د. وسام الفقعاوي
رئيس تحرير مجلة الهدف/ فلسطين
"لا على الفكر بالمطلق يجري الكلام، ولا من خارج التاريخ يجري"، بهذا التحديد وضع مهدي عامل أو حسن حمدان يده على ما يجعل من الفكر ما هو عليه، أي السياق التاريخي الذي يفصح الفكر فيه عن نفسه على نحوٍ يحيله إلى سابقه، ويجعل منه لحظةً تجاه لاحقه. ولكنه (أي الفكر) إذ يكتشف موقعه من السابق واللاحق؛ فإنه يفعل ذلك في ضوء راهنه. طيب تيزيني.
كتابُ "نقد الفكر اليومي" هو التسميّة التي لم يخترها الكاتبُ لكتابه؛ حيث كان قد اغتيل (أيار 1987) قبل أن ينتهي منه؛ فتكفلّت "لجنة نشر تراث مهدي عامل" بذلك، إضافةً إلى التسميّة؛ قامت بوضع مقدمته وترتيب موضوعاته ووضع خلاصاته أو خاتمته، حيث عكف من خلاله مهدي عامل إلى نقد الفكر الذي يسود على صفحات الصحف والمجلات في تعامله مع الواقع وتغييبه له، ونجد نقده يتركّز على صحيفتي النهار والسفير، لهذا طال نقده كلًّا من: إلياس خوري، وموسى وهبه، ورضوان السيد، وأدونيس، خاصّةً في تناوله للثورة الإيرانيّة في كتابه ذي الأجزاء الثلاثة؛ الثابت والمتحوّل، وغيرهم من الكُتَّاب.
جاء الكتاب الذي بدأه "عامل" في مطلع الثمانينات؛ أي في ذروة الحرب الأهليّة اللبنانية، في خمسة أقسامٍ مبوّبةٍ بالتتابع الآتي: ملاحظات أولى، في الفكر العدمي، الفكر الظلامي، الفكر البرجوازي المتأسلم، في عدم وجود نمط معَيّن للإنتاج الإسلامي؛ موظّفًا فيه أدوات التحليل الماركسي؛ ينقد ويفكّك من خلاله مفاهيم وأفكار الأطروحات أو الأيديولوجيّات النقيضة المسرودة في الفكر اليومي.
الأيديولوجي والمعرفي: توطين الماركسية
يقول د. طيب تيزيني: إن مهدي عامل وضع يده على مسألةٍ انشطر واستعر الخلاف حولها إلى أشكالٍ متصاعدةٍ في التعقّد والتنوّع، وهي مسألة الأيديولوجيّ والمعرفي، من خلال تعليق "عامل" الدقيق والمكثّف، بأنه "لا طهر للفكر إلا بانتفائه؛ فكلُّ يدٍ ملوّثةٌ بما تكتب؛ تنحاز حتى حين لا تنحاز، أو ترتدّ ضدَّ الانحياز؛ إذ ذاك توهّمٌ بالطهارة، ولكن من موقع رفض التاريخ..". فالدعوة إلى محاذرة الأيديولوجي من طرفٍ، وإلى الاتجاه – أولًا وأخيرًا – نحو المعرفي من طرفٍ آخر؛ تخلط بين أمرين خلطًا يقضي إلى التفريط، ليس بالأيديولوجي فحسب، بل كذلك بالمعرفي ذاته.
وبيّن "تيزيني" أن مهدي عامل في مشروعه الفكري كان يعي ما يواجه الماركسيّة من تحدياتٍ في العالم العربي، وربّما كان في مقدّمة التحدّيات؛ تحدّيان كبيران؛ يتمثّل أوّلُهما بعمليّة توطين الماركسيّة عربيًّا، في حين يفصح الثاني عن نفسه بصيغة النظريّات والمناهج والأيديولوجيّات المناهضة للماركسيّة في البلدان العربيّة. فلقد واجهت الماركسيّة عبر ممثّليها العرب من سياسيّين ونظريّين سؤالًا كبيرًا ودالًّا: هل سيكون هنالك في المجتمع العربي من يمتلك القدرة الإبداعيّة لجعل الماركسيّة فكرًا قادرًا على طرح الأسئلة الرئيسة من موقع خصوصيّة هذا المجتمع، وعلى تقديم أجوبةٍ عليها تسهم في صوغ موقفٍ نظريٍّ نقديٍّ دقيقٍ من مشكلاته وقضاياه وآفاقه؟
فمن موقعه، في الحزب الشيوعي اللبناني، لم يكن مهدي عامل؛ مفكّرًا تنظيريًّا فقط، بل امتدّ عمله المعرفي إلى الساحة النضاليّة والسياسيّة، حيث عمل على الربط الجدلي (الديالكتيكي) بين النظريّة والتطبيق التي بحاجٍة مستمرّةٍ للتغذيّة الراجعة، لهذا رأى "عامل" أن اعتقاد "اكتمال" أو "التماميّة" كما يسميها طيب تيزيني في الماركسية؛ أحد أشكال الانحطاط الفكري. ثُمّ كان قد أعلن -في كتابه: نقد الفكر اليومي- أن الماركسيّة هي نمطٌ من "حركة المخاطرة في اختبار النظري ونَظرَنَة الاختباري".
