خضع اليسارُ الفلسطينيُّ منذ انطلاقتهِ لعواملَ عدّةٍ مؤثّرةٍ محيطةٍ مرتبطةٍ بالزمان والمكان والأرضيّة المعرفيّة والبيئيّة والمؤثّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وحتّى النفسيّة الشخصيّة المختلفة، ويبدو أنّ المعضلة الأساسيّة راهنًا لا تكمن في القدرات النظريّة، ووضوح الموقف التي ميّزت اليسار عن غيره من القوى والأحزاب، بل في إمكانيّةِ تنزيلِ هذهِ النظريّة على أرض الواقع، لإعادة صياغة مفاعيل الثورة على أسسٍ جديدةٍ لاستنهاض الحالة الفلسطينيّة برمّتها، وإعادة الاعتبار لليسار قوّةً فاعلةً لها تأثيرها بالساحة الوطنيّة.
فقد تقاطعت عديدُ الأحزاب ودوائرُ السياسة والفكر والدراسات بتحليلاتها على انتقاد التناقض بين النظريّة والممارسة، الذي اتّسم بها اليسار في العقود الأخيرة، وعدم قدرته على التطوير والتجديد، سيّما أنّ انطلاقته كانت رغبةً ثوريّةً جامحةً للردّ على واقع الهزيمة، استدعت التركيز على العمل الكفاحيّ ضدّ العدوّ على حساب الجانب الاجتماعيّ، الذي يشكّل لبَّ نشوء اليسار عالميًّا، في ظلّ صراعٍ وتداخلاتٍ اجتماعيّةٍ، شكّلت الحاضنة الرئيسيّة له في الكثير من دول أوروبا وأميركا اللاتينيّة وغيرها. ولكن في الحالة الفلسطينيّة لا يمكنُ القولُ إنّ اليسارَ قد همّش الجانبَ الاجتماعيَّ بوعي أو دونه؛ وذلك لأسبابٍ كثيرةٍ أهمّها خصوصيّةُ المجتمع الفلسطينيّ، الذي تعرّض منذ أكثرَ من سبعةِ عقودٍ إلى جملةٍ من النكبات والهزائم، بفعل الاحتلال الإسرائيليّ الذي مزّق نسيجَ الشعب الفلسطينيّ وترابطه الاجتماعيّ، وأمعن الخراب والدمار في البُنى الاقتصاديّة والماليّة والحيويّة للفلسطينيّين، الأمر الذي حرمهم من التفكير في تشكيلِ مجتمعٍ طبيعيٍّ كباقي المجتمعات. ومع أنّ الصراع ومنذ انطلاقته كان صراعًا اجتماعيًّا غيرَ أنّ فصائل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وبالأخصّ الفصائل اليساريّة على ما يبدو قد أخفقت عندما قفزت عن جوهر الصراع، وحقيقته كصراعٍ تاريخيّ، وهو الأمر الذي نجم عن سياسةٍ محدودةِ الأفق، رأت في الكفاح المسلّح بديلًا للاشتباك المجتمعي، على النقيض من العدوّ الصهيونيّ، الذي لم يغفل هذه الحقيقة، وتعامل معها بكلِّ دقّةٍ لإنجاحها. وعلى إثر تداعياتِ هزيمةِ حزيران (يونيو) وقع انشقاقُ الجبهة الديمقراطيّة عن الجبهة الشعبيّة، وتعنونت حقبة نهاية الستينات، وبداية السبعينات بالكفاح المسلّح ضدّ العدوّ، الذي أدّى فيه اليسارُ دورًا بارزًا، وبالأخصّ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أما في عقد الثمانينات فقد كانت الانتفاضة الفلسطينيّة عنوانًا رئيسًا للمرحلة، والآن تأخذ المرحلةُ طابعَ الصراع الاجتماعي الوجودي، لمنع العدوّ من تحقيق مكاسبَ جديدة، والتصدّي لعقلية التنازلات، وتبديد الحقوق الوطنية، وهذه الحيثيات لا تلغي البتة التشابك والتداخل الذي يحدث بصورةٍ تلقائيّةٍ بين مختلف أشكال الصراع وعناوينه. وبهذا المعنى فإنّ كل ما يتم إحرازه من مهامٍّ على صعيد البناء الاجتماعيّ يصبّ في مصلحة تحقيق الأهداف الوطنيّة، المتمثّلة في حقّ العودة، وتقرير المصير، وبناء الدولة الوطنيّة المستقلّة وعاصمتها القدس ، والنضال ضدّ ممارسات الاحتلال الاستيطانيّة والإرهابيّة.
