(2-7)
عرض وتلخيص كتاب
(1876-1983)
(تأليف: باميلا آن سميث، ترجمة: إلهام بشارة خوري، دمشق – دار الحصاد للنشر – 1991)
1922-1948
أنهى سقوط القدس في كانون الأول 1917 ما يقارب من 1300 عام من الحكم الإسلامي في فلسطين، على الرغم من ذلك لقيت القوات البريطانية بقيادة قائد قوات الحملة البريطانية على مصر الجنرال ادموند اللنبي الترحاب وقوبلت بفرح واحتفالات، إضافة إلى ذلك توقعت الجماهير أن يؤدي انتصار الحلفاء إلى إعلان استقلال الأقاليم العربية بعد فترة وجيزة.
الاستعمار البريطاني والاستيطان الصهيوني:
بدأت الحكومة البريطانية، حتى قبل الانتصار النهائي وتوقيع اتفاقية الهدنة في 11 تشرين الثاني 1918، بالقلق إزاء النجاحات المتصاعدة للثورة العربية، والوعود المنصوص عليها في مراسلات حسين –مكماهون، ذلك أن هذه الوعود ستضر بالمصالح البريطانية في فلسطين.
بعد سبع شهور وفي أيار 1916 –ولَّما يمض عام واحد على الوعود البريطانية لحسين بان الأراضي العربية ستمنح الاستقلال –اجتمع الممثل الفرنسي جورج بيكو والسير مارك سايكس في لندن، ووقعا على اتفاق ثلاثي لتقسيم الإمبراطورية العثمانية –عُرف باسم اتفاقية سايكس بيكو.
أما فلسطين، منطقة النزاع المحتدم، فقد فصلت عن سوريا ووضعت تحت اداراة دولية، على أن يقرر مصيرها النهائي في مؤتمر سلام يحضره ممثلو الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين. ولن يسمح للشعوب المعنية بالإدلاء برأيها في تقرير مصيرها، لذلك بقيت طي الكتمان حتى نهاية الحرب.
رغم ذلك بدأت الشائعات حول هذه الاتفاقية بالتسرب إلى فلسطين، ولم يفت الأتراك نقل محتوياتها إلى الشريف حسين بعد أن نشرها البلاشفة. ولم يعرف خداع الحلفاء حداً، رغم ذلك لم يكن حنث البريطانيين والفرنسيين لوعودهم نهاية المطاف. كانت الحكومة البريطانية مقتنعة بأهمية إلقاء كل ثقلها مع الصهاينة وليس مع اليهود البريطانيين الذين يقولون بان اليهودية دين وليست قومية، وان مثل هذه الخطورة قد تسيء إلى أبناء دينهم في أماكن أخرى من أوروبا. ففي رسالة كتبها اللورد بلفور وزير خارجية بريطانيا ووافقت عليها وزارة الحرب، الى اللورد روتشلد في 2 تشرين الثاني 1917 اتضح هذا الموقف:
"تنظر حكومة جلالتها بعين العطف إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وسوف تبذل كل ما في وسعها لتسهيل هذه المهمة، ولكن يجب أن يكون واضحاً انه لن يكون هناك تمييز ضد الحقوق الدينية والمدنية للجاليات الأصلية، غير اليهودية في فلسطين أو حقوق اليهود ومواقعهم السياسية في بلدان أخرى".
رغم محاولة بريطانيا تصوير الوثيقة (وعد بلفور) على أنها التزام معنوي مفروض على كل الأمم المتحضرة (هذا التوجه الذي لقي ترحيباً في أمريكا إبان حكم ويلسون) فقد وصفت بشكل أدق على أنها "وعد من أمة لأخرى بإعطائها ارض أمة ثالثة". إلا أن وينستون تشرشل (رئيس وزراء بريطانيا آنذاك) أسقط هذا التعبير قائلاً:
"يجب أن لا يعتبر تصريح بلفور.. كوعد نابع من دوافع عاطفية، بل إنه إجراء عملي من أجل قضية مشتركة إذ جاء في لحظة لم يكن بمقدور هذه الفضية إهمال أي عنصر مادي أو معنوي يفيدها"
مباشرة بعد صدور التصريح ألقت الطائرات البريطانية منشورات بنصه فوق المدن الألمانية والنمساوية، ووزعت منشورات أخرى في بولندا وأماكن أخرى من شرق أوروبا يوجد فيها تجمعات يهودية كبيرة.* وأبرزت الصحف الأمريكية التصريح، وتم نقله من يد إلى أخرى في روسيا القيصرية – حيث كان عليه أن ينافس المنشورات البلشفية الواسعة الانتشار بين اليهود. أما في فلسطين فلم ينشر هذا التصريح رسمياً إلا في عام 1920، أي بعد انتهاء الحرب وإحكام قبضة بريطانيا على البلاد.
