* كيف تقرأون المشهدَ الاقتصاديّ - الاجتماعيّ والسياسيّ الفلسطينيّ في الداخل المحتلّ عام ١٩٤٨؟
** بعدَ هبّةِ أو انتفاضةِ سيف القدس يعيشُ الداخلُ الفلسطينيُّ شكلًا من التصعيدِ المتدرّجِ مع المؤسّسةِ الإسرائيليّة، مع العلم أنّه يوجدُ هناك نخبٌ سياسيّةٌ تحاولُ وضعه أو الإبقاء عليه ضمنَ منطقِ المواطنة والحقوق المدنيّة، التي تتآكلُ؛ بسبب أنّ هذا الكيانَ كيانٌ فاشيٌّ اقتلاعيٌّ لا يؤمنُ بالآخرين، ولا يخجلُ ساستُهُ في رفع شعار النقاء القوميّ الدينيّ الذي رفعته أنظمةٌ شموليّةٌ فاشيّة، حتى ما يسمّى باليسار التاريخيّ من ميرتس إلى حزب العمل يتماهوا مع برامج المستوطنين السياسيّة. وحتّى الخطط الاقتصاديّة للدولة تأتي من هذا المنظور، فنرى غلاء الأسعار غير المسبوق في جميع قطاعات الاقتصاد الإسرائيليّ، من رغيف الخبز وصولًا إلى السكن. إنّ هذا الكيان يسيرُ بمسارٍ تصادميٍّ تناحريٍّ مع ما يسمّيهم بالمواطنين العرب، وعلى ما يبدو كلّ يومٍ تتسارعُ وتيرةُ الاصطدام الذي سيخلق معادلاتٍ تختلفُ عمّا عهدناه بين الفلسطينيين في الداخل ودولة الاحتلال.
* يلاحظُ تزايدُ دورِ الحراكات الشبابيّة الفلسطينيّة بالداخل في ظلّ وجود الأحزاب والقوى التقليديّة، فهل هو تعبيرٌ عن عجزِ هذه القوى عن القيام بوظائفها السياسيّة والمجتمعيّة؟
** الحراكاتُ الشبابيّةُ كانت دائمًا موجودةً حتّى في ظلّ الأحزاب الكبيرة الفاعلة، لكن حالة التكلّس التي أصابت الأحزاب ورهاناتها الدائمة على العمل، من خلال ما يسمّى بالبرلمان الإسرائيليّ وعدم قدرتها على تحسين أو تحقيق أيّ إنجازاتٍ مطلبيّةٍ من هذا المكان، قد خلق خيبةَ أملٍ كبيرةً حتّى عند كوادرهم وجمهورهم، في حين في الجانب الآخر؛ القدرةُ الإبداعيّة وشجاعةُ الشباب في مقارعة الشرطة وأجهزتها الأمنيّة وجسارتهم واستعدادهم في دفع الأثمان خلقَ نوعًا من الثقة مع جماهير شعبنا؛ عدا عن وجود الوجوه التقليديّة ذاتها التي خُلقت أجيالٌ وتعاقبت أجيالٌ وهم بالمواقع نفسها؛ خلق أزمات ثقة، فلو أخذنا حراك حيفا على سبيل المثال، لرأينا حجم قدرته على التحرّك وضبط إيقاع الشارع وقيادته، هذا النموذجُ المرن الصداميّ الشبابيّ وقدرته على فرض واقعٍ ومشهديّةٍ فلسطينيّةٍ دون مؤثّراتٍ ومكاسبَ شخصيّةٍ ومقاعدَ وثيرة؛ استطاعت أن تنال إعجاب الناس وثقتهم.
