطاع أمراً مميزاً وملحوظاً بشكل حاد خاصة في أوساط الفقراء والفلاحين والأًجراء الزراعيين لا فرق بين مواطن ولاجئ.

استمر هذا الوضع حتى ستينيات القرن الماضي مع بداية تأسيس وانتشار الحركات القومية والوطنية ثم م.ت.ف ، حيث تراجع الدور السياسي لعائلات كبار الملاك، وانتهى بصورة كلية بعد هزيمة 1967 وبروز دور فصائل المقاومة الفلسطينية التي تشكلت قياداتها من الشرائح البرجوازية الصغيرة أكثر من 70% من بين أبناء اللاجئين.

4- من الملاحظ أيضاً أن التغير البنيوي الذي تعرض له القطاع بعد 1948 على الصعيد الاجتماعي، لم يؤدِّ إلى تغير ملموس في الوعي الاجتماعي العفوي للجماهير الفقيرة في علاقتها بطبقة كبار الملاك، خاصة وأن رموز هذه الطبقة استطاعوا نسج علاقات مع الإدارة المصرية الحاكمة، وقاموا بتجديد علاقاتهم مع عدد من المخاتير ومشايخ البدو من اللاجئين والمواطنين على حد سواء، وهي علاقات استندت إلى المصالح الطبقية المشتركة بين الفريقين.

5- إن المتغيرات الجديدة أدت إلى "انهيار الأساس المادي للمجتمع الفلسطيني في القطاع الذي أدى إلى تفسخ العلاقات الاجتماعية التقليدية فيه"، خاصة بين اللاجئين الذين فرضت عليهم الظروف الجديدة –في المخيمات- ممارسة سلوكيات لم تستوعبها المفاهيم والقيم والعادات القديمة، مثل اضطرار المرأة للعمل، والاستقلال النسبي للأبناء، والبطالة، والعمل في مهن جديدة، وقد أسهم كل ذلك في السنوات الأولى فقط إلى خلق حالة من الاغتراب ، فالوضع البائس في المخيم ولَّد شعوراً دونياً وإذلالاً ثقيلاً مادياً ومعنوياً، مثل الوقوف في طوابير لاستلام الإعانة من وكالة الغوث (UNRWA) ، وطوابير للحصول على المياه، وطوابير على أبواب الحمامات المشتركة للمخيم، وطوابير للحصول على العلاج والدواء، وتفشي مظاهر الفقر والبطالة والأمراض ، وقد عزز من بؤس هذا الواقع ضعف وخراب الأوضاع الاقتصادية في القطاع، فتولد شعور بالاغتراب الجماعي لدى اللاجئين الذين لم يكن الخلاص بالنسبة لهم يعني تحسين الأوضاع الحياتية، بل التخلص من علَّة هذا الوجود الجديد، لذلك رفضوا – ومعهم جماهير المواطنين الفقراء –مشاريع الإسكان والتوطين التي طرحت في فبراير 1955 حفاظاً على هويتهم الوطنية الفلسطينية، وذلك على الرغم من أن 80% من اللاجئين في قطاع غزة، كانوا يعيشون –في تلك المرحلة- ضمن أوضاع اقتصادية اجتماعية بالغة البؤس، وفي ضوء ذلك يكمن السبب الرئيسي للنهوض الثوري لسكان القطاع، بتأثير مباشر وغير مباشر للحالة الوطنية والقومية النهضوية المقاومة للاستعمار والصهيونية بقيادة مصر عبد الناصر في تلك المرحلة، على النقيض من المرحلة الراهنة التي بات فيها مجمل النظام العربي خاضعاً –بدرجات متفاوتة- للتحالف الامبريالي الصهيوني.

حول الوضع الطبقي (1967 - 1993) :

على العكس من التحليل الطبقي الماركسي او الكلاسيكي، فإن ظروف التطور الاجتماعي والاقتصادي في الضفة وقطاع غزة اتسمت باختلاط –كما هو الحال في المجتمعات العربية بدرجات متفاوتة- بتداخل الانماط أو التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية القديمة والحديثة ، حيث نلاحظ وجود وتشابك العلاقات البدوية والعشائرية والشبه اقطاعية إلى جانب العلاقات الرأسمالية التابعة، علاوة على دور الاحتلال والأوامر العسكرية الاسرائيلية في احتجاز تطور الأوضاع الاقتصادية في الضفة والقطاع، وفي مثل هذا الوضع لا نستطيع التأكيد على وجود طبقات متبلورة بالمعنى الكلاسيكي للطبقة، إذ أن هناك تداخلاً إلى حد كبير بين البرجوازية الصغيرة والفلاحين الأجراء والعمال، وليس من السهل الفصل بينها,إلى جانب بقاء عدد قليل من كبار الملاكين القدامى والجدد، يتمتعون بامتيازات طبقية ضمن تحالفهم وتداخلهم في شبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية مع كبار التجار (الوسطاء أو السماسرة أو الكومبرادور), بحيث يشكلون معاً "طبقة" متجانسة المصالح نستطيع أن نطلق عليها "التحالف الطبقي للبورجوازية العليا الزراعية والتجارية" الذي يتطلع دوماً إلى المحافظة على مصالحه وأوضاعه المتميزة.