أما التحدي الثاني الذي واجه "عامل" بحسب "تيزيني"؛ فتمثّل بالتدفق النظري والمنهجي المُنتج في الداخل، والوافد من الخارج، والآخذ منحى المناهضة للماركسيّة، حيث كانت مهمّة "مهدي" شاقّةً وشائقةً في آن؛ ذلك لأن المسألة هنا أخذت تظهر في عمقها الذي تمثّل – في وجهه الأعظم – في التحدي الأوّل: كيف تُوَطّن الماركسية ونؤصّلها عربيًّا في سياق الإجابة عن مشكلات الواقع العربي، وعبر حوارٍ مفتوحٍ مع التيّارات النظريّة الأخرى؟
في هذا الشقّ المعقّد من المسألة تبرز أهميّة ما أنجزه "مهدي" في كتابه، كما يذهب طيب تيزيني، حيث اعتبره أنه يقدّم مثالًا مُحكمًا على محاولة توطين الماركسيّة وتأصيلها عربيًّا، خاصّةً أنها ظهرت خارج الحقل العربي. وهكذا؛ وجد مهدي عامل نفسه على جبهتين اثنيتن هما، وجهان لموقفٍ واحد، كما يكمل "تيزين"ي، وهو التوطينُ الجدليّ التاريخيّ الماديّ للماركسيّة، وتأصيلها في مجتمعه اللبناني والعربيّ بعامّة، حيث إنّ ما واجهه "عامل" كان كافيًا كي يُنجز مشروع مواجهةٍ لعمليّة التوطين، لهذا قام بمهمّةٍ خاصّة؛ تمثّلت في "نقد الفكر اليومي"، وهنا يكمن أحد جوانب الجدة والعمق فيما قدّمه على هذا الصعيد.
يضيف طيب تيزيني بأنّ إيلاءَ الأهميّة لعنوان كتاب مهدي عامل "نقد الفكر اليومي"؛ قائمٌ لسببٍ يخرج عن هذا العنوان ويدخل في الحقل النظريّ الدلالي. فهذا الأخير يفصح عن أن "مهدي" حقّق نموذجًا بديعًا وطريفًا من التقاطع بين الجزئيّ والكلّي، واليومي والبحثي، والطارئ والاستراتيجي. وهنا، وفي هذا الأفق من المسألة؛ نضع يدنا على واحدٍ من المفاصل الكبرى للجهد الذي أنجزه المفكّر مهدي عامل على صعيد توطين العمومي في الخصوصي وتأصيله، من خلال عمليّةٍ متبادلة؛ بمعنى: عدم خضوع الخصوصي للعمومي، بل بتفاعلٍ متجادلٍ وخلّاقٍ معه، وعلى هذا الأساس؛ كان يُنتج الماركسيةَ، لبنانيًّا وعربيًّا، ويعيد إنتاجها.
القاسم المشترك: انتهاك التاريخيّة
لقد وصف طيب تيزيني مهدي عامل في كتابه "نقد الفكر اليومي" بالمفكّر العميق الذي "يتحرّش" بكل ما يراه ذا جدارة على صعيد الفعل الاجتماعي والتاريخي، وهو في هذا مجتمعٌ، كان يواجه ما تطلع به الصحف اليوميّة والأسبوعيّة والشهريّة، جنبًا إلى جنبٍ مع ما رآه متمّمًا لذلك من كتبٍ ومؤلّفات.. ويمكن النظر إلى ما قدمه في كتابه على أنه نقدٌ لثلاثة تيّاراتٍ فكريّةٍ، أو صيغ من ثلاثة تيّاراتٍ فكريّة، هي: الإسلامي، و"العلماني" والماركسي (مع الإشارة إلى أن التيار الماركسي يدخل باعتبارٍ معيّنٍ في حقل التيار العلماني). وقد انطلق في نقده من أن هذه التيّارات تلتقي في قاسمٍ مشتركٍ أساسيٍّ ذي خصوصيّةٍ منهجيّة، وتختلف وتتمايز في نقاطٍ ومواقعَ أخرى مفتوحة. أما القاسم المشترك هذا، فيكمن في أن التيّارات المذكورة تتأسّس على "غير التاريخيّة" أو على انتهاك التاريخيّة بكونها سياقًا ناظمًا وضابطًا للحدث المجتمعي والتاريخي والتراثي.
