تنعقدُ في سماءِ الكونِ غيومٌ سوداءُ تنذرُ بأسوأِ العواقب، مع أوّل تمظهرٍ لأزمةِ الليبراليّة الجديدة (2008)، متمثّلةً فيما عدّ فشلًا مزدوجًا للديموقراطيّة والسوق، راحت تتكشّفُ تباعًا عوراتُ النظام العالميّ في سلسلةٍ لا تكاد تنتهي من الأزمات؛ صعود اليمين الشعبويّ، ضمّ شبه جزيرة القرم، تفشّي فيروس كورونا، تأثيرات تغيّر المناخ، أزمة اليورو وغيرها. شهدت منطقتنا، في الفترة ذاتها، علاوةً على تأثيرات الفشل المزدوج، حربًا دمويّةً متّصلة، إثرَ فشل ما تاقت له الشعوب المنكوبة من ربيعٍ يزهر في بلاد القحط والجدب بعد عقودٍ من الخراب والفساد والهزائم، وتدخلُ قوى الغزو والعدوان الخارجيّ.
اليومَ تهتزُّ أركانُ النظام الدولي تحت وقع انفجاراتٍ مدوّيةٍ ومخيفةٍ فيما يشبه يوم القيامة. يعتقد البعض أنّه بينما تدور رحى الحرب داخل حدود أوكرانيا، فإنّ المخاطر والتداعيات باتت محسوسةً في جميع أنحاء العالم بما في ذلك بلداننا؛ سواءً تعلّق الأمر بأزمة القمح أو الطاقة أو تضرّر الرفاء أو عودة حروب الوكالة فيها بين القوى المتحاربة. المنطقةُ مثخنةٌ بالجراح جراءَ حرب الكلّ ضدّ الكلّ، فضلًا عن جائحة كورونا، وتعطُّل سلاسل التوريد، والمشكلات الداخليّة الخاصّة بكلّ بلد.
لم تكن فلسطينُ بعيدةً، بل كان لها نصيبٌ وافرٌ من الأزمات والتحوّلات السلبيّة؛ ففي الفترة ذاتها تقريبًا وقع الانقسام البغيض، وتعرّض قطاع غزّة لأربعة حروبٍ عدوانيّة، واستمرّ الحصارُ الخانقُ والاستيطانُ الزاحفُ والممارساتُ العنصريّة وتدهورت الأوضاعُ الإنسانيّة بصورةٍ غير مسبوقة، حتى تكشّف الأمرُ عن استراتيجيّةٍ إسرائيليّةٍ تمثّل امتدادًا وتطويرًا لخطّة شارون (فك الارتباط، الردع، خلق وقائع على الأرض)، وتنطوي على 3 ديناميات احتلاليّة: ضمّ أجزاءٍ واسعةٍ من الضفّة، تكريس فصل غزة وانفصالها، السعي نحو دولةٍ يهوديّةٍ خالصة. في مقاربة هذه التطوّرات والموقف منها؛ ارتأيت أنّ أقتبس من مقالاتٍ سابقةٍ لي جملًا وفقراتٍ وعباراتٍ تصلح لهذا الغرض.
(1) لم يعد خافيًا على أحدٍ أنّ ثمّة مشروعًا أمريكيًّا في المنطقة، ودون الخوض في تفاصيل هذا المشروع وأبعاده، نكتفي بالقول: إنّه إذ يأخذ بالاعتبار أساسًا المصالح الاستراتيجيّة الأمريكيّة، ومعها مصالحُ إسرائيلَ بالضرورة، يأتي على حساب مصالح شعوب هذه المنطقة، ليس ذلك فحسب، بل ويكبّدها خسائرَ هائلةً ويقطع الطريق على تطوّرها الطبيعي لعقودٍ طويلةٍ مستقبلًا.
(2) في إطارِ التجزئة والتفكيك التي تمثّل جوهر المشروع الاستعماريّ والإمبرياليّ في المنطقة؛ انطوى المشروعُ الصهيونيّ على أرض فلسطين منذ البداية، من بين أشياء كثيرة، وفي مراحلَ مختلفةٍ على (استراتيجيّات) الاقتلاع والتشريد والفصل.... فلما أعيت دولة الاحتلال قدرتها على التخلّص ممّن بقي من أهل فلسطين على أرض وطنهم؛ ابتدعت وسائلَ أخرى. أعيد رسم ملامح السياسة الإسرائيليّة منذ مجيء شارون: إعادة احتلال الضفّة والشروع في أكبر عمليّة تهويد بالاستيطان، وبناء الجدار وعزل القدس وتطهيرها عرقيًّا بالمعنى الحرفيّ للكلمة. ثانيًا، فصل غزّة والانفصال عنها وتركها معزولةً ومخنوقةً بأزماتها الإنسانيّة، وتحت طائلة العدوان المتكرّر. ثالثًا، سنّ مجموعةٍ كبيرةٍ من القوانين والتشريعات التي تقلّص من إمكانيّة تحقيق التطلّعات السياسيّة والوطنيّة لفلسطينيي 48. إعادة كي الوعي الفلسطيني؛ عبر ممارسة سياسة الردع واستخدام القوة الهائلة لقمع التطلّعات، وإجهاض الفرص، وتقليص سقف المطالب، وتحويل حياة ملايين الفلسطينيين إلى جحيمٍ لا يطاق.