 أما الشرائح الفقيرة من العمال والفلاحين والكادحين ، فقد تعرضوا –وما زالوا -  لأقسى أنواع الاضطهاد الطبقي الاجتماعي والوطني، لا فرق هنا بين لاجئ أو مواطن. ثم تأتي الطبقة البورجوازية الصغيرة (أكثر من 60% من مجموع السكان) لتشكل في معظم شرائحها (الميسورة أو العليا ، الوسطى، الفقيرة ) نسيجاً اجتماعياً متنوعاً ومتعدداً ليس على المستوى الاجتماعي فحسب، وإنما أيضاً على المستوى السياسي، حيث توزعت شرائح البرجوازية الصغيرة على كافة الأحزاب والتيارات اليمينية والوطنية والقومية والشيوعية والدينية في غمار العمل الوطني عموماً, بدءً من ستينيات القرن الماضي، وفي إطار م.ت.ف عام 1964، وفصائل المقاومة بعد هزيمة حزيران 1967، وما تلاها من محطات حتى اللحظة

الخصائص التي ميزت  قطاع غزة حتى عام 1993 :

1. بروز الهوية الوطنية الفلسطينية لأبناء القطاع, ليس بالمعنى الوطني أو الجغرافي فقط, بل وكذلك بالمعنى القانوني تاريخياً, إذ أن القطاع يعتبر في المحافل العربية الرسمية والدولية "الجزء الباقي من فلسطين".

ولهذا العامل ايجابيات كثيرة, لكنه من جانب آخر ساهم في زيادة التعقيدات في وجه أبناء القطاع، من قبل النظام العربي الرسمي عموماً, فالشعور بالاغتراب, والحرمان من الإقامة والعمل، ورفض القبول بالجامعات والتضييق السياسي والاجتماعي بكل صوره... إلخ العراقيل التي تلاحق ابن غزة أينما ذهب.

2. المساحة الضيقة التي تبلغ (365) كيلو متر مربع أو ما يعادل (1.35%) من المساحة الإجمالية لفلسطين.

3. الكثافة السكانية العالية في ظل تدني الموارد الاقتصادية، وما ينتج عن ذلك من مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية، تؤدي إلى تعزيز النهوض الوطني في ظروف موضوعية (عربية ودولية) مواتية، أو تؤدي إلى مفاقمة اوضاع الاحباط واليأس ، كما هو الحال في الظروف والمتغيرات العربية الراهنة التي تتسم بتكريس التبعية والتخلف وانفجار الصراع الطائفي الدموي ارتباطاً بانتشار حركات الاسلام السياسي.

4. عزلة القطاع الثقافية، حيث لا توجد مؤسسات ثقافية فيه بالمقارنة مع عشرات المؤسسات في الضفة الفلسطينية، وغياب المؤسسات الجماهيرية الفاعلة, فمن المعروف أن قطاع غزة طوال المرحلة (1967-1993) لم تصدر فيه أية صحيفة أو مجلة ثقافية، فكرية، نويرية، أو سياسية،  وأشير في هذا الصدد إلى مسؤولية كافة الفصائل الوطنية الفلسطينية التي ركزت اهتمامها منذ البدء على البعد العسكري – كعنصر وحيد – في النضال مما أدى إلى تهميش النضال الديمقراطي المطلبي الجماهيري والنقابي والثقافي طوال المرحلة (1967-1993)، الأمر الذي أسهم – مع عوامل عديدة أخرى – في تطور وانتشار حركات الإسلام السياسي.

الأوضاع  والتطورات الاجتماعية والسياسية:

التطور الاجتماعي، في الضفة والقطاع، منذ عام 1994 إلى اليوم، لم يكن تطورا إيجابيا في محصلته أو نتائجه العامة، حيث تعرض لمتغيرات وتحولات ساهمت في انحراف العديد من جوانبه، بصورة كلية أو جزئية، عن سياق التطور الوطني والاجتماعي العام الذي شقته الحركة الوطنية الفلسطينية في التاريخ المعاصر، بحيث قادت هذه المتغيرات إلى تحولات ومظاهر سلبية أدت إلى تفكيك وانقسام البنية السياسية المجتمعية والبنية القيمية والأخلاقية لمجتمعنا الفلسطيني، الذي يعيش في حالة قريبة من اليأس والاستسلام، تعود في قسم كبير منها إلى أسباب وعوامل داخلية، غير قادرة على وقف الصراعات أو لجمها، بل على العكس، يبدو مضطراً أو مكرها – في معظمه – التعاطي مع احد قطبيها (فتح وحماس) في الضفة أو قطاع غزة، دون أي افق يؤشر – في المدى المنظور – على الخروج من هذا المأزق المسدود سواء على صعيد التحرر الوطني أو على الصعيد الاجتماعي. حيث أصبح مجتمعنا الفلسطيني محكوماً لما يسمى بمظاهر "مأسسة الاستبداد والفساد والتخلف" بدل مأسسة النظام العصري الديمقراطي القائم على المشاركة الشعبية والوحدة الوطنية والتعددية السياسية.