* من خلال المتابعة للمشهد في الداخل المحتلّ عام 1948، يستنبط وكأنّ هناك حالةَ اعتمادٍ وغطاءٍ متبادلٍ بين القوى السياسيّة التي تشارك في المنظومة الصهيونيّة ضمنَ حدود ١٩٤٨، وتلك القوى المهيمنة على القرار السياسيّ الفلسطينيّ، التي تراهن على مسار التسوية.. فهل هذا الاستنباط دقيق؟ وهل تزايد الحراكات الشبابيّة، يأتي في سياق الرفض أم التلاقي مع دور هذه القوى؟
** ما تقومُ به القائمةُ الموحّدةُ في الآونة الأخيرة، هو ليس تغطيةً متبادلةً بينهم وبين القوى الصهيونيّة، هو طعنةٌ من الخلف لكلّ شعبنا وخيانةٌ متكاملةُ الأركان تحت مسمّياتِ الواقعيّة السياسيّة؛ فالقائمةُ الموحّدةُ تعترفُ بيهوديّةِ الدولة، وتوافق على إدخال الجيش لحملات التفتيش لقرانا، وتخرج بالدفاع الشرس ضدّ اتّهام الكيان بالأبرتهايد.
بكلماتٍ أخرى؛ تمارس الخيانة بكلّ وقاحةٍ، وتبرّر كلّ ذلك؛ إنّه من أجل أن نكون مؤثّرين.
إنّ الحركةَ الإسلاميّة الجنوبيّة عهدناها منذ وقتٍ طويل؛ تحابي المؤسّسة الرسميّة، ولا تؤمن بجدوى النضال الشعبي، وكان دائمًا سقفُها السياسيّ، بالأزرق والأبيض. اليوم قائدها منصور عباس لا يستطيع أن يكون بأيّ مهرجانٍ شعبيّ، ولا يستطيع الوصول إلى باحات الأقصى؛ لأنّ هناك رفضًا شعبيًّا لكلّ طروحاته وتصريحاته وخطّه، والمكان الوحيد المتاح له هو بالجنوب الفلسطيني.
في الجانب الآخر توجد المشتركة بقيادة أيمن عودة والتجمّع الوطنيّ والطيبي عرابي التوصية على غانتس، وقباطنة مدراس التسوية والمواطنة. كلّ هذه النخب تتماهى مع مشاريع التسوية، وتنسّق فعلها وأداءها مع مقاطعة رام الله، وتتقبّلُ الدعم الإعلاميّ والماديّ من رئاسة السلطة. لكن في هذا الحيّز توجد قوى جذريّةٌ رفضويّة؛ تطرح برامجَ وطنيّة؛ ترفضُ ولا تقبل قيادة هذه النخب لمشروعنا الوطني، وتحاول فرضَ واقعٍ سياسيٍّ ثقافيٍّ وطنيّ، رغم انحصار الامكانيّات، والحرب الضروس من المؤسّسات الأمنيّة، ومن هذه الأحزاب المتهالكة. إنّ طبيعة الاحتلال؛ ترفض اندماج اللاهثين وراء مشاريع المواطنة والحتميّة؛ سترجّح سقوطَ كلّ من راهن على وهم دولة المواطنين.
* أكّدت هبّة الشعب الفلسطينيّ في أيار ٢٠٢١، وجود حالةٍ من الوعي الوطنيّ بهُويّةٍ جامعةٍ تتجاوز التقسيمات الاحتلاليّة، ما هي معيقات التعبير السياسيّ عن هذه الوحدة؟ وما هي ممكنات التعبير عنها على مستوى البرنامج السياسيّ، والمنظومة السياسيّة وأبعادها المجتمعيّة؟
** بدايةً لا بدَّ أنْ أشيرَ إلى أنّ انتفاضةَ أيار، لم تكن اللوحة الوحيدة التي عبّرت عن الوحدة ما بين مركّبات شعبنا على امتداد الجغرافيا الفلسطينيّة، بل وخارجها أيضًا. ففي انتفاضة الأقصى 2000؛ تجسّدت هذه الوحدة، وفي آذار ال 76 أيضًا وغيرها من الأيّام والمحطّات الوطنيّة في حياة شعبنا، الذي أثبت بمركّباته كافةً في أماكن وجوده أنّه يجسّد قضيّةً واحدة، وهي قضيّةُ شعبٍ تمَّ احتلالُ أرضِهِ في الـ 48، وأنتجت قضيّته السياسيّة التي رغم محاولات تجزئتها وتصفيتها؛ تعود كلّ مرّةٍ لتذكّر العالم من جديدٍ أنّ ثورتها مستمرّة؛ طالما هنالك احتلال. بالنسبة لمعيقات التعبير السياسيّ عن هذه الوحدة، فمن الممكن تقسيمها لمعيقاتٍ سببُها الأساسيّ الاحتلال، وسياساته وتشريعاته وممارساته، وهناك معيقاتٌ ذاتيّة، تتعلّقُ بالقوى السياسيّة الفلسطينيّة الفاعلة التي تتضارب برامجها السياسيّة وتختلف، ومنها من اختار أصلًا التعامل مع الاحتلال، ومع تقسيماته ووضع برامجه السياسيّة على أساس وجوده بكنف الكيان، وهذه التيّارات توجد في أراضي الـ 48 وفي الضفّة. ورأيي أنّه إذا تمكّنا من الوصول إلى رؤيّةٍ فلسطينيّةٍ موحّدةٍ وبرنامجٍ سياسيٍّ واضحٍ شامل، نكون قد وضعنا اللبنة الأولى في مسارِ كسرِ المعيقات. فهناك تيّاراتٌ سياسيّةٌ برنامجها السياسيّ هو فلسطين التاريخيّة، وهناك تياراتٌ تنادي بدولتين لشعبين، وتيارٌ آخرُ بدولةٍ ثنائيّةِ القوميّة وغيرها من الطروحات.
