Menu

الاغتيالُ الصهيونيُّ للمستقبلِ الفلسطينيّ

غسان أبو نجم

نشر هذا المقال في العدد 36 من مجلة الهدف الإلكترونية

في البداية، لقد شدّني مقالُ مروان عبد العال حولَ اغتيالِ الزمن المقبل في الميادين نت المؤرّخ في (17 شباط)، الذي من ضمن ملف: كيف تحاربنا إسرائيل؟ وشدّني دقّة التحليل في تناول آليّة الاحتلال في تدمير البنيّة الثقافيّة للشعب الفلسطيني، وتحت مصطلح "الزمن"، بما يعنيه من صراعٍ للسيطرة؛ العقل والحقّ والحلم والمستقبل، وأنّه قد أضاء على زاويةٍ جديدة، قلما جرى الحديث عنها وهي احتلال الإنسان، وليس الأرض فقط؛ لأنّ الحلم الصهيونيّ المضادّ للحلم الفلسطيني، الذي لا يقف عند حدود الاحتلال الصهيونيّ للأرض الفلسطينيّة والعربيّة فحسب، لتجسيد مشروعه المرتكز إلى كيانه المصطنع، بل كان هذا الحلقة الأولى في المشروع الصهيوني، وهذا هو جوهر الاستراتيجيّة الصهيونيّة، في إيجاد مرتكزٍ في فلسطين لينطلقَ نحو السيطرة على المنطقة. ولقد شهدنا عبرَ مئات السنين مشاريعَ استعماريّةً مختلفة، فبريطانيا تقاسمت مع فرنسا استعمار البلاد العربيّة، من مشرقها حتّى مغربها إلى شمال إفريقيا، واحتلّت أمريكا فيتنام وجنوب شرق آسيا.. الخ. والعبرة من هذه الاحتلالات أنّها كانت تخرج من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر؛ إنّها تترك الأرض لسكانها الأصليين تحت مسمى الاستقلال والسيادة الوطنيّة والحريّة، لكن ما يتركه الاستعمار من سيطرةٍ غير مباشرة تأخذ أشكالًا عدّةً؛ سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، تبقيها ملحقةً بالاستعمار الأم! مع ذلك سيظلّ الاحتلال الصهيونيّ استثنائيًّا، ويعاكس برجعيّته حركة التاريخ، حين يتأسّس على قاعدة الإبادة الشاملة الثقافيّة والفكريّة والوطنيّة والسياسيّة، وحتى البيولوجيّة للشعب الواقع تحت الاحتلال.

فالحركةُ الصهيونيّةُ التي دفعت بعصابات المستوطنين إلى فلسطين للإقامة بها بموجب وعد بلفور، دخلت الأرض الفلسطينيّة، ليس للإقامة المؤقّتة بها، بل لتشكيل نواةٍ لدولةٍ تقوم على حساب شعبٍ آخرَ هم السكان الأصليون لهذه الأرض، أي تمّ إحلال شعبٍ بدلَ شعبٍ، وتم استلاب الحقّ من أصحاب الأرض لصالح من لا حقّ له. ولقد مارست الحركة الصهيونيّة أبشع الوسائل الإجراميّة لطرد الفلسطينيين وتهجيرهم بما فيها التنظيف العرقي والترانسفير واتّخاذ خطواتٍ لدفع الفلسطينيين للهجرة الطوعيّة وحرمانهم من العودة، بمعنى أن تحل هذه العصابات بدل السكان الأصليين. ولقد حمل التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لعام ٢٠٠٧ العديد من الإحصاءات التي تدلّل على آلية الإحلال الصهيونيّ لفلسطين على حساب شعب فلسطين.

إنّ هذهِ المقدّمة ضروريّةٌ لفهم آلية الزمن الصهيوني في احتلال فلسطين، والسيطرة على الزمن لتكون دولةً صهيونيّةً شوفينيّةً خالصة، بعد أن رسمت طريقها من دولةٍ يهوديّةٍ إلى كيانٍ صهيونيٍّ عنصريٍّ شوفيني، وهنا لا بدّ من إطلاق تفكيرٍ استباقيٍّ لمعرفة آليّات تطوّر العدو، وكيف تعمل منظومته العقليّة، من خلال هذا الاستعراض لفهم آلية احتلال فلسطين نصل إلى نتيجةٍ مفادها: إنّ هذا الاحتلال إحلاليٌّ قائمٌ على إحلال شعبٍ بدل آخر، أي نفي شعبٍ بكلّ مكوّناته التاريخيّة والثقافيّة التي أسّسها على حدوده الجغرافيّة، وشرط استمرار هذه الحالة الإحلاليّة، قائمٌ على أساس تدمير الشعب المحتلّ ثقافيًّا وتاريخيًّا وتفسيخ بنيته الاجتماعيّة والاقتصاديّة وتدمير آلية مقاومته السياسيّة، والسؤال المهم هو: هل يمكن لاحتلالٍ أن يدمّر بنية شعبٍ ونفيه بالقوّة العسكريّة؟

