على عتبات باب المنزل كانت تجلس أمي تنتظر معجزة من السماء أن يعود طفلها مهدي من المدرسة وتأخذ حقيبته المدرسية وتطلب منه الذهاب إلى المرحاض من أجل تناول وجبة الغداء بعد ذلك، ولكن ذلك الانتظار المحمول بالتحايل على الوجع _ربما كلمة وجع أدق من الألم هنا_ لم يكن سوى مراوغة مع الفقدان لعين باتت لا ترى طفلها يلهوا مع دراجته الهوائية التي كان يعشق صيانتها كل يوم في ساحة البيت، ربما كانت تسأل ذاتها ويديها تلامس عجلات الدراجة الهوائية " هل يعقل أن الدراجة تفتقده؟"، علينا أن نجيبها اليوم نعم تفتقده لأن حتى الجماد له تاريخ، ولأجل هذا التاريخ استشهد مهدي.
في حوار أقرب منه إلى التمتمة الممزوجة بالحزن، الحزن المدفون تحته بركان من الغضب كانت تقول أمي للنسوة حولها: أنها كانت خائفة مع بداية الانتفاضة الثانية من خسارة أحد ابنائها شهيد أو أن يصاب أو يعتقل أحد ابنائها، ولم تكن تتوقع أن يكون الطفل مهدي الأصغر لديها هو من سيكون معلمها في الخسارة، ليصبح هذا الطفل لاعب النرد المميز فكان جيش الاحتلال هو الخصم، ورقعة النرد ساحة بلدة بيت أمر شمال مدينة الخليل، وبالرغم من قوة خصم ورصاصة المحرم إنسانياً، بحجر النرد الحجر الفلسطيني ربح مهدي اللعبة الأكبر.
الساعة الثامنة إلا ربع من مساء يوم الأربعاء الموافق 4.3.2009، اقتحمت قوة من جيش الاحتلال بلدة بيت امر، كان هذا الاقتحام الخامس تقريبا على التوالي للبلدة بمعدل اقتحام واحد كل يوم، كان ضابط جديد يدرب جنوده كيف يكون الإرهاب على أجساد الشعب الفلسطيني، هذا الضابط وقف قبل الاقتحام الأول وقال لأهل بلدة بيت أمر: "بديش شباب بيت أمر تيجي على مدخل البلد تضرب حجار أنا بطلع عليهم، تمركزت قوات الاحتلال وسط البلدة، بدأت الاشتباكات كالعادة بين كر وفر لعبة خطيرة ربما تكون فيها شهيد، كانت تصل بعض الاشتباكات التي يتخللها أصابات واعتقالات حتى الساعة الثانية فجرا في بعض الليالي.
وفي هذا اليوم كانت بوابة حقد جديدة تنفتح لتأخذ عائلتي إلى عالم آخر، كأنها آلة تقوم بنقلك إلى زمن آخر، بدأت الحكاية عبر كمين محكم استطاع جيش الاحتلال اعتقال اثنين من الشبان، اثناء عملية الاعتقال كان الجيش يطلق الرصاص باتجاه الشبان الذين حاولوا الابتعاد عن المكان، بجانبي شاب ارتطم بالأرض وصرخ "يما" _تلك الصرخة التي احدثت زلزل في عرش قلب أمي وعقلها_.
حاولت معرفة الشاب، كان يرتدي كنزة مكتوب عليها "1948" في تلك اللحظات أدركت أن هذا الشاب هو شقيقي " مهدي"، جسده الذي يرسم خريطة فلسطين على الارض، هذا الجسد حدوده وطوله وعرضه وسيادته، كل شيء كان يشير أنه " مهدي"، حالة من الخوف، الهلع، الرعب، وأقدامي تهتز ووجهي صامت، استطاع الشبان انقاذ جسد مهدي من الاعتقال، ولتبدأ حكاية مهدي "رصاصة بالرأس اخترقت الدماغ وبدأت حوار الشهادة معه"، مثل الحوار الذي عاشته لينا نابلسي ومحمد الضرة وايمان حجو وركان مزهر والكثير الكثير من الشهداء الاطفال، هذا الحوار الذي لن ينتهي إلا بانتهاء الاحتلال.