شعبيًّا، الشعب الفلسطيني سبق قياداته، من حيث الرؤية الواضحة لحقيقة الصراع وطبيعته، وهذا ما رأيناه على الأرض؛ حالة من الالتحام الشعبيّ، جمعت الكلّ الفلسطينيّ. ولا أجازف أو أتجنّى، حين أقول: إنّ هناك تياراتٍ سياسيّةً وفصائلَ فلسطينيّةً لا تريد هذ الالتحام، وهو لا يتوافق مع مشاريعها السياسيّة، ومع ما يرونه ومع ما يتصوّرونه وما يسمّونه بـ "الحلّ النهائيّ".
أمّا بالنسبة لممكنات التعبير عنها، فلا شكَّ أنّه في حال استثمرت في سياقِ مشروعٍ ذا بوصلةٍ وطنيّةٍ واضحة؛ فلها ثقلٌ لا يمكن تجاوزه، ورأينا كيف استنفرت دولةُ الكيان في انتفاضة أيّار الأخيرة، وبثّت حالةً من الصدمة حيالَ جبهاتٍ مفتوحةٍ عدّة في الوقت ذاته؛ هي طبيعيّةٌ بنظرِ الفلسطينيّ، لكنّها كارثيّةٌ بعين الاحتلال الذي بثّ رسائل فقدان السيطرة في حينه، بل ومنح الغطاء للمستوطنين لمساعدته في صدّ هذا المدّ الشعبيّ الموحّد، واستعان بحرس الحدود، وخرج باستغاثاتٍ من اللد مثلًا. لكن هناك قوًى سياسيّةٌ فاعلة؛ تريد إفراغ الوحدة من مضمونها، وحصرها بشكليّاتٍ وشعاراتٍ وهي غيرُ معنيّةٍ بترجمتها برنامجًا سياسيًّا على أرض الواقع. أرى أنّ التعويلَ الأساسيَّ في فرض هذه الرؤية هو على قوى شعبنا الحيّة وعلى قواعده الشعبيّة؛ بناءً على قراءةِ حقيقةِ الصراعِ وجوهره، وأضيف أنّه - ومع الأسف - حتّى التيّارات الفلسطينيّة التي تؤمن بفلسطين التاريخيّة؛ فقدت تأثيرها على الأرض، وسمحت بحالة انعزالها جماهيريًّا، ولا أريد أن أخوضَ بتفاصيلَ أكثرَ هنا.
