Menu

مفهومُ اليسارِ بين الثابتِ والمتحرّك

م. تيسير محيسن

نشر هذا المقال في العدد 33 من مجلة الهدف الإلكترونية

ممّا لا شكَّ فيهِ أنّ أيَّةَ معالجةٍ لمفهومِ اليسار - نظريًّا وتنظيميًّا وممارسةً - تقتضي مراجعةَ السياقات التاريخيّة التي نشأ فيها وتطوّر، وذلك يشمل: التحوّلات الاقتصاديّة والسياسيّة الكبرى، التَّجارِب العمليّة والأشكال التنظيميّة، الأفكار والمراجعات الرئيسة. ظهر مفهومُ "اليسار" مقترنًا بمفهوم "اليمين" للإحالة على التموضعِ المكانيّ، ومن ثَمَّ المواقفيّ والقيميّ، ومن ثَمَّ حُقن المفهوم – تدريجيًّا - بحمولاتٍ أيديولوجيّةٍ وقيميّةٍ وسياسيّة، وأعيد إنتاجُهُ في سياقاتٍ متغيّرة. تقولُ إحدى القراءات : إنّ اليسارَ واليمينَ هما وجهانِ للديموقراطيّة البرجوازيّة. يمكنُ تعقّبُ المفهوم وتحوّلاته عبرَ مراحلَ تاريخيّةٍ تبدأ من الثورة الفرنسيّة، ولا تنتهي في أمريكا اللاتينيّة مع عودة "اليسار" إلى السلطة.

يرى كولاكوفسكي أنّ مفهومَ اليسار غيرُ واضح، ويمكنُ تعريفُهُ فقط من خلال الأفكار، وليس التقسيمات الطبقيّة في المجتمع، وأنّ ثنائيّةَ "يسار ويمين" لا توازي أو تعادل الثنائيّة الطبقيّة "عمال/برجوازيين".

تعودُ نشأةُ المفهومين إلى الثورة الفرنسيّة، في سبعينات القرن 19، حيث نشأ مفهومَا "اليسار واليمين" للتعبير عن المواقف الراديكاليّة مقابلَ المواقف الأكثر اعتدالًا. وإذا كان اليسارُ حينئذٍ لم يحمل مضامينَ ثوريّةً أو اشتراكيّةً؛ فإنّ اليمين كذلك لم يكن يعني الرجعيّة أو الأيديولوجيا المحافظة. من المفيد القول: إنّ نشأة هذين المفهومين لم تسبقا فكرةَ التناقض الهيغليّة، لكنّها سبقت اكتشاف ماركس للتناقض في الرأسماليّة. كلا المفهومين يعدّان نتاجَ الحداثةِ الغربيّة. تمَّ تصنيفُ الحداثةِ الغربيّة، من خلال تناقضٍ أنثروبولوجيٍّ أساسيّ، أي تجسيد رؤيتين متناقضتين للعالم في الوقت نفسه. من ناحيةٍ، مشروع التحرّر الاجتماعيّ (إعلاء شأن الفرد)، ومن ناحيةٍ أخرى الاستغلال والهيمنة البيروقراطيّة والعلميّة والاقتصاديّة. في الواقع، صِيغَ المفهومانِ؛ ليجسّدَا هذه النظرةَ المتناقضة للعالم!

في مراجعةِ مفهومِ اليسار برزت اتّجاهاتٌ عدّة؛ الأوّل: يرفض الربط بين ماركس واليسار، فاليسارُ هو الجناحُ اليساريُّ للديمقراطيّة البرجوازيّة. يعزّزُ أصحابُ هذا الاتّجاه موقفَهم بما يلي: لغة اليسار واليمين غريبةٌ عن الماركسيّة الكلاسيكيّة، التي فسّرت التناقضات الاجتماعيّة من منظورٍ طبقيّ، وقد تجلّت أصالةُ ماركس النظريّة من خلال النقد القاسي للسياسات اليساريّة في عصره، أي الاتجاهات البرجوازيّة والطوباويّة للاشتراكيّة والفوضويّة التي استخدم في نقدها ودحضها تحليلَهُ الماديَّ التاريخيَّ للمجتمعِ الطبقيّ. ويرى هؤلاءِ أنّ الطريقَ نحو تجديدِ الماركسيّةِ يكمنُ في التدمير النقديّ لليسار وليس إصلاحه، أي إزالة الغموض عن المثاليّة اليساريّة والأخلاقيّة والطوباويّة.