أمل الفلسطينيون أن تمنع المشاكل التي ترافقت مع عمل سياسي مكثف إنشاء محمية بريطانية في فلسطين، وتحول دون وضع تصريح بلفور موضع التنفيذ. إلا أن هذه الآمال ذهبت أدراج الرياح. ففي 24 تموز 1922 وافق مجلس عصبة الأمم على انتداب بريطانيا لفلسطين وشرق الأردن، الذي تضمن فقرات من تصريح بلفور وفقرات محددة تمنح الوكالة اليهودية دوراً مباشراً في إنشاء "الوطن القومي". وكذلك فُرض الانتداب البريطاني على العراق والفرنسي على سوريا ولبنان.
إنشاء اليشوف:
اتخذت بريطانيا، حتى قبل التصديق على قرار الانتداب، خطوات من أجل إنشاء حكومة مدنية مؤيدة لها في فلسطين، ومن أجل البدء بتنفيذ تصريح بلفور. وبعد أربع شهور من صدور التصريح، في آذار 1918 وصلت بعثة صهيونية بقيادة الدكتور حاييم وايزمن – الذي أصبح فيما بعد أول رئيس لإسرائيل – الي فلسطين، وكان هدفها المعلن خلق أمر واقع يهيئ الأجواء المناسبة للمزاعم الصهيونية في فلسطين عند انعقاد مؤتمر سلام باريس القادم. فأعيد فتح الاثني عشرة مدرسة صهيونية، وأقيمت مدارس جديدة حتى وصل عدد المدارس الصهيونية إلى 40 مدرسة، وذلك من أجل تسهيل المطالب الصهيونية بالاعتراف باللغة العبرية كلغة تعليم إلى جانب العربية. ُوُزعت الأعلام ذات اللونين الأزرق والأبيض والتي تحمل نجمة داوود على السكان اليهود، وأُمروا بغناء النشيد الوطني الصهيوني في التجمعات المختلطة.
كما بدأ الصندوق القومي اليهودي – الذي أسس في العام 1901 في مؤتمر بال – و"الكيرين هايسود" (صندوق فلسطين)، وشركة تطوير أرض فلسطين، ومنظمات صهيونية أخرى بشراء المزيد من أراضي فلسطين وبالتحديد من ملاكي الأراضي الغائبين، وذلك لاستيعاب المهاجرين الجدد. تمكنت "الكيرين هايسود" بين عامي 1912- 1925 من شراء 200 ألف دونم- 18 ألف هكتار- من الأراضي الخصبة قرب الناصرة، وهى من أراضي عائلة سرسق. وفي العام 1929 اشترى الصندوق القومي اليهودي مساحات كبيرة من الأراضي. التي تعود أصلاً لقبيلة الحوارث، إلا أنه اشتراها من عائلة الطيان في بيروت. وحصل لاحقاً على مساحات كبيرة من الأراضي ، تبلغ 400 ألف دونم، في منطقة بيسان- هذه الأراضي كانت أصلاً من ممتلكات السلطان عبد الحميد الشخصية، ومن ثم تركت بين أيدي الفلاحين العرب. واشترى أيضاً مساحات كبيرة من الأراضي في منطقة الحولة، شمال فلسطين.هذه الأراضي كانت ملكاً لعائلة سلام في بيروت.