ذلك إن ما جرى من تراكمات سياسية ومجتمعية تفكيكيه منذ 14 حزيران 2007 حتى اللحظة، شكل نقيضاً لكل من صيرورة التحرر الوطني والتطور الاجتماعي والسياسي الديمقراطي، حيث سادت حالة من الاستبداد والقمع والتخلف الاجتماعي والركود الاقتصادي، كرست –بعد 14 عاما من الانقسام- واقع أقرب إلى الإحباط واليأس وانسداد الأفق، ليس بالنسبة للعملية السياسية فحسب، بل أيضاً بالنسبة للأوضاع الاجتماعية والحريات العامة وحرية الرأي، حيث بات المواطن الفلسطيني محكوماً بقيود تحد من حريته السياسية والفكرية والشخصية، وبالتالي فاقداً لدوره أو لحوافزه الذاتية للإسهام الطوعي الحر في إطار النضال الوطني أو التحرري من ناحية، إلى جانب فقدانه لدوره على الصعيد الديمقراطي والاجتماعي والثقافي العام من ناحية ثانية.

 وهنا بالضبط تحولت المتغيرات السياسية الاجتماعية في كل من مجتمع الضفة و القطاع إلى حالة نقيضه للتقدم أو ما يمكن تسميته بإعادة إنتاج التخلف والتبعية أو الاستتباع، رغم الاختلاف في شكل الظاهرة ونسبتيها بين الضفة والقطاع، ذلك إن المتغيرات الناجمة عن الصراع على المصالح الفئوية بين الفريقين (فتح وحماس) في ظل الاحتلال، أدت إلى زعزعة وتفكيك أو إضعاف وعي شعبنا الفلسطيني بأفكاره وأهدافه الوطنية التوحيدية ، كما أضعفت وعيه بوجوده السياسي الاجتماعي الموحد رغم توزعه وتباعده الإكراهي في المكان بين الضفة والقطاع من ناحية، وبين مخيمات اللجوء والمنافي من ناحية ثانية ، بحيث يمكن الاستنتاج ، بأن كل من حركتي فتح وحماس ، تقدم للشعب الفلسطيني (وللشعوب العربية) أسوأ صورة ممكنة عن حاضر ومستقبل المجتمع الفلسطيني المحكوم ، بصورة إكراهية ، بأدوات ومفاهيم التخلف والاستبداد والقهر والقمع والاستلاب وهي مفاهيم وأدوات لن تحقق تقدماً في سياق الحركة التحررية الوطنية بل على النقيض من ذلك ستعزز عوامل انهيارها والانفضاض الجماهيري عنها.

إن الوضع الراهن-في ظل استمرار ضعف وعجز قوى المعارضة الوطنية واليسارية- يشير إلى أن السياسة باتت فناً للفوضى أو الموت البطيء بدلاً من فن إدارة الصراع الوطني والاجتماعي، وهي حالة يمكن أن تؤدي إلى نكبة أشد خطراً وعمقاً من نكبة 48.

معنى ذلك هناك خلل كبير دفع، ومازال يدفع ثمنه شعبنا الفلسطيني عموماً والجماهير الفقيرة خصوصاً. ذلك أن ما يجري هو شكل من أشكال الصراع السياسي والمجتمعي، الممنهج والمحكوم بالطبع بأهداف ومصالح وبرامج انقسامية فئوية محددة، تسعى إلى إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني، أو تفكيكه إلى دويله مسخ في غزة وروابط قرى في الضفة، وفق مقتضيات الصراع بين القطبين، (فتح وحماس) في إطار فسيفساء متناقضة، قد يفقد معها المشروع الوطني مرتكزاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، ما سيدفع إلى تكريس نوعاً من تفكك الفكرة الوطنية التوحيدية السياسية الفلسطينية أو الخضوع لضغوط وشروط الرؤية الأمريكية الإسرائيلية بدعم صريح من معظم الأنظمة العربية التي باتت اليوم خاضعة تماما للمخطط الصهيوامريكي وشروطه التطبيعية.