عبر البلدات المجاورة وهروبا من الاحتلال خوفا من اعتقال "مهدي" استطاعت مركبة الاسعاف الوصول إلى مستشفى الاهلي بمدينة الخليل، كان والدي يحتضن شقيقي داخل الاسعاف ويقوم بتمزيق ملابسه لتنظيف الدم عن رأس طفله محاولاً بكل جنونه العبثي رؤية وجه ابنه، بيديه المقهورتان الخائفتان من الفقدان يحاول مساعدة طاقم الاسعاف تلك اليدين اللواتي احتضنت مهدي عند انقاذه من امرأة حاولت سرقته بعد ولادته بدقائق والدموع تتساقط من عينيه كفلاح استخار الله لإنقاذ زرعه فجاءت حبات المطر، ولكن اصبحت حركات اليدين والدموع داخل الاسعاف تفرق.
قبل أن يصعد والدي إلى سيارة الاسعاف ويدرك الحكاية طلب من الشبان بوضع المصاب داخل مركبته بسبب تعرض المركبة التي ابعدت مهدي عن مكان الحدث لعطل، وقبل نقل مهدي إلى مركبة والدي جاءت الاسعاف، لم يكن يعرف أن ابنه المصاب، قام بمساعدة الشبان بنقل المصاب إلى الاسعاف، وقبل انطلاقها كان والدي يعود إلى مركبته للذهاب إلى البيت وعند باب المركبة أخبره شاب حاول استجماع شجاعته أن المصاب هو " ابنك"، أنها لحظات لا تقاس بعقرب الساعة، بل بعقرب الهذيان، أنها لحظات جنون.
على الكرسي أمام باب غرفة العناية المركزة جلست والدتي تنظر والدهشة تشع من عينيها على الناس التي تقف بمصتها تقول شيء، ولكن أمي تحاول كسر ذلك صمت بسؤال لوالدي" شو وضع ابني؟"، والدي الذي حاول مراوغتها بالقول إنه مصاب وإصابته بسيطة. بعد قليل، وعندما سألته أمي عن عدد الناس المتواجدين في المستشفى ، قال لها الحقيقة، لتصرخ بمليء حنجرتها التي تخنقها الدموع "ابني"، ولتقف أمي أمام تلك الحقيقة وجهاً لوجه، وتدرك أن ابنها مصاب برصاص في الدماغ، ووضعه خطير جداً.
في اليوم التالي للإصابة وصلنا قبل الجميع كان مهدي على سرير غرفة العناية المشددة مُمَدًّداً يلتقط أنفاسه بصعوبة واضحة، سمح لنا الممرض المناوب بالدخول وعندما رأته أمي قبلت قدمه وتذكرت أنها قبلت هذه القدم عند ولادته، ولم تسأل إلا سؤالا واحدا وشفتاها تلامس اصابع قدم ابنها ما زال هذا السؤال بلا إجابة حتى اليوم، بعد اثنى عشر سنة على رحيل شقيقي " شو الي رماك هالرمية يما" !، سؤال ما زال على شاهد نعشه، تعجز كل مبررات العالم عن إجابته.
وبعد 7 شهور و8 أيام مكثهم مهدي في غيبوبة مستمرة دون حركة دون إشارة، لم تسمع أمي خلالها حوار ابنها مع الموت، كان جسده مُمَدًّداً يعيش بين الموت والحياة، كل يوم، كل دقيقة بل كل ثانية كانت مرعبة ماذا لو كانت هي ثانية الفراق، الموت، الشهادة. كانت تلك اللحظات تمر مثقلةً ولكأن ساعة الزمن تدرك الحقيقة وتخاف البوح بها، أصبح مهدي اليوم والأسبوع والشهر، أصبح الوحدة التي يقاس بها الزمن، وسيصبح قريبا الوحدة التي يقاس بها حجم الوطن، قربه وبعده، وجوده وعدمه، وسيصبح الاداة التي يعرف بها الشمال والجنوب، لقد أصبح بوصلة. وقريبا أي جدار لا يحمل صورة الشهيد جدار مشبوه، أي صباح لا يبدأ به صباح مشبوه، البدر حتما يشبهه، وأي جملة لا تتحدث عنه لا تتذكره، لا يوجد بين تفاصيلها هي جملة من لغة أخرى أية لغة إلا اللغة الفلسطينية.
في الثاني عشر من شهر أكتوبر من عام 2009، الساعة الخامسة فجرأ جاء عمي وقام بقرع الباب كما قرعت الشمس الغيوم ليقولَ لأبي "مهدي بخير بس اختلفت صحته شوي وبدهم يعملوا اله عملية" ، اتذكر جيداً ماذا فعل أبي قام بالاتصال على شقيقي _والأخير كان قد اخبر عمي قبل والدي_ وسأله السؤال الأصعب ، السؤال الذي يحمل معه ولادة قضية جديدة لطفولة لم تعش بعد " ماله مهدي يابا ؟!" ، على الاتجاه الثاني من الاتصال شقيقي يرد " مهدي استشهد، استشهد مهدي يابا"، حالة صمت وعيون تبحث عن ملجأ و جمود كأن كل شيء توقف عند تلك الكلمات محاولاً فهم أيهما يجب أن يسبق مهدي أم فعل الاستشهاد !.
