يعيش عمّال قطاع غزّة، وهم الفئة الأكبر بين شرائح المجتمع، نظراً لارتفاع نسبة البطالة الهائل، وقلّة بل وانعدام فرص العمل، أوضاعاً كارثيةً، إذ لا يُنظر لهم بأيّ عينٍ من الحقّ أو الاستحقاق، إذ تصل مُعظم الحالات بينهم إلى العبودية لأرباب العمل.
أجورٌ زهيدة، وتكاد تكون شبه معدومة، وفي نوعٍ من الابتزاز الاجتماعي، يضطّر العامل إلى القبول بأجر يشبه "المعدوم"، وتحت شعار "لا يوجد بديلٌ" يتلقّى في أفضل الأحوال أجراً لا يكاد يسد نصف حاجته الإنسانية بالحدّ الأدنى، في حالةٍ تُنافي كلّ الأعراف الإنسانية والحقوقية والقانونية، وفي ظلّ غياب دور الجهات الرسمية عن مراقبة وإجبار أصحاب العمل على تقديم الأجور المُستحقّة.
ساعاتٌ طويلة من العمل، مقابل شواكل معدودة يتلقّاها العامل، إذّ أظهرت حالاتٌ كثيرةُ بينهم ممارسة كلّ أشكال العبودية و"السُخرة" بين العمال، وهي أن يصل العامل موعد راتبه مديوناً لصاحب العمل، فبدلاً من أن يأخذ مالاً من صاحب عمله يضطّر إلى دفع مال لسد السلف المالية التي يضطّر لاقتراضها.
وفي هذا السياق، قال نائب مدير عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في قطاع غزة أ. جميل سرحان، إنّ هذا الشكل يمثّل صورةً وأشكالاً للرّق المعاصرة (عبودية الدَّين، والسُخرة)، داعياً لتفعيل رقابة وزارة العمل، وإلزام أصحاب العمل بدفع حدٍّ أدنى للأجور يكفل الحياة الكريمة للعمال.
وأوضح سرحان في اتصالٍ هاتفيٍ مع "بوابة الهدف"، أنّ الجمعية العامة للأمم المتّحدة قرّرت اعتبار يوم الثاني من ديسمبر من كلّ عام هو اليوم الدولي لإلغاء الرّق، وفي هذا اليوم قد نظرت للرّق بتصنيفٍ مُعاصر، وأوجدت مجموعةً من الصور التي تُشكّل في حقيقتها صوراً وأنواعاً للرّق، ومن هذه الصّور عمالة الأطفال، حيث اعتبرتها نوعاً من أنواع العبودية وبالتالي يجب مواجهتها وإلغاؤها، وأيضاً العمل بالسُخرة، حيث يُشابه ما يحدث لدينا في قطاع غزّة فيما يتعلّق بشأن الرّواتب الزهيدة جداً، كرواتب الموظفات في رياض الأطفال، أو العمال في المولات التجارية أو بعض منشآت التجارة وإلى آخره، هذه الفئات وغيرها تتلقّى شواكل معدودة بقيمة الساعة الواحدة، تصل ما يوازي أعمال السُخرة، أمّا الصورة الثالثة هي عبودية الدَّين وهي أن يُعطي صاحب العمل ديناً للعامل، والذي بدوره يجبره على العمل لسداد دينه، وهذا نوع يؤدّي إلى "العمل مُقابل الدَّين".
وشدّد سرحان على ضرورة إلغاء هذا النوع من العمل، لافتاً إلى أنّ مُنظّمة العمل الدولية ناقشت هذا الموضوع، بين أطراف الإنتاج والدول، وأكّدت أنّ هناك ما يُقارب 4 ملايين شخصاً حول العالم يخضعون لما يُسمّى الرّق المُعاصر، ونحن في قطاع غزّة وفق معلوماتنا تفيد بأنّ الكثير من الناس ينطبق عليهم المصطلح الجديد، باعتبار عدد منهم خاضعين للرّق المُعاصر.
وبيّن سرحان أنّ هذا الشّكل يتطلّب منا في قطاع غزّة ثلاث مسائل، أولها على الجهات التشريعية في قطاع غزّة التي يجب أن تضع آلياتٍ مناسبة لإلغائه، وثانيها الجهات النقابية التي بدورها تتّخذ دورها بحماية كل مصالح العمال بتخصصاتهم المختلفة، وثالثاً وزارة العمل، التي عليها الرقابة الفاعلة من أجل محاسبة وإجراء مخالفات لكلّ من لا يمتثل للحدّ الأدنى للأجور، فوزارة العمل تمتلك مُفتشين وعليهم أن يجروا جولاتٍ مباشرة ويوقعوا العقوبات المذكورة في قانون العمل.