* بالاستناد على السؤال السابق، حيث في الوقت الذي كان شعبنا يؤكّد وحدته وتجاوزه للتقسيمات الاحتلاليّة، برزت ظاهرةَ منصور عباس وجناحه لتبرير مواقف جناح آخر من الأحزاب العربيّة المشاركة في الكنيست والمنظومة الصهيونيّة. ما هو رأيكم في ذلك؟
** بدايةً لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ ظاهرة الموحدة ومنصور عباس ليست بالجديدة، فقد اتّخذت في السابق أشكالًا أخرى؛ فدائمًا كان هنالك ما يسمّى بعرب الحكومة، أي عرب انخرطوا بالأحزاب الصهيونيّة، وتبوّأوا مناصب حكوميّة، وهناك أحزابٌ وتيّاراتٌ بالاسم عربيّة، لكنّها انغمست في مشاريع الأسرلة والاندماج. أيضًا لا بدّ من التوضيح أن البرنامج السياسي للإسلاميّة الجنوبيّة، وهو تيارُ منصور عباس برنامج اندماجي، ليس وليد السنوات الأخيرة؛ هم جماعةٌ يريدون الاندماج ولا مشكلة لديهم مع ذلك، ومن هنا انخرطوا بالعمليّة السياسيّة الإسرائيليّة؛ عبر الترشّح للكنيست، وأبدو حتى تحفظهم على طريقة مقاومة الاحتلال التي لا يؤمنون بها.
الشعارات والأوهام التي يبيعها منصور عباس وقائمته لشعبنا هي نفس البضاعة التي باعها عرب الاندماج بالكنيست، بتياراتهم السياسيّة كافةً؛ فمن قبل الانخراط باللعبة السياسيّة لدولة لكيان قبل أيضًا بيع أوهام المساواة والحقوق لشعبنا، ومن قبل بالتوصية على مجرم حرب كغانتس لرئاسة الحكومة، هو عمليًّا منح كامل الشرعيّة لأصحاب خطّ الاندماج والشراكة بحكومة احتلال دونَ خجل، حتّى أنّ القائمة المشتركة؛ تستغلُّ ظاهرة منصور عباس لتسوق نفسها على أنّها التيار الوطنيّ البديلة له، وتستغلّ سقطات الموحّدة لتبرير مشروعها السياسيّ الاندماجي والشريك باللعبة السياسيّة الإسرائيليّة؛ فجميعهم يتّخذون من الكنيست بوصلةً لعملهم السياسي. باختصار من قبل اللعب ضمنَ قواعد الاحتلال وفي السياق الإسرائيلي؛ يمثّل المشروع السياسي الاندماجي ذاته، كلّ بأدواته، لكنّها بالمحصّلة تؤدي إلى النتيجة نفسها؛ لأنّها تتبع للأرضيّة ذاتها، وهي الوجود في الكنيست، فمثلما سوّقت القائمة المشتركة ما سمّيت بالخطّة الاقتصاديّة على أنّها الإنجاز الأهمّ والأعظم؛ تسوّق الموحدة مشاريعَ صهيونيّةً على أنّها أيضًا الإنجاز الأهمّ والأعظم، وفي الحالتين، كانت تلك المشاريع بمثابة التفافٍ آخرَ على شعبنا، واحتلالٍ وسرقةٍ بصورةٍ "قانونيّة".
إنّ قوانينَ ومخطّطاتٍ حكوميّةً جوهرُها صهيونيّ؛ عملت أحزاب الكنيست دون استثناءٍ على تسويقها مشاريعَ تكفلُ الحقوق وتصونها، وجاء التطبيق الفعليّ لها على أرض الواقع ليفضحها.