الاتجاه الثاني تمثّلَ في رفض الثنائيّة الأخلاقيّة المبسّطة، وهي ما يطلق عليها البعض "اليساريّة الرومانسيّة أو المثاليّة"، من حيث اختزال اليسار واليمين لمفاهيمَ فلسفيّةٍ مجرّدة؛ اليسار "جيّد"، بينما اليمين "شر"، اليسار باعتباره "نفيًا ثوريًّا"، في حين اليمين "تأكيدًا رجعيًّا". أوّلًا: لا علاقةَ لهذه الثنائيّات بماركس كما أسلفنا، ثانيًا هذا الاختزال يتعارض مع الوقائع والأحداث التاريخيّة. ففي كثيرٍ من الأحيان عمل اليسارُ على إضفاء المثاليّة على الظروف الواقعيّة، وليس لتغييرها. لقد انتقد ماركس هذه التجريدات بقسوةٍ باعتبارها غيرَ تاريخيّة، ويوتوبيّة، ومثاليّة.

الاتجاه الثالث يستند إلى فكرة أن من يقول بضرورةِ تجاوز مقولتي اليمين واليسار، يميني بالضرورة، ويعمل لحساب اليمين القوميّ أو العنصريّ أو الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ. أصحاب هذا الاتجاه ينادون من أجل "إعادة تشكيل اليسار الماركسيّ" ويرون أنّ هزيمته كانت ذاتيّةً إلى حدٍّ كبير. ويقترح هؤلاءِ أنّ المهمةَ الأولى في إعادة التشكيل والإحياء تتمثّل في إدراك أسباب الفشل التاريخيّ للماركسيّة (إذا أراد اليسار أن يغيّر العالم، فعليه أوّلًا أن يغيّر نفسه!) وتنطوي مناقشات أصحاب هذا الاتجاه على سؤالٍ جوهري: ما الذي يمكن أن يساعد في المهمّة العاجلة (إعادة تشكيل اليسار) من الناحية النظريّة والممارسة؟

كانت الانتقاداتُ بدأت توجّه لليسار التقليديّ أو الشيوعيّ، عقب ما عرف في التاريخ بمراجعاتِ خروتشوف عن حقبة ستالين، وغزو المجر 1956. منذ ذلك الوقت ظهرت مجموعةٌ واسعةٌ من الحركات والتيّارات الفكريّة اليساريّة، بلغت ذروتها في الاحتجاجات الجماهيريّة عام 1968، وفيما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة. وإثر انهيار المعسكر الاشتراكي، وتاليًا تفاقم أزمة الليبراليّة الجديدة، وردًّا عليها، ولدت أنماطٌ جديدةٌ من اليسار؛ من قبيل اليسار الورديّ أو المدّ الورديّ في أمريكا اللاتينيّة، واليسار الشعبويّ (بوديموس وسيريزا)، والحركات الاحتجاجيّة العفويّة.

ظهرت التياراتُ اليساريّةُ الجديدةُ لأوّلِ مرّةٍ في أوروبا. تبنّت المجموعاتُ الفرنسيّة والبريطانية تسميةَ اليسار الجديد بحثًا عن "طريقٍ ثالث" اشتراكيّ، يختلفُ عن الشيوعيّة الرسميّة أو الماركسيّة الأرثوذكسيّة، وعن التيار الديمقراطيّ الاجتماعيّ. من القضايا والمواقف التي شكّلت مهمازًا للحركة والتعبئة في أوساط الشباب والطلّاب تحديدًا، محاربة التسلّح النوويّ حركة الحقوق المدنيّة، ومعاداة الاستعمار، ومشاكل العالم الثالث، خاصّةً بعد الثورة الكوبيّة عام 1959. في وقتٍ لاحقٍ احتلّت الأجندةُ قضايا المساواة والبيئة والمرأة وحقوق الإنسان ومناهضة العولمة وغزو العراق وقضيّة فلسطين وحقوق الأقليّات، وخاصّةً بعد نهاية دولة الرفاء (الرفاهية)، وبروز العولمة المتوحّشة والتطوّر التقنيّ المذهل.