وفي الفترة بين عام 1920 و 1939 اشترت المنظمة اليهودية وأفراد يهود أكثر من 846 ألف دونم –
تمركز هؤلاء المهاجرين الجدد في المناطق المدينية الساحلية، حيث استثمروا أموالهم في العقارات وبيارات الحمضيات الرأسمالية، وفي الصناعة. وقد بلغ مجموع رؤوس الأموال التي ادخلها المهاجرون اليهود بين عامي 1920 و 1935 أكثر من 80 مليون جنيه فلسطيني. (يمكن تقدير ضخامة هذا المبلغ إذا ما عرفنا انه في ذلك الوقت كانت موازنة حكومة فلسطين حوالي 2 مليون جنيه في السنة).
ترافقت عمليات الاستيطان في الأرض وإدخال رؤوس أموال ضخمة مع عملية استعمار سوق العمل. فظهرت في بدايات العام 1904، أي مع بداية الهجرة اليهودية الثانية، مطالب صهيونية بتهويد العمل – (أي أنه ينبغي أن لا يعمل في المزارع اليهودية غير العمال اليهود). عَكَس هذا المطلب الأصول الفكرية لهؤلاء المهاجرين، فخلافاً لمن سبقهم جاء هؤلاء المهاجرون إلى فلسطين من أجل الحياة والموت على أرض أجدادهم، وحملوا معهم الأفكار الاشتراكية التي كان لها صداها الكبير في بولندا وأوروبا الوسطى في العقد الأول من القرن، وانتسب العديدون منهم إلى حزب بوعال تسيون (عمال صهيون).
بالنسبة للهستدروت فقد اختلف عن جميع نقابات العمال لكونه صاحب عمل وممثل للعمال في إن واحد. لقد أنشأ الهستدروت مصانع يهودية صغيرة، ومنع الإضرابات التي رآها معادية لتوسيع الصهيونية ولتطور الاقتصاد اليهودي بشكل عام. وشجع التدفق الكبير لرؤوس الأموال في الثلاثينيات من هذا القرن هذا التوجه بشكل كبير. فقد ازداد الطلب على الأيدي العاملة اليهودية، وبخاصة القادمين الجدد، للعمل في مشاغل ومعامل ومصانع المدن التي أنشأها القادمون الجدد من ألمانيا ومن أوروبا الوسطى. وساد في عام 1935 نوع من الاحتكار الاقتصادي في معظم المدن الساحلية، وكذلك في العديد من المستوطنات الزراعية.
وساعد الإضراب العام الذي أعلنه العرب في عام 1936 على استكمال هذه العملية: فاليشوف – الجالية اليهودية في فلسطين – أصبح باستطاعتها أن تستقل اقتصادياً. وأصبح زعماء الوكالة اليهودية في عام 1939 مستعدون للبدء بالمرحلة الثانية من خطتهم لإقامة دولة مستقلة: تحديداً محاولة تقسيم أرض فلسطين، وترحيل العرب من المناطق التي ستُضم للدولة اليهودية.
نشوء المجتمع الطبقي 1922 - 1936:
عندما انقسم الاقتصاد في فلسطين بين القطاعين العربي واليهودي أصبح السكان العرب مواطنين من الدرجة الثانية، وترافق ذلك مع تزايد بلترة* الفلاحين من ناحية ومع ازدياد غنى فئة أخرى من المجتمع تمثلت في كل من ملاك الأراضي والتجار المدنيين.
بلترة الفلاحين:
لم يعد الفلاح الفلسطيني الذي قاسى الأمرَّين أيام الحكم العثماني يحتمل هذا الواقع الذي ازداد سوءاً أيام الانتداب البريطاني. فعندما عمدت سلطات الانتداب إلى تتجير الزراعة، والى تحويل فلسطين إلى بلد منتج للمحاصيل التجارية، والى تشجيع المستوطنات الصهيونية دون اخذ اثر هذه المستوطنات على المجتمع الأصلي بعين الاعتبار، تسبب هذا كله بازدياد فقر الفلاحين الذين كانوا حتى عام 1936 يشكلون ثلثي سكان فلسطين.
أسفرت السياسة البريطانية هذه عن إن المنظمات والأفراد اليهود باتوا يملكون أكثر من 5% من مجموع أراضي البلاد عام 1935، واشتملت هذه الممتلكات على مليون دونم أو حوالي 12% من مجموع الأراضي الزراعية. أما ما تبقى من الأراضي، حوالي 8 مليون دونم، فكان عليها أن تنتج محاصيل من أجل التصدير إضافة إلى إنتاج محاصيل استهلاكية لتغطية احتياجات السكان العرب الذين ارتفع عددهم من 668.258 ألف نسمة عام 1922 إلى 952.955 ألف نسمة في نهاية عام 1935.