العائلة كل العائلة دخلت البيت كسيل جارف ، عمي أخبر الجميع قبل إخبار أبي ، كان الصراخ والدموع يملأن البيت والجميع يحاول فهم ما يجري ، انتشر الخبر في البلدة كالنار في الهشيم، وصل أحد الأقارب لنذهب معه إلى المشفى كان الجو غريباً و الشعور أشد غرابةً ، لم استطع حتى اليوم قراءة ذلك الشعور الذي يجتاح كل جسدي كلما نظرت إلى السماء أراها صامتةً ترفض البوح ، جامدةً و مرتديةً ثياب الحداد. كانت أمي بين يدي و تصرخ " مهدي ما مات ولا صوت الرصاصة راح يوخذ مني سندي" ، و أبي يحاول إسكات دموعه التي تمردت عليه وتمردت على كل شيء ، تلك الدموع التي قالت لا في وجه كل من حاول إخمادها ، تلك الدموع التي وقفت عاجزة عن دفع الشقاء ولا حتى عن إبحار قارب بداخلها للوصول إلى الطفل مهدي ، ولكنها كانت بريئة كانت فلسطينية كانت كمهدي تطالب فقط بحقها في الوجود.
كان جسده يمشي إلى الحرية، جسدٌ يغطيه علم فلسطين وكأن العلم يقول للجميع أنا هنا فوق مهدي مكاني، نعم كان يوم لفلسطين و من فلسطين لن أنساه ولن أنسى تكاتف أهالي البلدة الذين زفوا الشهيد الطفل الذي تقدم ليدافع عنها، كان يوم لا تستطيع أن تحسبه بالدقائق والساعات كان علينا أن نحسب هذا اليوم باستشهاد مهدي بالموقف بالدموع بالهتافات بالحناجر التي كانت تصرخ " يا شهيد ويا مجروح دمك هدر ما بروح"، يوم نتذكر فيه كيف وضعنا جثمان مهدي تحت قنابل الغاز التي اطلقها الاحتلال استفزازا لحق عائلة الشهيد في دفن جثمان طفلهم لتمتد المواجهات معهم حتى ساعات الليل المتأخرة، ونحن نغني:
هي هي هي
يا يا شوقي لطلّاتو
وياما حلفنا بحياتو
واللي ضحى بدماتو بقلوبنا حي
رجع الخي ...
وخبرونا يلي كانوا قالوا كان سبع بأوانه
وع الأعادي نيرانو شويهم شي
رجع الخي ...
أعد حقائبه هذا الطفل حاملاً معه طفولة فلسطين ورحل، رحل إلى الأبد، رحل زيزا الصغير، هذا الطفل المشاكس الذي كان يحمل عصفوراُ في قلبه، أسمه فلسطين، يحاور شجرة اللوز التي وقع عنها ولكن احبها رغم كل شيء، كان يعشق اللعب مع الاشياء ويصنع معها الحوارات، من الخشب يعمل بيتاً صغيراً، من سلك الحديد ينصع مركبة.
كان هذا الطفل يفهم معنى التضحية منذ صغره رغم مشاكلة الطفولية الكثيرة، في أحد القصص عنه كانت شقيقتي في منتصف الطريق تذكرت انها لم تحصل على مصروفها كادت تختنق من شدة البكاء، قال لها مهدي: دعينا نعود إلى البيت لنحصل على مصروفك، ولكنها رفضت تلك المغامرة لان البرد سيكون مضاعف، استمروا في المشي ومعاطفهم القديمة لا تساعدهم على الاحتماء من المطر، وصلوا إلى باب المدرسة كان مهدي مرتبك لا يعرف ماذا يفعل؟، ويسأل نفسه شقيقتي بدون مصروف يعني بدون طعام طوال اليوم الدراسي؟!، سحب مصروفة من جيب بنطاله ووضعه في يد شقيقتي وبدأ يعد خطواته إلى مدرسته، ربما كانت تتمنى شقيقتي في تلك اللحظة أن يدير مهدي ظهرة ويبتسم فقط.
في ذكراه الثانية عشر أسأل هل تعذب؟ هل صرخ، في تلك اللحظات لا أعلم لكنه استشهد، والاحتلال قتل الفرصة أن يكون لي أخ.