بدأ التراجعُ عن التصوّرات الاشتراكيّة القديمة، وبُدِئَ في البحثِ عن ثوّارٍ جدد. لقد نشأ صراعُ الأجيال بين اليساريين "القدامى" و"الجدد" بسبب الظروف الاقتصاديّة. في بداية الستينات بلغت الشيخوخةُ بالأحزاب العمّاليّة والشيوعيّة مداها، وجرى تطويرُ أشكالٍ جديدةٍ للاشتراكيّة: لم تعد المصانع أدوات رئيسيّة للقهر، إنّما وسائلُ الإعلام، ومن ثَمَّ تحوّل النقدُ اليساريُّ للاقتصاد إلى نقدِ الثقافة. وقيادة التغيير ليست من العمّال، إنّما الشبابُ الثائرُ الذين يقودهم الطلّابُ ذوو الآراء الناقدة. امتلاك وسائلَ سياسيّةٍ جديدةٍ (فعاليات أصغر تُحدث دويًّا إعلاميًّا أكبر).

في أمريكا اللاتينية، وبعد الموجة الثالثة من الدمقرطة في ثمانينات القرن 20، أتاحت الانتخاباتُ الفرصةَ أمامَ وصول اليسار إلى السلطة. تاريخيًّا، استُبعدت القوى اليساريّة من المنافسة والفوز بالقمع والانقلابات العسكريّة. أدّى انهيارُ الاتّحاد السوفييتيّ إلى تغيير البيئة الجيوسياسيّة، حيث اختفت العديد من الحركات الثوريّة واعتنق اليسار بعضَ مبادئِ الرأسماليّة، ولم تعد الولاياتُ المتّحدةُ تنظرُ إلى الحكومات اليساريّة على أنّها تهديدٌ أمنيّ، ما خلق انفتاحًا سياسيًّا لليسار. في نهاية التسعينات وأوائل العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، أدّت المحاولات الفاشلة للخصخصة، والتخفيضات في الإنفاق الاجتماعيّ والاستثمار الأجنبيّ إلى ترك البلدان تعاني من البطالة والتضخّم وغير المساواة. شهدت هذه الفترة تزايدَ أعداد العاملين في الاقتصاد غيرِ الرسميّ، والمعاناة من انعدام الأمن الماديّ، وتراجع الروابط بين الطبقات العاملة والأحزاب السياسيّة التقليديّة، ما أدّى إلى تنامي الاحتجاجات الجماهيريّة. قدّمت البرامجُ الاجتماعيّةُ لليسار، التي تركّزت على التغيير الاقتصاديّ وسياسات إعادة التوزيع، بديلًا حشدت قطاعاتٌ كبيرةٌ من السكان في جميع أنحاءِ المنطقة، فصوّتوا لصالح قياداتٍ يساريّةٍ كاريزماتية تبنت سياسة "مناهضة الولايات المتّحدة الأمريكيّة". أعقبت المدَّ الورديَّ موجةٌ محافظة. ومع ذلك، انبعث المدُّ الورديُّ مرّةً أخرى، في ظلّ أزمة كورونا، في المكسيك 2018، والأرجنتين 2019، وأعيد انتخابُهُ في بوليفيا 2020، إلى جانب بيرو وهندوراس وتشيلي 2021. يعدّ شافيز (فنزويلا)، ولولا (البرازيل)، وإيفو موراليس (بوليفيا) فرسان المدّ الورديّ في أمريكا اللاتينيّة.