وتبعًا لذلك فإنّ الحديثَ عن أزمة اليسار الفلسطيني، وانقسامه لا تنفصل عن أزمة عموم الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، حيث كشفت الإخفاقات والهزائم المتتالية عمقَ الأزمة البنيويّة التي تعصف بالحركة الوطنيّة الفلسطينيّة لسببين؛ الأول خضوع القيادة الرسميّة لمشروع التسوية الأميركي – الإسرائيلي ونشوء حالةٍ وظيفيّةٍ بين الاحتلال والسلطة، تخدم مصالح الاحتلال، وتتخطّى الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة الأساسيّة. والثاني ضعف قوى المعارضة، وتفاقم أزماتها وعدم قدرتها على إنتاج البديل الوطنيّ الديمقراطيّ القادر على توفير الشرعية، ومن ثَمَّ المرجعيّة البديلة عن القيادة التي طلّقت البرنامج الوطني بلا رجعة. هذه الحالة أدّت إلى حالةٍ من الارتباك الذي ما يزال يلقي بثقله على أداء قوى المعارضة اليسارية وممارستها أمام الجماهير، التي ما زالت تواقة إلى برنامج ينقذها من المصير المجهول.
وفي هذا الشأن لا بدَّ من الارتقاء بمعايير الأداء من المستوى الذاتي إلى مستوى المعايير الموضوعيّة، أو التي تحكم أداء العدوّ؛ لأنّ نتيجةَ المسيرة الكفاحيّة لليسار الفلسطينيّ، ولعموم الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة لا تتحدّدُ إلا بموجبِ المواجهة مع العدوّ التاريخيّ، وشروط الصراع معه، وبهذا نتجاوزُ المقياس الذاتي المحدود، الذي يحاكم أداء قيادة التنظيم بأداء قيادةٍ فلسطينيةٍ أخرى، نحو المعيار الفعلي وهو أداء العدو على أرض الواقع. وهنا لا بدّ من التقيّد ببرنامجٍ وطنيٍّ مشتركٍ ورؤيةٍ منهجيّةٍ تقطع الطريق أمام من يروّج لمقولاتٍ تدعي أن طبيعة كل مرحلة ومضمونها المادي - الاجتماعي هو الذي يحدّد سقف العمل الكفاحي الثوري، الذي يجب أن يتم بها، فما هو كفاحٌ ومقاومةٌ في مرحلةٍ معينةٍ ليس بالضرورة أن يلائم مرحلةً مختلفةً لها حيثياتُها المختلفة، ما يعني ليّ عنق الحقيقة، وعدم إخضاعها لمقاييس الأداء والمعايير الفعليّة. واتّضح ذلك في منتصف السبعينات عندما بدأ الحديث عن مشاريع التسوية في المنطقة، وإعلان قوى يساريّةٍ ضرورة اللحاق بقطار التسوية، وإطلاق ما سمّي "بالحلّ المرحلي "، مما سبّب انقساماتٍ كبيرةً لدى معسكر اليسار الفلسطيني.
وكان لإقحام اليسار في لعبة السجالات والصراعات ضمن أروقة منظمة التحرير الفلسطينية سببًا للانقسام، الذي كان يدار وَفْقًا لأصولِ اللعبة التي تديرها القوّةُ المتنفّذةُ في المنظمة، ومن ثَمَّ استنزاف الطاقات وتبديدها بغير محلّها الحقيقيّ، وحرف النقاش وإغراقه في التفاصيل، في حين وظيفة المعارضة ودورها، هو إرساءُ قيم البديل الديمقراطيّ التاريخي الشامل قولًا وفعلًا. ووقف اليسار ممثّلًا بالجبهة الشعبيّة في مواجهة التناقضات مع قوى الهيمنة، والتسلّط والفئويّة عبرَ معادلةِ "الجذب والنبذ" إذ إنّ فريقًا كان يعمل على الجذب نحو البقاء والاستمرار في المنظمة، والثاني كان يدفع تجاهَ النبذ والخروج منها، وذلك في ظلّ غياب رؤيةٍ شاملةٍ وإدارةٍ ناجحةٍ للتناقضات التي حكمت واقعَ اليسار داخل (م.ت.ف).
ومنذ ستينات القرن المنصرم شكّل اليسار الفلسطينيّ ظاهرةً ثوريّةً اجتماعيّةً مشرّفةً وعنوانًا بارزًا في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية لما حقّقه من أداءٍ حقيقيٍّ على الأرض، وحظي بتأييدٍ جماهيريٍّ عريض، لكن سرعان ما أخذ هذا التأييد بالتراجع والانحسار التدريجي مقابلَ أحداثٍ وتطوّراتٍ مهمّة شهدها العالم بأسره مع انهيار الاتّحاد السوفييتي، وحرب الخليج الثانية والمفاعيل التي أطلقها المشروعَ الأميركيّ للسلام، أدّت إلى إحداثِ تصدّعاتٍ واختلالٍ في ميزان القوى ترتّب عليه عقدُ مجموعةٍ من الاتّفاقات مع الكيان الصهيونيّ، وأسفرت عن اتفاق أوسلو وملحقاته، الذي دفع تجاه التصدّع والخلل والانقسام، الذي جرى على الصعيد الفلسطينيّ وترافق هذا مع تصدّع، وتشتّت جبهة المقاطعة العربيّة، وإقامة بعض الدول العربيّة علاقاتٍ، وإن بمستوياتٍ وأشكالٍ مختلفةٍ مع الكيان الصهيوني. ودفع ذلك كلّه إلى اختراقٍ جديٍّ لوحدة الشعب الفلسطيني، وتمزيق الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتغييب دور منظمة التحرير الفلسطينية ومكانتها وميثاقها كإطارٍ وطنيٍّ جامع. وترافق ذلك بتفشّي سياسةِ العولمة، وثقافة الاستهلاك، وهيمنة اليمين، وتنامي حركات الإسلام السياسي والجهادي في المجتمع الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة، وصعود في منظّمات المجتمع المدني المدعومة من الدول المانحة والراضخة لشروط التمويل.