عدَّ "تيزيني" أن الكاتب مارس في ذلك نقدًا سوسيوثقافيًا، وكذلك فلسفيًّا منطقيًّا؛ يؤسس لاستيعابه ابيستيمولوجيًّا. أما التيار "الماركسي" الذي يقصده "عامل"، فهو الذي يفصح عن نفسه بلغة خصوم الماركسيّة وكذلك دعاتها أو –على نحوٍ أدقّ– مجموعة من دعاتها.
التيار المتأسلم: تفكيك الخطاب
أما فيما يتعلّق بالتيار الإسلامي أو "التيار المتأسلم" بحسب مهدي عامل، فإن طيب تيزيني يقول: إن "عامل" انطلق في مناقشة العلاقة بين الديني (الأيديولوجي) والاجتماعي (السوسيولوجي)، عبر تلقّفه لمادةٍ كثيفةٍ من "الفكر اليومي"، الذي واجهه في الأدبيّات السياسيّة الأيديولوجيّة وغيرها؛ محدّدًا، بوضوحٍ، أن الديني حين يظهر في مرحلةٍ ذات خصوصيّةٍ محدّدة، على أنه سيّد الموقف في الحركة التاريخيّة، فإن الباحث سيجد نفسه أمامَ عمليّةٍ معقّدة – مركّبة؛ تقتضي القيام بتفكيك الخطاب الديني السائد، حيث قادت عملية التفكيك تلك مهدي عامل إلى تمييز الديني، باعتباره إطارًا وحقلًا تتمفصل فيه الصراعات والتناقضات والنزاعات والتحالفات التي تجري في المجتمع (وهذا ما يأخذ به) من طرف، والديني باعتباره شكلًا من أشكال الوعي الاجتماعي الذي يراد له من قبل أطرافٍ اجتماعيّةٍ أن يُحوّل إلى الذهنيّة الحاسمة في الحضور الفكري من طرفٍ آخر.
يرى "تيزيني" أن هذا ما كان يهيمن في الفترة التاريخيّة التي أنتج فيها "عامل" "نقده للفكر اليومي"، وأن ما كان ينبغي الإشارة إليه (ولم يُشر إليه من قبل مهدي) فيقوم على أن الأيديولوجي قد يتشخّص في لحظةٍ تاريخيّةٍ ما (كتلك التي عايشها مهدي)، بحيث يتحوّل إلى النسيج الاجتماعي السوسيولوجي نفسه، وهذه الأخيرة تظهر، خصوصًا، في بعض المجتمعات من نمط تلك التي يختلط فيه السلوك الديني بالاعتقاد الديني والطقوس الدينيّة، وكثير من أنماط العيش لدى أوساط المؤمنين غير المُنظّرين وغير العَالِمين، ثم غير المنتجين ثقافيًّا.
الإظهار والإخفاء في "نقد الفكر اليومي"
يذهب د. كمال عبد اللطيف إلى أن كتاب "نقد الفكر اليومي"؛ يُظهر معطياتٍ، ويخفي ما يعادلها أو يفوقها، ذلك أنه يفترض أن بعض أجزائه ربما كتبت أثناء أو قبل بعض كُتب المؤلّف الأخرى، وهو الأمر الذي يؤدّي إلى إمكانيّة النظر إلى بعض أعمال الكاتب؛ باعتبارها مقدماتٍ أو خلاصاتٍ ونتائجَ لهذا النص، ليس لأنه يُذَكِّر بها، في سياق نقده، أو في هوامشه، أو يستعيد بعض جملها وموضوعاتها أثناء تحليله ونقده، بل لأنّ الكتاب خُصّص لقضيّةٍ محدّدة؛ قضيّة نقد التيّارات الأيديولوجيّة، التي تؤكّد حضورها اليومي، في الصحف اليوميّة السيّارة وملاحقها الثقافيّة؛ بهدف ترسيخ اختياراتٍ في الفكر وفي السياسة؛ في الاقتصاد وفي التاريخ؛ خدمةً لمصالحِ طبقةٍ محدّدة، رغم إعلاناتها المتكرّرة، بكونها تفكّر في استقلالٍ عن السياسة والتاريخ؛ الأمرُ الذي لا يقبله مهدي عامل تمامًا، لأنه لا يستطيع قَبول مبدأ مجانيّة الفكر أو الأيديولوجيا، في حلبة الصراع التاريخي.