إذن ، فالتطور الاجتماعي ، في الضفة والقطاع ، منذ عام 1994 إلى اليوم ، لم يكن تطورا إيجابيا في محصلته أو نتائجه العامة ، حيث تعرض لمتغيرات وتحولات ساهمت في انحراف العديد من جوانبه ، بصورة كلية أو جزئية ، عن سياق التطور الوطني والاجتماعي العام الذي شقته الحركة الوطنية الفلسطينية في التاريخ المعاصر ، بحيث قادت هذه المتغيرات إلى تحولات ومظاهر سلبية أدت إلى تفكيك وانقسام البنية السياسية المجتمعية والبنية القيمية والأخلاقية لمجتمعنا الفلسطيني ، الذي يعيش في حالة قريبة من اليأس والاستسلام، تعود في قسم كبير منها إلى أسباب وعوامل داخلية، غير قادرة على وقف الصراعات أو لجمها، بل على العكس، يبدو مضطراً او مكرها – في معظمه – التعاطي مع احد قطبيها (فتح وحماس) في الضفة أو قطاع غزة، دون أي افق يؤشر – في المدى المنظور – على الخروج من هذا المأزق المسدود سواء على صعيد التحرر الوطني أو على الصعيد الاجتماعي. حيث أصبح مجتمعنا الفلسطيني محكوماً – الى جانب الانقسام الكارثي - لما يسمى بمظاهر "مأسسة الفساد والتخلف" بدل مأسسة النظام العصري الديمقراطي القائم على المشاركة الشعبية والوحدة الوطنية والتعددية السياسية.

ونتيجة لهذه الاوضاع، فقد انتقلت الحالة الفلسطينية من التعاطي مع الأزمات المتلاحقة، إلى المأزق الراهن، حيث تتجلى ملامح المأزق السياسي والمجتمعي الفلسطيني، عبر مواقف كل من حركتي فتح وحماس وصراعهما الفئوي على السلطة والمصالح بعيداً عن جوهر وشكل المشروع الوطني التحرري الديمقراطي الفلسطيني،دون الغاء او تجاوز أدوار العوامل الخارجية وتدخلها التآمري على راهن ومستقبل قضيتنا الوطنية، وصولاً إلى حالة غير مسبوقة من الاحباط واليأس تترافق مع ذلك التدخل العدواني الخارجي الإسرائيلي الأمريكي وال قطر ي والخليجي والأردني والمصري ومعهم المنظمات الدولية فيما يسمى Ngo,s...الخ ، كما هو حال شعبنا اليوم عموماً، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص.

أخيراً ، إن ما يعرض علينا اليوم من حلول تخديرية (باسم التسوية والمفاوضات العبثية أو المهادنة) وفق منطق ارادة العدو الامريكي الاسرائيلي تحت مسميات متنوعة ترفض مبدأ الحديث عن حق العودة وإزالة المستوطنات والانسحاب الكامل والدولة المستقلة ، لا تسعى إلا إلى تكريس الموقف الأمريكي الإسرائيلي.. أو شرعية المحتل وشروطه المذلة، وبالتالي فإن الحد الأدنى المطلوب الذي يمكن ان يقبله شعبنا كنهاية اخيرة لسقف التنازلات يتلخص فيما ورد في وثيقة الوفاق الوطني ( مايو 2011 )، التي يتوجب التمسك بنصوصها والتمترس حول بنودها وأسسها ، وهذا يعني صراحة رفض الرؤية الأمريكية الإسرائيلية رغم إدراكنا لموازين القوى المختلة مع العدو ، لكن شعبنا الفلسطيني لن يقبل شروطهم أو وثائقهم الاستسلامية ، لان قبوله هو الخسارة الكبرى أو مؤشر الضعف والاستسلام ، ورفضه هو مؤشر القوة والصمود في وجه هذا العدو الأمريكي الإسرائيلي المتغطرس الذي يريد ان يفرض عليه إرادة القوة الغاشمة أو شرعية المحتل الغاصب .. التي سيرفضها شعبنا وفاءً منه لرسالة شهدائه وجرحاه وأسراه ، والتزاماً بتواصل مسيرة النضال من أجل دولة وطنية ديمقراطية مستقلة كاملة السيادة على كل جزء من ارضنا وسماءنا ومياهنا.. هذا هو الحد الادنى المطلوب في هذه المرحلة، ولنا في الحراك الثوري العفوي   عبر الشباب الوطني الفلسطيني الذين قدموا عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمعتقلين في الضفة وقطاع غزة، دفاعاً عن القدس، ومن أجل الحرية وتقرير المصير والاستقلال والعودة، دروساً وعبر عظيمة تؤكد على أنه مهما تراكمت عوامل الاحباط واليأس في صفوف شعبنا، فانها لن تؤدي به صوب القنوط والاستسلام، بل تراكم في نفوس وعقول الشباب الفلسطيني مزيداً من التصميم لمواصلة النضال مهما غلت التضحيات.