ازداد سوء وضع الفلاحين بعد عام 1930 رغم جهود الحكومة لتزويد الفلاحين بالقروض، والحد من الهجرة الجماعية من الأرض. ارتفعت أسعار الأراضي إلى مستويات لم يسبق لها مثيل نتيجة الهجرة اليهودية من ألمانيا وشرق أوروبا بخاصة في الفترة مابين عام 1933 وعام 1939.
نشوء العمل المأجور:
لم يكن أمام الفلاحين المرحلين وغير القادرين على حيازة أية ارض في الريف إلا خيار البحث عن عمل لهم في المدن المنتشرة على طول الساحل، إضافة إلى ذلك فإن سياسة الحكومة كانت منحازة إلى جانب اليهود عند تقسيم الوظائف الحكومية، فحصة اليهود من تلك الوظائف كانت اكبر من تلك التي يؤهلهم لها عددهم، أما الأجور التي كانت تدفع للمستخدمين، فقد أظهرت أيضاً الانحياز ضد العرب. كانت أجور الوظائف الحكومية التي لاتحتاج مهارة – مثل الحراسة والشيالة (العتالة) – بمعدل 100 مليم في اليوم (أي ما يعادل من 2.5 -3 جنيه فلسطيني في الشهر) للعامل العربي، بينما تصل إلى 200 أو 300 مليم يومياً للعامل اليهودي.
إضافة إلى ذلك كان العامل العربي يجبر- خلافاً لنظيره اليهودي – على العمل مدة 16 ساعة يومياً، ولم يمنح أي ضمان اجتماعي ولا أي تأمينات وظيفية على الإطلاق.
ومع تدفق الفلاحين المرحلين إلى المدن جاء أولئك الحرفيون والعمال المهرة الذين ضربت مهنهم أيضاً نتيجة انهيار الاقتصاد العربي وتدفق السلع الرخيصة المستوردة من أوروبا. وبالنسبة لأولئك الذين استمروا في العمل بمهنهم في الريف، فقد وجدوا أنفسهم أمام الخيار بين مأزقين، فإما الرحيل إلى المدن، حيث قد يمكنهم الاستمرار ببيع سلعهم إلى الفلاحين المهجرين، وإما أن يروا حرفهم وهي تنهار أمام أعينهم.
واستطاع بعضهم القليل أن يوظفوا عمالاً لحسابهم وبذلك أصبحوا جزءاً من البرجوازية الصغيرة الوليدة. ولكن هؤلاء هم الاستثناء، أما القاعدة فلم يكن أمامها أي خيار سوى الانضمام إلى جيش العمال الفائض والسعي للحصول على أعمال عادية في المدن.
نمو البرجوازية:
من دواعي السخرية أنه في أواسط الثلاثينات أصبح اقتصاد فلسطين من أكثر اقتصاديات الشرق الأوسط ازدهاراً، ويعود ذلك إلى عاملين: العمل الرخيص ورأس المال الفائض، إضافة إلى تحديث البنية التحتية. أدى الازدهار الاقتصادي إلى نمو طبقة من المستوردين والمصدرين والوسطاء، وبائعي الجملة، والوكلاء، والسماسرة، والمنتجين الصغار الذين استفادوا من التجارة الخارجية، وتسويق الزراعة، وبيع الأراضي، وارتفاع أجور البيوت في المدن. لم تعد هذه البرجوازية مقصورة على العناصر المسيحية، بل استقطبت عناصر من شرائح اجتماعية مسلمة: من الحرفيين، وملاك من أبناء المدن، ومن فقراء العائلات الارستقراطية. ففي عام 1931 كان يعمل في التجارة 12% من المسيحيين و 8% من المسلمين. فينما سيطر اليهود على استيراد الآلات الثقيلة والأقمشة ومواد البناء، تخصص العرب بالمقابل في استيراد وتصدير المنتجات الزراعية وقطع الغيار بالجملة وتجارة المواد الغذائية.