النقد من مواقع الانخراط في الممارسة الحزبيّة!
انطلاقًا من كلّ ما سبق؛ عدَّ "عبد اللطيف" أن مراجعةً جديّةً لمحتوى الكتاب تتطلّب تعيين الموقع الذي اتّخذه صاحبه أثناء كتابته؛ فدونَ تعيين هذا الموقع، قد لا تنجح عملية استدراج النصّ للبوح بكلّ ما فيه. وهنا يمكن القول: إن مهدي عامل، أنجز نصوص هذا الكتاب مستعينًا ببعض معطيات الفلسفة المعاصرة، والفلسفة الماركسيّة بالذات. ومن جهةٍ ثانية، فإن الرصيد المعرفي الماركسي؛ المُؤَطِّر والمُوَجِّه لمقالات الكتاب، مهووسٌ أيضًا بحس المناضل السياسي الشيوعي؛ المنخرط في ممارسةٍ حزبيّةٍ محدّدةٍ ومشروطةٍ بجملةٍ من الشروط ضمنَ سياق تاريخٍ معيّنٍ، يمثّله رصيد الحزب الشيوعي اللبناني، وتحدّد بعضَ جوانبه طبيعةُ الممارسة السياسيّة الحزبيّة في لبنان.
بين ألتوسير والنظرة المختزلة لوظيفة الفكر في التاريخ
يحدّد "عبد اللطيف" أن أبرزَ مقدّمةٍ في النصّ، تتمثّل في المبدأ الماركسي، الذي صاغته الألتوسيريّة بدقّة، وذلك عندما تحدّث ألتوسير عن الفلسفة، باعتبارها صراعًا طبقيًّا في مستوى النظريّة. أما المقدّمة الثانية؛ فتتمثّل في قناعة الكاتب، بأن زمننا هو "زمن الفكر العلمي في عصر الثورات الاشتراكيّة". ويعكس هذا المبدأ تفاؤل الكاتب من جهة؛ التفاؤل الذي يغذّي حساسيته السياسيّة، وإقدامه على الانخراط النضالي، في صفوف تيّارٍ سياسيٍّ محدّد. كما يعكس، من جهةٍ ثانية؛ فهمًا معيّنًا للمشروع الاشتراكي. وتتمثّل المقدّمة الثالثة، في نظرته المختزلة لوظيفة الفكر في التاريخ؛ الوظيفة التي تحصر مهام النظر الإنساني، في العمليّات الفكريّة الأيديولوجيّة؛ المواكبة والمصاحبة للانخراط السياسيّ المتحزّب، لمصلحة تطوّرٍ في التاريخ؛ مرسومة ملامحه العامة سلفًا.
فقر الدراية بالتاريخ الإسلامي!
يرى "عبد اللطيف" في سياق نقده لكتاب في "نقد الفكر اليومي" بأن "عامل" يرسم في القسم الأخير من كتابه خلاصاتٍ فقيرةٍ حول تاريخ الإسلام، وتاريخ السياسي في الإسلام، في سياق نقده لكتاب أدونيس "الثابت والمتغيّر"، وقد كشفت صفحات هذا القسم، عن محدوديّة دراية الكاتب بالتاريخ الإسلامي، وتاريخ الصراع الأيديولوجي في الإسلام، حيث إنه لم يستطع تجاوز النتائج العامّة التي بلورتها دراسة أدونيس، بما لها وما عليها، وقد تجاوزتها فيما بعد دراساتٌ جديدةٌ في مجال نقد العقل الإسلامي.