دفعت تَجرِبةَ المدّ الورديّ الفيلسوف الأرجنتيني إرنستو لاكلو، وزوجته شانتال موفي نحو تطويرِ نظريّةِ اليسار الشعبويّة. كان لاكلو دعا إليها في كتابه "العقل الشعبويّ" عام 2005، وجاءت تطويرًا لأفكارِهِ الناقدةِ للماركسيّةِ الرسميّة منذ ثمانيناتِ القرن المنصرم. الشعبويّة وفقًا له تستلزمُ نهضةَ السياسة، وهي ثورةٌ ضدّ التفكير التكنوقراطي، وضدّ التنازل عن السيادة الوطنيّة لصالح المؤسّسات الدوليّة، والنخب السياسيّة النيوليبراليّة التي قلّصت السياسة إلى مشروعٍ إداريّ. في حين اعتنق الديموقراطيّون الاجتماعيّون الليبراليّة الجديدة، استخدم اليمينُ الحججَ القوميّةَ وكراهيةَ الأجانب لتحدّي العولمة، والتنازل عن السيادة الوطنيّة. ولهذا، يقترح لاكلو أنّه لوقف الانجراف نحو اليمين، يتعيّن على اليسار تطوير موضوعات/مطالب ديمقراطيّة شعبيّة.

عرّف لاكلو الشعبويّة على أنّها خطابٌ يعبّرُ عن المطالب الديمقراطيّة الشعبيّة، في مواجهة المؤسّسات (النظام)، وبالعداء مع الأيديولوجية السائدة. عنده تتحوّل السياسةُ عبارة عن مواجهةٍ عدائيّةٍ بين معسكرين: الشعب ضدّ الأوليغارشيّة: "تلك النخب التي تخدم مصالحها الذاتيّة، التي تعملُ ضدّ الوطن".

في الختام، يجدرُ القول: إنّه ومنذ سقوط الاتّحاد السوفياتي لم تزل مسألة "يسار جديد" تطرح بقوّة، وثمّة تطبيقاتٌ عمليّةٌ تنجح أحيانًا، وأحيانًا أخرى تبوءُ بالفشل. ولعلنا نفهم اليسار في عصرنا باعتباره حركاتٍ تتبّنى قيمَ الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة والحريّة والعلمانيّة، وتسعى إلى إطلاق المبادرات الجماعيّة في مواجهة تحكّم الدولة وممارستها دورًا أبويًّا على شعوبها. ونحن هنا نميّز بين اليسار والليبرالية، فالأخيرةُ لا تتبنّى العدالة الاجتماعيّة، كما أنّها تعارضُ المبادرة الجماعيّة لصالح سعي الأفراد لتعظيم مكاسبهم حتى وإن كانت على حساب المصالحِ الاجتماعيّة. هذا، ونميّز كذلك بينه وبين ال لينين ية التي ساوت الاشتراكيّة بالدولتية التي لا بدّ أن تُولّد الفساد، وإعادة إنتاج مجتمع طبقي وتبسط قبضتها البوليسيّة على شعوبها، وتحيلهم إلى قطيع خاضعٍ لسلطة حزب أو قائد فرد.

وأيًّا كانت وجهاتُ النظر بخصوصِ اليسار، فشله وهزيمته، قديمه وجديده، فمنذ الثورة الفرنسيّة وكلمة يسار اقترنت بقيمتين أساسيّتين، وهما الحريّة والمساواة. دافع اليسار عن المساواة، وخصوصًا المساواة الاجتماعيّة. آمن اليساريون دومًا بأنّ غيرَ المساواة الاجتماعيّة ناتجةٌ عن نظامٍ اجتماعيٍّ ليس بسبب الطبيعة أو الكسل، إنّما بسبب الاستغلال، ولهذا يجب تغييرُ النظام أو تعديله لجعله أكثرَ مساواة، ومن ثَمَّ تكريس الحريّة واقعًا لا أحلامًا، ومن هنا تصبح قضيّةُ التغيير (أو الثورة) هُويّةً دائمةً لليسار.

وكلمةٌ أخيرة، كشفت أزمةُ كورونا مدى سوء الإدارة الذي تمارسه النيوليبرالية، ولذا، يجري استكشافُ خياراتٍ بديلة. تشيرُ الدلائلُ بشكلٍ تراكميٍّ إلى الحاجة إلى الاشتراكيّة، وتؤكّد أهميةَ السياسةِ اليساريّة للجائحة.