وأخيراً لابد من الإشارة بأن هذه القطاعات الجديدة من البرجوازية نزعت نحو التمركز في المدن الساحلية حيث الموانئ والقنصليات والوكالات الأجنبية، وكانت هذه الشريحة من أكبر المستفيدين من الارتفاع الكبير الذي طرأ على الممتلكات المدينية والإيجارات الناجم عن تزايد الهجرة اليهودية، وعدم توفر أماكن سفر كافية.
تجزؤ الطبقة الحاكمة:
استفاد الأشراف والعائلات المالكة الكبيرة من الانتداب البريطاني لفلسطين بشكل كبير. تمثلت هذه الاستفادة في الأرباح التي حققتها هذه الشرائح الاجتماعية من التوسع التجاري، وازدياد الطلب على الأراضي، والاتساع الكبير في المدن الساحلية. إلا أن الأشراف، وخلافاً للإقطاعيين – تأثروا بمصادرة أراضي الأوقاف وخلق إدارة علمانية خارجة عن نطاق سيطرتهم، حيث تم تعيين مسئولين بريطانيين أو كادر غربي التدريب (من العرب) في مواقع كانوا في السابق يسيطرون عليها.
أما العائلات المالكة للأراضي والتي وسعت ممتلكاتها أثناء الحكم العثماني كانت المستفيد الرئيسي من الارتفاع الكبير الذي طرأ على أثمان الأراضي الزراعية في فلسطين.
وفي هذا الجانب فإن أكبر تغير في معدلات الإنتاج طرأ على الحمضيات، حيث أدت زراعة الحمضيات في بيارات كبيرة إلى تضاؤل الطلب على الأيدي العاملة وارتفاع الأرباح بشكل كبير.
إن تركز الثروة في يد هذه الشريحة من المجتمع العربي الفلسطيني كان يَظهر بوضوح عند مقارنتها بأحوال الفلاحين، وبما أن العديد من مالكي بيارات الحمضيات قد امتصوا مبالغ هائلة من الأرباح عن طريق إقراض الفلاحين أو من إيجارات الأراضي فقد أصبحوا هدفاً لغضب الفلاحين.
من الناحية الأخرى، وخلافاً لمالكي الأراضي استمر الأشراف في اعتمادهم على الحكومة من أجل الحفاظ على موقعهم الاجتماعي، وبالتحديد من أجل السيطرة على الممتلكات والأراضي المسجلة كأوقاف.
فقد كتب "ستورزو" تقريراً يفيد أنه خلال الاضطرابات التي حدثت في عيد الفصح في القدس عام 1920 أعلن رئيس بلدية القدس، وهو ينتمي لأكبر العائلات الشريفة في فلسطين، موسى باشا كاظم الحسيني، نفسه زعيماً ومتحدثاً باسم المعارضة للانتداب البريطاني.
عندما توفى مفتي القدس كمال أفندي الحسيني، وهو ابن عم موسى كاظم عُين مكانه أخيه لأبيه أمين الحسيني، رغم معارضة عائلة النشاشيبي. وبذلك ضمن البريطانيون انقسام أكبر عائلات البلاد لأن أهم مركزين إسلاميين في البلاد هما الآن في أيدي عائلتين متنازعتين.
وأخيراً تجب الإشارة هنا إلى أن ما أسهم في تعقيد الأمور أكثر هو استعداد العائلات المالكة الكبيرة للتحالف مع إحدى العائلتين المتنافستين – الحسيني والنشاشيبي. فبما أن كلتا العائلتين لم تعارضا الحكم البريطاني بل صبت كل منهما جام غضبها على منافستها، أمل مالكو الأراضي أن يصلوا إلى مراكز قيادية في المجتمع العربي الفلسطيني دون تعرضهم ومصالحهم للخطر. حتى ثورة 1936 أيدت كل من عائلات التاجي والشوا وطوقان والبرغوثي والدجاني (القدس) وكذلك رؤوساء بلدية يافا ورام الله ونابلس و الخليل المعارضة، أما الحاج أمين الحسينيين عامة فقد استندوا إلى دعم جزء من عائلة التميمي والعلمي والجيوسي والمفتين والقضاة والأئمة الإقليمين – الذين كان الحاج أمين يعينهم بصفته رئيس المجلس الإسلامي الأعلى – وشيوخ القرى والمسؤولين عن إدارة أملاك الأوقاف.