ولفت سرحان إلى أنّ وزارة العمل تعلم بهذه الحالات وكلّ المجتمع يعلم ذلك أيضاً، لكنّ الجميع لا يتعاطى بالمفهوم الجدّي مع هذا الموضوع، لأنّ الجميع يتبّع قاعدة "مهو محدش لاقي شغل"، مشدداً على ضرورة انتهاء عهد التسليم بالواقع السيء وعهد "العبيد".
وعزا سرحان سبب الحالة السيئة التي وصل إليها العمّال إلى حالة السكوت التي تتّبعها الجهات الرسمية في قطاع غزّة، وعدم تطبيق القوانين الخاصّة بالعمّال.
وفي ذات الإطار، قال الباحث والناشط النقابي عبد الكريم الخالدي، إنّ السبب الأوّل والرئيس الذي أوصل عمالنا لهذه المرحلة؛ هو الانقسام السياسي والحصار المفروض على قطاع غزّة والذي أدّى لنسبة الفقر والبطالة العالية في قطاع غزّة، الذي أعطى الجرأة لأرباب العمل وفتح شهيتهم لانتهاك حقوق العاملين باعتبار انعدام البدائل لدى العمّال، مشيراً إلى أنّ جميع أصحاب العمل في قطاع غزّة في نفس المركب.
وبشأن عدم تطبيق القوانين الخاصة بالعمال لا سيما من قبل وزارة العمل، اعتبر الخالدي في اتصال مع "الهدف"، أنّ تلك القوانين حبرٌ على ورق، لافتاً إلى أنّ القصور في تطبيقها واقعٌ على كلا الحكومتين "في الضفة الغربية وقطاع غزّة"، وأنّ قرار الحدّ الأدنى للأجور وهو 1880 شيكل والذي من المفترض تطبيقه بداية العام القادم لا يُطبّق أصلاً على كلّ موظفي الحكومتين، فيوجد موظفون هنا وهناك يتلقّون أقلّ من الحدّ الأدنى للأجور، وتصل رواتب بعضٌ منهم وعلى المفترض أنّهم موظفون رسميون يتلقّون 1000 شيكل وما يزيد قليلاً وهو أقلّ من القانون، مُتسائلاً كيف يُمكنك تطبيق القانون على غيرك وأنت أصلاً لا تُطبّقه!؟
وأوضح الخالدي في نفس السياق، أنّ مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية وللأسف الشديد منتهكةٌ لحقوق العاملين، ومُعظمها لا يطبّق الحدّ الأدنى للأجور، منوّها إلى أنّ المشاريع التي تأتي لتلك المؤسسات والمفروز لها رواتب عالية يتمّ استقطاع تلك الرواتب من قبل أصحاب المؤسسات من الموظفين.
وأشار الخالدي إلى أنّ تلك المؤسسات لا تعمل على إنفاد القوانين، مضيفاً: "المسؤولون في غزّة وفي عهد وزير العمل السابق مأمون أبو شهلا حاولوا عام 2019 أن يطبقّوا القانون، لكنّهم لم يستطيعوا؛ بسبب حالة الفقر واستسلموا للواقع، وأصلاً مُعظم موظفي حكومة غزّة لا يتقاضون الحدّ الأدنى للأجور".
وشدد الخالدي على أنّ المطلوب لتجاوز هذه الحالة أولاً: "تطبيق القوانين بدرجةٍ أساسية من قبل الحكومتين ورفع أجور العاملين، على الرّغم من صعوبة ذلك في قطاع غزّة، ولكنّ على الأقل مؤسسات المُجتمع المدني تُطبّق ذلك، فهي التي تمتلك المال والموازنات التي تُغطّي ذلك".
واستغرب الخالدي غياب دور الجهات النقابية في هذه الحالة، مؤكداً على أنّ "الجهات النقابية هي جهات شريكة تمثّل العمّال، وعليها أنّ تلعب دوراً فاعلاً وريادياً، ولكن للأسف في ظلّ حالة الانقسام تراجع دور تلك النقابات المطلبي والنضالي وهذا ما مكّن أصحاب العمل من التغوّل على العاملين.
وختم الباحث النقابي الخالدي حديثه مطالباً الجهات النقابية بمتابعة أصحاب العمل وملاحقتهم ومقاضاتهم.
جدير بالذّكر أنّ إحصاءات أشارت إلى أنّ نحو نصف العمّال في قطاع غزّة عاطلون عن العمل عام 2021، كما أنّ ثلث العاملين يكسبون أقل من الحد الأدنى، ومعدل أجرهم الشهري 655 شيكل فقط.
ووصلت نسبة البطالة في القطاع إلى 45 %، بينما في صفوف الشباب البالغ عمرهم من 26 إلى 40 عامًا، تصل إلى حوالي 67 % وجزء كبير من الشباب هم من الخريجين البالغ عددهم قرابة 170 ألف شخصاً.