ترجّل الفارس المقدام بدران جابر عن صهوة جواده، وارتقت روحه الطاهرة إلى عنان السماء ملتحقةً بكوكبة ممن رفاقه الذين سبقوه، خلال وقفة العز دفاعاً عن الانسان والوطن.
أمس الثلاثاء، وبحياةٍ مليئةٍ بالنضال والمواجهة، وتاريخ وطني ترويه أزقة وساحات الوطن، يرحل القيادي في الجبهة الشعبية من مدينة الخليل، والذي لم يكن يترك زنزانته في سجون الاحتلال العنصري إلا ليعود لها مدافعًا بكل الوسائل والأساليب عن معاني النضال والحرية والعدالة.
وفاة القيادي الكبير اعتبرت حدثاً مؤلماً توسع صداه داخلياً وخارجياً، وكذلك شعبياً في عيون الكثير من تلامذته ومحبيه، وعبر منصات التواصل الاجتماعي.
وبحسب متابعة بوابة الهدف الاخبارية لمشاهد الحزن عبر مواقع التواصل، كتب مسؤول الجبهة الشعبية في لبنان مروان عبد العال عبر "فيسبوك": وداعاً بدران جابر... يا عناد جبال الخليل لقد سبقك اسمك وتاريخك ونضالك.. كم كنت سعيداً بمعرفتك وإن كانت قد تأخرت ..!هكذا تعارفنا لأول مرة، كان الكلام أليفًا جدًا، كأننا نتذكر شيئا نعرفه أصلًا، تحدثنا عن تاريخ الفدائي القديم "أبو منصور" السويركي ومعاركه في جبال الخليل وقتاله حتى آخر طلقة فكان شهيداً، راوياً بدمائه ثرى الخليل التي كانت تحكي أسطورة كفاحية أوجعت المحتل وأرّقته وأفزعته.. ثم على وقع الحكاية كانت صداقتنا، هكذا يتعارف الرفاق دون أن يلتقيا، تسمع صوته دون أن تراه، بين حين وآخر يطل بقامته النضالية العالية والعابرة للحدود .. وللجدارات الفاصلة و الخطوط المفتعلة التي تحاصر كل واحد منّا في موقعه الجغرافي، الشيء الذي قررنا ألا نسميه غير الوطن ونحاول أن نرصده على الخريطة، كحيلة يائسة لمراوغة ما فرضته السياسة البائسة، المناضلين، الكبير بتاريخه، وقلبه الطيب، صاحب الحضور المطمئن الذي لم يعبأ بكل سنوات القهر، ومن سجن إلى سجن.
أما الكاتب والباحث الفلسطينيّ نصار ابراهيم قال في نعي الرفيق "أبو غسان": هو ابن الأرض والجبال، هنا على سفوح "الخليل" ركض طفولته وزرع الدوالي، حرث الأرض وزحزح الصخور كي تعطي الأرض ما لديها من جمال وخير، هنا تتجلّى "الخليل" دالية تلتفّ على سفوح الروح وتُعرِّش كروماً في الأعالي.
وكتب الباحث في مركز بيسان للبحوث والإنماء جبريل جحشان عبر "فيسبوك": تقول الحكاية ان شابا نبت من بين مفاصل الصخر، كان صلبا كبلوطة اعيت الفؤوس وكل قطاع الطرق، وكان صيادا ماهرا عينه كعين الصقر تعرف من يختار وكيف يختار، كان قلبه باتساع البلاد من محيطها لخليجها، كان بحرا حين يلزم ان يهدأ واعصارا حين يثور، كان قلما يخط وجع الناس واحلام الاطفال على قرص الشمس حين يحمر الشفق، وكان جنديا وكان ضابطا وكان قائدا يقول اتبعوني، ضاقت عليه الزنازين وتقزمت كل اسيجة السجون امام نفحة الحرية التي كانت تمور كالنار بين ضلوعه.
ونعى الكاتب وباحث في الاقتصاد والسياسة عادل سمارة، الرفيق أبو غسان قائلاً: ليس هذا نقاش في الموت لأنك ترتحل ولا تموت لا بشخصك ولا بدورك ولا باثرك، وأنت من قلة هي الرعيل الأول ميدانيا وقياديا معاً. لا اقول فيك سوى أمرين: أولهما، أنك لم تتوه قطعاً بينما تاه منا الكثير، بعضنا عاد وبعضنا أمعن إلى هناك وغادر هنا.
وثانيهما، قول جدنا المتنبي:
"نُعدُّ المشرقية والعوالي...وتقتلنا المنو بلا قتالِ
ونرتبط السوابق مُسرجاتً... وما يُنجينَ من خبب الليالي."
نَمْ في رحم الخرساء، لكن تاريخك لا تطويه ابداً. ولأم غسان وغسان وبناتك وبنيك والرفاق شرف أنك كنت بيننا وفي الأمام.