الحرب الأهلية والصراع الطبقي:
ساد في المجتمع الفلسطيني منذ عام 1939 جدل ساخن حول أسباب هزيمة ثورة 1936، فقد كان لانعدام الوحدة في المجتمع الفلسطيني، وتقاعس القيادة التقليدية عن دعم النضال الوطني الذي مس مواقعها التقليدية دوراً كبيراً في هذه الهزيمة.
وتجب الإشارة إلى النقاط التالية:
أولاً: أثناء الإضراب العام، في ربيع 1936 رفض الزعماء الفلسطينيون، وهم آنذاك أعضاء في اللجنة العربية العليا، مطالبة اللجان المحلية إياهم بوجوب إشراك الموظفين الحكوميين بالإضراب العام.
ثانياً: عندما أوشك الإضراب على الامتداد ليشمل الفترة الحرجة زراعياً، أي في الخريف، موسم الحمضيات، عمل زعماء الحركة الوطنية على أن لايمس الإضراب مصالحهم الحيوية، فأصدر مالكو الأراضي الأقوياء في اللجنة العربية العليا مثل عوني عبد الهادي، ويعقوب الغصين وبدعم من الحاج أمين وراغب النشاشيبي نداءاً يحث على إنهاء الإضراب، ورغم أن السلطات البريطانية لم تستجب لمطالب المضربين.
ثالثاً: عندما أدرك الفلاحون والعمال المدينيون أن الاحتجاج السلمي عقيم، وبدأوا بالتالي يخططون لانتفاضة مسلحة، تدخل الزعماء مرة أخرى في محاولة لمنع الانتفاضة المسلحة، أو على الأقل تحجيمها وتقليل فعاليتها. فمثلاً عندما تقدم عدد من أعضاء اللجان المحلية طالبين الدعم من الحاج أمين رد عليهم بالنصح والتحذير من مغبة العمل ضد الحكومة. لقد حذرهم من مغبة الاستمرار في هذه الأعمال لأنها ستؤدي إلى خسارة العرب للدعم الذين يحظون به من لندن، وحثهم على شن حملة سلمية لكسب الدعم السياسي من بلدان إسلامية أخرى، أو على الأقل تأجيل تنفيذ خططهم إلى أن تنضج الظروف. وفي مناسبة أخرى ضغط عليهم من أجل العدول عن خططهم للهجوم على مراكز الشرطة و ومعسكرات الجيش البريطاني، وطلب إليهم تكثيف هجماتهم على المستوطنات اليهودية.
إضافة إلى الحاج أمين، رفض زعماء آخرون دعم الثورة المسلحة، فمثلاً رفضت عائلة النشاشيبي دعم الكفاح المسلح خشية أن يوجه السلاح في النهاية إلى صدرها.
وأخيراً عندما اتخذت الثورة طابع النضال الثوري المعادي للنخبة الإقطاعية وللبريطانيين على السواء نظم آل النشاشيبي وأعوانهم وبعض ملاك الأراضي الكبار وتجار المدن الأغنياء، الذين فقدوا مواقعهم لصالح الثوار، فرقهم الخاصة المعادية للثوار والتي كانت تهاجم حصون الثوار في الريف. وفي بعض المناطق كان مؤيدو عائلة النشاشيبي يسلمون معلومات للبريطانيين كانت تؤدي إلى اعتقال وأسر قادة الثوار.
* في الكتاب الصادر عام 1922، حاول وينستون تشرتشل أن يميز بين "وطن قومي لليهود في فلسطين" وما يحمله هذا التعبير من مضمون يعني إنشاء دولة يهودية على حساب الفلسطينيين، و "وطن قومي في فلسطين" يعيش فيه اليهود والعرب سوياً بسلام. ولكن من الصعب أن ينسجم أي من التعبيرين مع مبدأ ويلسون بخصوص حق تقرير المصير، ذلك إن العرب الذين كانوا يشكلون 93% من السكان، لم يُستشاروا بتصريح بلفور قبل أن يصبح سياسة عملية.
* تحولهم إلى عمال (بروليتاريا)