كثيرةٌ هي أسبابُ الانقسام والتراجع لدى اليسار الفلسطيني، ويضيق المجال هنا لعرضها، ولكن من أبرزها تحدّيات المرحلة خارج إطار النضال الوطني، كالتحدّي المعيشيّ والبحث عن الخلاص الشخصيّ؛ بسبب تكلّس بنية اليسار وخمولها وشيخوختها، وعدم قدرته على تقديم تصوّراتٍ عمليّةٍ من أجل النهوض، ونجد أنّ الجسمَ السياسيَّ الفلسطينيَّ بكلِّ أشكالِهِ الوطنيّةِ واليساريّة قد شاخ وهرم وبلغ معه من يمثّلونه من العمر مبلغهم، وباتت التقسيماتُ العمريّةُ تتمحور في فئة كبار السنّ، الذين ناهزوا العقد السابع والثامن معتقدين أنّهم يتحدّثون بلغة العصر والتجديد. مع أن الناظر للتجربة اليساريّة مع الثورة الفلسطينيّة المعاصرة، يرى في ذلك الوقت أن جيل الشباب الفلسطينيّ اليساريّ قد اجترح المعجزات، وعلى يديه أعاد بناء الجسم السياسي من جديد وتفعيله. ونتيجةً لخصوصيّة الزمان والمكان في الصراع مع المحتلّ بقي هؤلاءِ ممسكين بناصية القرار باعتباره خيارهم المصيري، وعدم الاحتكام في الأداء إلى سنٍّ محدّدٍ لبقاء المسؤول أو ذهابه، فيمكننا أن نرى أمينًا عامًّا قد تجاوز الثمانين عامًا من عمره، ويتّخذ صفة المشروعية المطلقة؛ لأنّه بحسب منطقه يمارس المبادئ الديمقراطية في حزبه، ولا أحد سواه يستطيع الحفاظ على وحدة الحزب ونظامه الداخلي، الذي كتبه منذ توليه القيادة في ريعان شبابه!! وليس أخطر على اليسار من تفشّي العقليّة اليمينيّة في بنيته التنظيميّة، فتطغى على القيم اليساريّة الحقيقيّة، فتبقي على الشكل وتغيّب المضمون، وحينها تصبح العقليّة المحافظة هي المتسيّدة في التنظيم والخطاب اليساري.
يكثّف ما تقدّم جانبًا من انقسام اليسار وانحسار دوره؛ الأمر الذي فرض عليه في هذه المرحلة التراجع والانكفاء على الذات، والتموضع في حالة الدفاع فيما المشروع النقيض في حالة هجوم. ويأتي هذا في ظرفٍ خطيرٍ ومعقّدٍ تواجهه القضية الفلسطينية، وأحوج ما تكون إليه الآن لحضور اليسار الثوري بأدوات فعله السياسية والاجتماعية، التي كانت حاضرةً بكامل تألّقها في مراحلَ سابقة؛ لأنّ في غيابه تمَّ إفساحُ المجال للاحتلال بأن يواصل ممارساته العدوانيّة على الحقوق الفلسطينيّة دون مجابهةٍ رادعة، وأتاح للسلطة الفلسطينيّة فرصة التحكّم بالواقع الفلسطيني، وإدارة شؤونه الحياتية، والمغامرة بالمصير الوطني دون قوى معارضةٍ موحّدة. وهنا يجب الانتباهُ إلى أن إصرارَ الاحتلال على اغتيال قيادات اليسار ومناضليه وأعضائه وكوادره وملاحقتهم واعتقالهم، وبالأخصّ منها الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، ليس له تفسير إلا إلحاق الانقسام والضعف بهذه القوى وتضييق الخناق عليها سياسيًّا واجتماعيًّا وماليًّا لتشويه ما تمثله من مكانةٍ معنويّةٍ ورمزيّةٍ وتبديده، وما تعنيه من حالةٍ وطنيّةٍ تحرّريّةٍ معبّرةٍ عن إرادة الشعب الفلسطينيّ.