العنف اللغوي والوثوقية السياسية: كشف الثغرات
يأخذ "عبد اللطيف" على مهدي عامل استعماله أثناء نقده؛ كثيرًا من أشكال السخريّة الظاهرة والمباشرة أحيانًا، والمبطّنة في أحيان أخرى، وتتضمّن سخريته كثيرًا من العنف اللغوي؛ كثيرًا من الحدّة. إنه يتحصّن باختيارٍ فلسفيٍّ محدّد، واختيارٍ سياسيٍّ بعينه، ويخاصم الجميع، لكنّ الرد عليه سهل، حيث يرى بأن التحصّن بسقف العقائد، في مجال السجال الأيديولوجي، يُمكّن الخصوم في الأغلب الأعمّ، من كشف ثغراته، وفضح ثقوب السقف الذي يحتمي به... ثم إنه لم يفكّر في سجاله مع من عدّهم الممثّلين الطبقيّين للطبقات السائدة، في أهميّة التمييز بين الجبهة الثقافيّة التاريخيّة النقديّة المفتوحة، ومقتضيات الصراع السياسي، التي تتطلّب في لحظاتٍ معيّنةٍ التخندق، والتموقع الحزبي. فالجبهة الثقافيّة؛ تمتلك من الخصوصيّات ما يجعل منها إطارًا للتوافق المرحلي والمؤقت والتعاقدي، بخلاف رهانات الجبهة السياسيّة، التي تتطلّب منطقًا آخر في التعامل والنقد والمواجهة.
ينطلق "عبد اللطيف" في نقده هنا بأن مهدي بقي يفكّر بوثوقيّة السياسي، وهو يجادل مثقّفين يجرّبون لغاتٍ ومفاهيمَ أخرى، داخل جدليّة الصراع التاريخي، حيث لا يمكن مخاصمتهم جميعًا، بمبضع أغلب أدواته تنتمي إلى القرن 19، الذي ينتمي منها إلى القرن العشرين، يظلّ في حاجةٍ إلى جهدٍ في التقريب والتبيئة والملاءمة، أي جهد في إعادة الإبداع...!
خاتمةٌ وتوضيح
إن قراءة مهدي عامل من خلال "نصه/كتابه" في "نقد الفكر اليومي"، ليس بالأمر اليسير أو الهيّن، خاصّةً، أنه ترك عملًا غيرَ منجزٍ من قبله، بل تكفلّت لجنة تراثه بجمعه وإكماله، وهذا بحد ذاته يجعل الأمر "حمّال أوجه"، لذلك فهناك من يرى أن الوقوف على هذا الكتاب وفهم مقصده، لا يمكن أن يكون بمعزلٍ عن قراءة كتابين مهمّين "لعامل"؛ هما "في التناقض" و "في نمط الإنتاج الكولونيالي". كما أنه عندما عكف على كتابة نصوص "نقد الفكر اليومي"، كان يعيش أتون الحرب الأهليّة اللبنانيّة، من موقع انخراطه النضالي وتموقعه السياسي، لهذا أراد من وراء كتابه الدخول في سجالٍ مباشر، كنوعٍ من امتدادٍ للحرب، أو هو ضمن لحظة الحرب، وكان يبحث عن حدود التمايز الشديدة؛ من هنا دخل في سجالٍ حادّ، وغير متساهل، وعنيفٍ، أيضًا، على المستوى اللغويّ، والمستوى المفاهيميّ، ضدّ عددٍ كبيرٍ من الكُتَّاب والمفكرين الذين تناولهم بالنقد في كتابه.
يبقى القول: إنّ فكر مهدي عامل أو حسن حمدان هو فكرٌ نقاشيٌّ حادّ، ويعكس جوانب شخصيّته الحيويّة، ويعكس، من ناحيةٍ ثانيةٍ، بِنية الحقل الاجتماعيّ التاريخيّ الثقافيّ للبنان والعالم العربي، وهذا ما جعله منسجمًا مع منطلقاته النظريّة والفكريّة؛ إذ استطاع من خلال هذا الكتاب أن يتوحّد مع ذاته؛ فكان مهدي "المفكّر مناضلًا، والمناضل مفكّرًا" في سياق التقدّم التاريخي؛ تقدّم شعبه وأمّته في رحاب الحريّة والاستقلال والديمقراطيّة والاشتراكيّة والوَحدة.
[1] . طيب تيزيني: مهدي عامل: ما الذي تبقى منه؟ مقاربة مفاهيمية منهجية، في: نحو تجديد المشروع الاشتراكي، ندوة عقدت بين 16-18 أيار 1997، دار الفارابي، ط.1، 1997.
[2] . كمال عبد اللطيف: حدود وحدودية السجال الأيديولوجي: قراءة في "نقد الفكر اليومي" لمهدي عامل، في: نحو تجديد المشروع الاشتراكي، ندوة عقدت بين 16-18 أيار 1997، دار الفارابي، ط.1، 1997.