* أشار بعضٌ من كتّابٍ وصحفيّين ونشطاء مجتمعيين إلى عزلةٍ نسبيّةٍ لعموم الفلسطينيين في الداخل المحتلّ عام 1948، عن حراك أهلنا في النقب المحتلّ، وأنّ الصلات مع هذا الحراك جاءت متأخّرةً، وغالبًا ما مرّت عبرَ محطّاتٍ وقنواتٍ محدّدة، فهل هذا الرأي صحيحٌ أم لك رأيٌ آخر، وإذا كان صحيحًا، فإلى ماذا ترجع أسبابه؟
** بالنسبة للنقب وحالة التظافر الشعبي ما بين الجليل والمثلّث ومدن الساحل من ناحية، والنقب من ناحيةٍ أخرى؛ طبعًا هناك الكثير من الأسباب بعضها يتعلّق بالتركيبة الاجتماعيّة السياسيّة لأهلنا في النقب، أي أسبابٌ محلّيّةٌ تخصُّ النقب، لكن يمكن الاعتراف أنّه كان هناك نوعٌ من القطيعة أو التغييب لقضية شعبنا بالنقب أو الجنوب إجمالًا، وبرأيي أنّ التيارات السياسيّة الفاعلة؛ تتحمل المسؤوليّة بالدرجة الأولى لهذه العلاقة وطبيعتها. لكن من ناحيةٍ أخرى ساند أبناء شعبنا بالجليل والمثلث ومدن الساحل الفلسطيني؛ النقب ضد المشاريع الاستيطانية، بأيام غضب وتظاهرات فارقة، مثل تظاهرات برافر، كان لها الأثر الكبير في صد هذا المشروع أو منع تطبيقه في حينه، حيث أن هناك محاولات لإعادة فرضه مؤخرا. لكن المهم هنا رغم ما ذكرته أعلاه؛ حالة الفتور تجاه قضايا النقب والانقطاع عن النقب لكن لا يمكن تجاوز أيام وطنية وتظاهرات؛ شهدت مواجهات عنيفة واعتقالات واعتداءات، وكله نصرة للنقب. وجيد أن أشير بأن هذه الأيام الوطنية؛ انطلقت عبر حراكات شبابية استطاعت أن تفرض تصورها على التيارات السياسية التي اضطرت على اللحاق بها والإذعان لها؛ فحين يتحرك الشارع لا يستطيع أحد منعه، وهذا ما حصل حين انطلقت تظاهرات في حيفا وأم الفحم وعارة وغيرها ضد مخط برافر، وحين خرجت التظاهرات بعد اغتيال المعلم الشهيد يعقوب أبو القيعان، وهذه المواجهات هي دليل قاطع على هذا التلاحم الشعبي وعلى النجاح في فرضه والوقوف بوجه جميع العوائق وتخطيها، أي أن هناك بذرة يمكن التأسيس عليها ليكون الالتحام النضالي مع شعبنا في النقب ذو طابع استمراري، وألا يكون مجرد ردات فعل مؤقته ومحدودة.
باختصار؛ إسرائيل وإن نجحت في التقسيم الجغرافي، لا تستطيع تقسيم الهم الوطني أو تفكيكه، ومع الأسف إعلاميا لا تحظى قضية شعبنا بالنقب بالتغطية الملائمة، إن كان عبر الإعلام المحلي أو العالمي، يمكننا إعطاء مثال بسيط: كيف يتم التعامل مع الهدم في الشيخ جراح وكيف يتم التعامل مع الهدم في النقب.. مع العلم إننا في القدس والنقب والضفة وغزة؛ نواجه نفس عقلية المُستعمِر. وأريد أن أطرح مثالا آخر عن مسؤولية أهل النقب في فرض قضيتهم، قضية هدم قرية العراقيب التي يحرص جزء من سكان القرية على فرض اسم قريتهم وقضيتها على وسائل الإعلام، لأنهم أدركوا أهمية فضح ممارسات الاحتلال؛ عبر النشر الدائم وبالبث المباشر وهذا ساهم بأن تحظى العراقيب، بفرض قضيتها بصورة لا بأس بها، بينما قصص لقرى أخرى مهددة بالهدم لا تحظى بالتغطية اللازمة.
* بالتزامن مع صدور عدد "الهدف" المتضمن للمقابلة، يكون قد مر 46 عامًا على يوم الأرض المشهود بمضامينه الوطنية والتاريخية على الصراع، فبعد كل هذه السنوات على هذا اليوم، كيف برأيكم يمكن أن يتم تكريس مضامينه وعدم الاكتفاء بتحويله لأيقونة احتفائية؟
** مما لا شك فيه أن يوم الارض كان أول مواجهة فعليه بعد الحكم العسكري بين شعبنا وحكومة الكيان، وحمل القول الفصل تجاه طبيعة وحقيقة وجودنا وروايتنا والعلاقة مع هذا الكيان. يوم الأرض كمحطة فارقة في تاريخنا بالداخل شكل نقلة نوعية في علاقتنا مع هذا الكيان الغاصب، بمعنى أنه ذكّر كل من نسي الاحتلال؛ أننا شعب يعايش ما أفرزه احتلال فلسطين في العام 1948، وأننا نواجه نفس العقلية الاستعمارية، وهذا أمر ضروري أن تعرف أين تقف؟ وأين أنت؟ وما هي روايتك؟ مواجهات شهداء اعتقالات محاولات تصفية لقادة وطنيين، هذا كله أعاد تعريف موقعنا وموقفنا بصورة دقيقة، وبالتالي الأيام النضالية التي أتت بعد يوم الأرض، لا بد أنها انطلقت من معانيه ومن ما فرضه. وتكريس مكتسبات يوم الأرض اليوم وبعد 46 سنة وعدم تحويله لمجرد أيقونه أو ليوم "فلكلوري" كما أرادت وتريد فعاليات سياسية فلسطينية متماهية مع مشارع الاحتلال، ويتم تكريس مكتسبات هذا اليوم عبر الاستفادة من المواجهة الشعبية وقدرتها على منع المصادرة وحماية الأرض، أي الفعل المواجه بحد ذاته هو أبرز ما يمكن التأسيس عليه لبناء استراتيجية نضالية شاملة ومستمرة؛ يتم تكريسه أيضا عبر توظيفه كيوم وطني اكتسب اهميته وتاريخيته من قدرته على استرجاع الأرض وحمايتها، وأعتقد أن هذا يقول الكثير حول أي الأساليب النضالية ناجع ومؤثر فعلا، وأي منها لم يقدم ويسوق سوى خطاب الاستجداء والتذلل.