وعبر الباحث والمحاضر الجامعي وسام رفيدي عن حزنه لوفاة الرفيق الكبير قائلاً: الموت يقهر فما بالك إذا كان الموت يصيب مَنْ ناضلت معه في الاسر وعشت معه ظروف القهر، سلام لروحك رفيق بدران جابر، أبو غسان.
وقال الصحفي والناشط عمر نزال عبر "فيسبوك": هذه الكلمات الاولى التي علمني إياها وغرسها بي، كما غيرها من القيم والمفاهيم، الرفيق بدران جابر، كان اول من احتضنني بعدما انهيت رحلة التحقيق والتعذيب والزنازين، في معقل الرفاق في غرفة 10 من قسم ب في سجن جنين عام 1977 ، كان هو الاب والصديق والمعلم، وكان فدائي شامخ تقرأ في تقاسيم وجهه خريطة جبال الخليل التي اعيت المحتلين.
وقال الأكاديمي ورئيس تحرير بوابة الهدف الإخبارية وسام الفقعاوي في رحيل "أبو غسان": الفدائي العتيق في جبال الخليل، حيث كمائن أبو منصور السواركة المُحكمة: بدران جابر "أبا غسان" الذي لم يقهره العدو أو السجن أو المطاردة أو ظلم الأقربين أو تقدم العمر.. وهو ذاته الذي قيل عنه يومًا ما من العام المنصرم: أن قوات الاحتلال اعتقلت طاعنًا بالسن من مدينة الخليل، وكأن مفردة مناضل قد مُسحت من قاموس القائلين.
وولد بدران جابر "أبو غسان" في الخليل عام 1947، واعتقل أكثر من 20 مرة ليقضي نحو 15 عامًا داخل السجون، مورثاً فعله المقاوم لأبنائه وعائلته ومحبيه ورفاقه داخل الوطن وخارجه.
وكانت بدايات "أبو غسان" في معترك السياسة لحظة زيارة رئيس الجمهورية التونسية الأسبق الحبيب بورقيبة ل فلسطين ولمدينة الخليل عام 1965، حيث دعا لإجراء صلح مع الاحتلال والقبول بنتائج حرب 1948، فانطلقت المسيرات على طول المدينة وعرضها وسط أعمال عنف همجية من قبل قوات البادية.
وخلال هذه التحركات تعرف على بعض أعضاء حركة القوميين العرب وتنظيم "أبطال العودة"، وبدأ العمل معهم عبر انتماء "خجول"، لفترة زادت عن عام، ثم كان الحدث الفصل في العدوان على قرية السموع بالخليل، حيث دمرت قوات الاحتلال القرية الأمر الذي أدى لانطلاق مسيرات ومظاهرات في تشرين الثاني وكانون الاول 1966.
واعتقل بدران في تلك الأحداث وتم التحقيق معه بقسوة حول دوره في المسيرات والتظاهرات التي أنكرها تمامًا، وكان قد تم الإعلان عن فتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس – بيت حنينا- حيث تردد على المكتب وقام بتوزيع نشرات وانضم لجيش التحرير الفلسطيني/ جناح أبطال العودة رسميًا، ثم كان عدوان حزيران 1967، حيث غادر مقاعد الدراسة في الجامعة ليلتحق بالفدائيين في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الأرض المحتلة و ليتفرغ للنضال.
وبعد 3 سنوات ونصف من العمل في الأرضي المحتلة، وبعد أن حضر عدد من الطلبة الجامعيين من الخارج وتم التحقيق معهم والاعتراف بدوره في بناء التنظيم الطلابي للجبهة الشعبية في الجامعة الأردنية، ليحاكم أمام محاكم الاحتلال العسكرية بتهمة التدريب العسكري وخدمة التنظيم، وتميز التحقيق الذي خضع له جابر بالقسوة وخاصة في ظل اعترافات واسعة ودقيقة من قبل الرفاق والزملاء لكنه آثر الصمت.
وهكذا كان حيث أن شقيقه فهمي كان قيد الاعتقال ومحكوم مدى الحياة وخشي أن يقود الاعتراف لهدم البيت ولحكم طويل يقطع عليّه طريق الحياة ويقوض الدور الذي كان أنذر نفسه له وهو خدمة والديَّه العجوزين والاستمرار في الدور الذي يقوم به وقد اعتقل بعدها بعامين بتهمة العضوية في الجبهة وتنظيم وتدريب وتسليح آخرين في اطار مجموعة فاعلة وناشطة ومميزة بجاهزيتها وجرأتها خاصة وأن لها امتدادات مع يهود تقدميين (الفهود السود) وقد كان الاصرار على الصمود عنوانًا لمرحلة الصمود الأسطوري في مواجهة التحقيق.
واستمر التحقيق مع جابر في عدّة سجون هي الخليل، المسكوبية، عكا، الدامون، الجلمة، ليمضي ثلاث سنوات وعادت قوات الاحتلال لتعتقله مرة أخرى عام 1980 مرتين ومرة أخرى عام 1985، ومن ثم عام 1987، وأخرى عام 1998 لتتوالى الاعتقالات والملاحقات المتواصل ليكون مجموع ما أمضاه جابر نحو 15 عامًا.