إنّ الإجابةَ على سؤالٍ كهذا، ربّما لم يطرقه باحثون فلسطينيون بطريقةٍ بحثيّةٍ علميّةٍ تتسم بالدراسة الفكريّة وطرقها على شكل مقالة المناضل والروائي مروان عبد العال حولَ اغتيال الزمن المقبل، الذي يطرح استخدام منظومة العقل العربي في الصراع.

لقد واجه الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينيّة العديد من المعيقات لنفي الوجود الفلسطيني؛ لأنّ الصراع الفلسطيني الصهيوني لا يمكن حلّه حسب المعطيات التاريخيّة إلا بنفي الآخر، فإمّا حربٌ تنتهي بالنصر الفلسطيني ورحيل شذاذ الآفاق إلى مواطنهم الأصليّة، وإمّا الديمومة لحالة الحرب بشكلها الحالي، وهذا يصعب استمراره بالمنطق التاريخي، وهذا المنطق التاريخي لرؤية الصراع تحدده معطيات مهمّة:

أوّلًا: عدم إمكانيّة إنهاء الوجود الفلسطيني عبرَ القوّة العسكريّة فقط.

ثانيًا: عدم القدرة على الوقف القسري للحقيقة الفلسطينيّة، التي تتمثّل بقوّة السرديّة والانتماء والتمسّك بالحقّ والاستعداد للتضحيّة في سبيل الوطن، إضافةً للنموّ الديموغرافي للشعب الفلسطيني بحكم وجوده المتعدّد في الأرض الفلسطينيّة والشتات الذي يقع خارج حدود سيطرته، ممّا يشكّلُ تحديًّا كبيرًا للحلم الصهيونيّ، بإنهاء الوجود الفلسطيني، بل العكس، حيث يشكّلُ النموّ السكانيّ الفلسطينيّ أضعاف النمو في الطرف الآخر.

ثالثًا: تنامي مشاعر الخطر الوجوديّ لدى الكيان الصهيوني، وخاصّةً أنّ الميل إلى المقاومة يرتفع ويتصاعد، وانكشاف عنصريّة الكيان الصهيوني في مقابل أخلاقيّة القضيّة الفلسطينيّة، تتضحُ أمام أجيالٍ جديدةٍ في العالم، مما يدفع الاحتلال إلى البحث الدائم عن وسائل وأساليب لتصفية القضيّة الفلسطينيّة، عبرَ تصفية الصراع، وليس أسبابه، ليتسنّى له إيجاد المخرج المناسب للقضاء على مستقبل الشعب الفلسطيني في الحريّة والاستقلال.

لقد أدركت الحركة الصهيونيّة أنّ مستقبل الصراع لا يمكن حسمه، إلا بتدمير البِنية الثقافيّة التاريخيّة للشعب الفلسطيني، وهذا التدميرُ يبدأ من خلال اغتيال الحلم الفلسطينيّ واحتلال الإرادة السياسيّة وتدمير المستقبل الفلسطيني بكلّ مكوّناته ومحدّداته، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، مما يدمّر البنية الأساسيّة لمكوّنات هذا الشعب، وهنا يمكن حسم الصراع لصالح المحتلّ الصهيوني، وهذا المخطّط يسير ضمنَ آليّةٍ مبرمجة، عمل الاحتلال سنواتٍ طويلةً لتحقيقها ولنستعرض أهم ملامح هذا التدمير الممنهج للمجتمع الفلسطيني، الذي يقوم به الاحتلال بالشراكة والتعاون مع قوى الشر العالمي والداعمين الأساسيين للحركة الصهيونيّة.

الفلسفةُ الصهيونيّةُ واغتيالُ ما سيكون

عمدت العقليّةُ الصهيونيّةُ إلى رسم سياساتٍ بعيدةِ المدى لتحقيق الأهداف الصهيونيّة في السيطرة على مجريات الصراع في المنطقة، واعتمدت هذه السياسات على قاعدة اغتيال الحلم الفلسطيني، وقتل الزمن المقبل عبرَ سياسة التفريغ والإلحاق والسيطرة المسبقة على مجريات الزمن القادم، وتجلّت هذه السياسة في العديد من نواحي الحياة الفلسطينيّة، بل رأينا تجلّياتها في فلسفة الربيع العربي التي استندت إلى قاعدة ثورة بلا رأس، لتنتج لاحقًا رأسًا بلا ثورة، وهي فلسفةُ حفيد الصهيونيّة برنار ليفي، التي سأفرد لاحقًا مقالةً موسّعةً حولها. إنّنا نواجه عدوًّا يقاتل ضمنَ رؤيا ومنهجيّة عميقة، وهذا ليس تضخيمًا للعدو، بل يكشف عجزنا الفكري في المواجهة الذي تجلّى في عاملين:

العامل الأوّل: كيف تم هندسة القرار تمهيدًا لاحتلاله، عبرَ اغتيال معظم القادة الذين كانوا ضمانةً حقيقيّةً للقرار الوطني، الذين لو استعرضنا أسماءهم لأدركنا أن غيابهم عن المشهد هو الذي جعل الصورة بهذا الشكل.

العامل الثاني: خيار التسوية الذي كان اختراقًا للعقل العربيّ، وشكّل انتصارًا للصهيونيّة، تمثّل في تثبيت واقع  الكيان، من قطعان المستعمرين الصهاينة في الأرض الفلسطينيّة على حساب الحقّ الفلسطيني، وضمان بقائهم فيها واستجلاب المزيد حتى يمكنهم من بناء كيانهم والحفاظ عليه، ووضع الخطط والبرامج لأجل استمرار وجوده وتمدّده، فقد وجدت الحركة الصهيونيّة أكثرَ من وسيلةٍ لتهجير الفلسطينيين، عبرَ القوّة العسكريّة وارتكاب المجازر وإشاعة الخوف بين الفلسطينيين عبرَ الحرب النفسيّة، مترافقًا مع التواطؤ الدولي والعربي لتسهيل السيطرة على الأرض الفلسطينيّة.

كيف انطلت خديعة اتفاقات ومعاهدات التسوية مع كيانٍ يواصل تنفيذ مشروع الاحتلال، أي مشروع الحرب والعدوان وبناء كيانٍ على أساس التوسّع لاحقًا، وليس التراجع؟

فلقد سبق أن صرّح بذلك قادةُ الحركة الصهيونيّة بوضوح، فقد أعلن أبا إيبان وزير الخارجيّة الصهيوني أمامَ الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة في ١٩/٦/١٩٦٧، أنّ: (إسرائيل ترفض بعنفٍ العودة إلى خطوط ٤ حزيران وأن الوصول إلى القمر أسهل من إعادة بيضةٍ مكسورةٍ إلى وضعها السابق)، وفي ٢٧/٦/١٩٦٧، قرر الكنيست الصهيونيّ بالإجماع، ضمّ شرق مدينة القدس إلى السيادة الصهيونيّة، مؤيّدًا بذلك قرارًا عسكريًّا اتّخذه موشي ديان عشية احتلال القدس، حيث أمر بضم شرقي القدس فورًا، دون استشارة حكومته، معلنًا أنّ: (جيش الدفاع لن يترك القدس، لقد عدنا إلى أقدس مقدساتنا ولن نبرحها ثانية).

من خلال هذه الاستراتيجيّة الصهيونيّة يتضح، أنّ أحد أهم نقاط السيطرة على الخطر الثاني هو التوسّع للأمام، عبرَ احتلال مزيدٍ من الأرض الفلسطينيّة حتى يضمن الكيانُ بُعدًا استراتيجيًّا جغرافيًّا، وتلا ضمّ القدس بخمسة أسابيع إنشاء أوّل مغتصبةٍ صهيونيّةٍ في هضبة الجولان هي ميروم هغولان على أراضي قرية العليقة السوريّة، تبعها إنشاء أوّل مغتصبةٍ في الضفّة الغربيّة هي كفار عتصيون بعد مصادرة ١٠٠٠ دونم من أراضي قرية الخضر الفلسطينيّة؛ بهدف خلق تغيّراتٍ ديموغرافيّةٍ على الأرض. وربّما كان أخطر تصريحٍ يعكس السياسة الصهيونيّة في السيطرة على مجريات الصراع، واختطاف الزمن القادم، ما أعلنه موشي ديان أمام مجموعةٍ من طلبة الجامعات الصهيونيّة قائلا: (إنّ التوسّع الإسرائيلي أمانةٌ يحملها جيلٌ إسرائيليٌّ بعد جيلٍ، وعلى الأجيال القادمة الاستمرار في هذا التوسّع).

من هنا يتّضح أنّ الفكر الصهيونيّ قائمٌ على احتلال الأرض والإنسان، لقتل حلمِ إقامةِ دولةٍ فلسطينيّةٍ لاحقًا من جهة، ومن ناحيةٍ أخرى، قتل الزمن المقبل، عبرَ تدمير بنية الشعب الفلسطيني بنواحي حياته كافة.