* كيف تقرأون المشهد الاقتصادي - الاجتماعي والسياسي الإسرائيلي في ظل التغيرات في على التركيبة السياسية الرسمية وأزمة جائحة كورونا؟
** كما يعلم معظم المتطلعين على التركيبة الاجتماعية السياسية "للمجتمع" الصهيوني، فإن الفجوات فيما بينها آخذه بالتصاعد، وأن الاستقطاب هو سمة المرحلة لدرجة يمكننا القول بأن مناعة "المجتمع" الصهيوني؛ هشة وضعيفة، لكثرة الانقسامات والخلافات الأيديولوجية والسياسية. إسرائيل مدرجة بالرقم 59 على جدول الفساد العالمي؛ الأمر الذي أدى لفقدان الإسرائيليين الثقة بمؤسسات وقادة دولتهم، وهو ما أشارت تقارير التقييم الاستراتيجي الصهيونية له، بل وحذرت منه ومن تعمق واتساع الهوة بين مركبات "المجتمع" الإسرائيلي، مما يضعف مما أسموه "التضامن الاجتماعي ومناعة الدولة". وإسرائيل المصنفة كواحدة من بين أغنى عشر دول في العالم؛ يواجه سكانها ارتفاع في تكلفة المعيشة، عدا عن ارتفاع في الأسعار، وكل ذلك يعمق من الهوة الاجتماعية والاقتصادية، وجاءت جائحة كورونا لتزيد التضخم المالي، بحيث يشهد الكيان تضخما ماليا لم يشهده منذ أكثر من 10 سنوات؛ الأمر الذي سينعكس وانعكس على الكثير من مناحي الحياة.
* يلاحظ التصعيد المتزايد في مسار حكومة الاحتلال لإحداث تشريعات جديدة في برلمانه (الكنيست)، تهدف في معظمها لنزع الشرعية عن الوجود الفلسطيني في الأرض المحتلة عام ١٩٤٨، وربطه بالاستسلام الكامل لسياسة للأسرلة والتفكيك المجتمعي والتهجير، ألا يستدعي ذلك مسار جديد ومختلف للعمل الفلسطيني في الداخل والعمل الوطني الفلسطيني عمومًا؟
** يتعامل الكيان مع وجودنا كمشكلة أمنية، ومن هنا أتت كل تشريعاته وملاحقته للفلسطيني، هو دائم البحث والدراسة ووضع التصورات لطريقة التعامل معنا، لكن كنا في كل مرة نلتحم مع شعبنا أو نقرر التصدي لمشروع ما وللسياسات الإجرامية الترانسفيرية بحقنا؛ نفاجئ هذا الكيان ووسائل إعلامه التي تتجند في معركة استهداف الفلسطيني؛ المحتج - المتظاهر - المتمرد على السياقات التي حاول الكيان حبسه داخلها. ما أريد قوله باختصار؛ نعم وصحيح أن الدولة تحاصر الوجود الفلسطيني وتحاول لجمه وكسره وتشويه هويته، بالمقابل استطاع هذا الفلسطيني أن يقف ويجابه وأن يُدهش أيضا. مع الأسف وجود رؤى سياسية لا تستند للثوابت الوطنية الفلسطينية؛ تعرقل وتخرب على كل محاولة وضع استراتيجية وطنية مجابهة لهذه السياسات ذات الطابع الاستمراري.
طبعا لدينا في الداخل تيار جذري؛ يتشكل من عدة قوى سياسية؛ يدرك حقيقة العلاقة مع هذا الكيان، ويدرك ما هي آليات المواجهة الحقيقية التي تثمر على الأرض، وهذا التيار يواجه ملاحقة الاجهزة الأمنية له ومحاصرته واعتقال كوادره وتهديدهم والتضييق عليه بشتى الطرق، مقابل تقديم الدعم لتيار الأسرلة والاندماج، في محاولة لتحييد التيار الجذري وتهمشيه واضعافه، وحتى تجريم العمل الوطني ككل. رغم ما ذكرته ما يزال التيار الجذري الفلسطيني، بقواه الوطنية المختلفة؛ يجابه ويحاول فرض تصوره، أي إننا ندرك حقيقة الحاجة لمسار جديد؛ يقود الداخل الفلسطيني بوجه كل المشاريع الخيانية والسلطوية. أما على صعيد الفصائل الفلسطينية؛ فأظن أن ذات المشكلة تسيء للنضال الفلسطيني في ظل وجود مشاريع سياسية؛ تقوم على الاستسلام والخنوع والتفريط والخيانة، ووجود مشاريع مقاومة غير مفرطة.
* في سياق التغيرات الحاصلة على الصعيد الدولي، والحرب الروسية – الأوكرانية، كيف تقرأون انعكاسات ما يجري على الصراع الإسرائيلي - العربي عمومًا والإسرائيلي – الفلسطيني خصوصًا؟
** كنت قد تطرقت في مقال سابق لتأثيرات الحرب في أوكرانيا على القضية الفلسطينية، والقضايا العربية عموما، وعلى رأسها الإقليمية، لكن قبل الخوض في ذلك، نرى كيف عرت وكشفت هذه الحرب ازدواجية معايير ما يسمى بالمجتمع الدولي، وفضحت نفاقه وانحيازه لسياسات أمريكا وتوجهاتها، في مقابل تعامله مع القضية الفلسطينية والقضايا العربية التي استجدت منذ سنوات بفعل الحرب على دولنا؛ عبر بوابة ما يسمى "الربيع العربي"، وهذا يرشدنا أكثر نحو طريق تحصيل الحق.
إسرائيل ستسعى لتوسيع تحالفها الإقليمي مع دول عربية في مواجهة ما ترى أنه عدو مشترك، أي إيران ومعسكر المقاومة، ويريبها جدا، وهذا ما جاء على لسان محللين صهاينة: كيف لم تقدم أمريكا الدعم اللازم للرئيس الأوكراني الموالي لها؟
على الصعيد العالمي؛ خروج روسيا منتصرة في هذه الحرب سينعكس بالإيجاب على معسكر عالمي مناوئ لأمريكا، وسيعزز من قوة معسكر المقاومة وهو المعسكر الداعم للقضية الفلسطينية قولا وفعلا. طبعا إسرائيل تستغل هذه الحرب كعادتها في اقتناص الفرص وتوظيفها خدمة لمشاريعها، مثلا: تحاول استغلال قضية اللاجئين الأوكرانيين؛ عبر جلبهم لإحداث تغيير ديمغرافي وبناء مستوطنات جديدة لاستقبالهم، كلها ستكون على حساب الفلسطيني؛ صاحب هذه الأرض بقضم المزيد من أرضه. وتجدر الإشارة أيضا، إلى أن إسرائيل؛ استغلت الحرب، لتكثف اعتداءاتها على سورية، حيث شهدت سورية منذ اندلاع الحرب الأوكرانية 11 عدوانا.
ختاما أقول: أن تطور مسار الحرب هو من سيحدد انعكاسه على القضية الفلسطينية والمعسكر الداعم لها، وتطور مسار الحرب سيحدد أي المشاريع ستصاب بانتكاسة وأيها سيتعزز ويزيد من مقدراته.