(3) في أعقاب نكبة عام 48 تمكّن الجيل الأوّل من الشباب الفلسطيني من إيقاد نار الثورة وقيادتها في المنافي والشتات وترميم شتات الهوية الممزقة، وبناء الكيانيّة الرمزيّة لتعادل اغتصاب الوطن الحقيقي، وتمكّن الجيل الثاني في أعقاب حرب حزيران 67 من إعادة تنظيم المجتمع وتعبئته في مواجهة محاولات الاحتلال قمع تعبيرات الوطنيّة الفلسطينيّة، وإلغاء الأبعاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والحضاريّة لهذه الوطنيّة، فالتمس من التعليم تعويضًا عن شحّة الموارد، ومن العمل الطوعي والتنظيم الجماهيري وسيلةً لتعبئة الطاقات وتفعيل المبادرات الفرديّة والجماعيّة، ومن التواصل مع العالم دعمًا ومساندةً لفضح الاحتلال وممارساته. وإذا كان كلا الجيلين لم يفلحا في تدشين أسس الدولة كما يجب، بالرغم من التضحيات والمحاولات، فعلى الجيل الثالث أن يضطلع بهذه المهمّة، لكن مع صراع القيم والمرجعيّات الثقافيّة في مجتمعٍ يتعرّض للتحلّل وديناميات التفكّك الاجتماعي، تصبح هذه المهمة شبه مستحيلة.
(4) زعزع احتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة وقطاع غزة سنة 1967 البِنيةَ المؤسسيّة الضعيفة أصـلًا، ولم يتمكّن الفلسطينيّون من التحرّك للردّ على صدمة الاحتلال في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، إلا أواخر السبعينات في وقتٍ تصاعد التحدّي الإسرائيليّ للوجود الفلسطينيّ إلى درجة التهديد بالاقتلاع والتشريد. جاء ردّ الفلسطينيين على شكلٍ يعزّز قدرتهم الجماعيّة على الصمود أمامَ الضغوط المتصاعدة والمدمرة التي فرضها الاحتلال. وفّرت المنظّمات التطوعيّة الفلسطينيّة للشعب الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة شبكةَ أمانٍ اجتماعيّةٍ خلالَ الانتفاضة الأولى مكّنته من تقليص الاعتماد على الواردات الإسرائيليّة، ومقاومة التقييدات الصارمة على نقل الأموال، ومواجهة العقوبات الجماعيّة، وذلك في مجالاتٍ حيويّةٍ كالتربية والتعليم، الصحّة والزراعة والاقتصاد المنزليّ الغذائي
(5) يبدو قطاع غزة، بعد ما يزيد عن نصف قرن من احتلاله وما يزيد عن عقدين من نشأة السلطة الفلسطينيّة، وعقد ونصف من سيطرة حركة حماس وفرض حصار عليه، مكانًا "غيرَ آمنٍ" للعيش فيه من منظورٍ إنسانيٍّ شامل. فعليًّا، يواصل هذا القطاع وجوده وصموده ومقاومته بينما تستمرّ المعاناة الإنسانيّة بأفظع صورها وتجلّياتها. ولعلَّ أسوأ ما في الآمر، أنّ بعض أسباب هذه المعاناة تعود إلى الفلسطينيّين أنفسهم، انقسامهم السياسيّ، ارتباك أدائهم على وجه الخصوص. الأمرُ الآخرُ انعدام اليقين بالنسبة للمستقبل، أي لليوم التالي، مصحوبًا بانعدام القدرة، الناجمة أساسًا عن سياسة الاحتواء الإقصائيّ الإسرائيليّة؛ علاوةً على الممارسات العدوانيّة المتكرّرة والمنهجيّة غير المسبوقة. عبّر الإسرائيليّون دومًا عن رغبتهم في إعادة موضعة غزة خارج دائرة الجغرافيا الوطنيّة والهُويّة السياسيّة الفلسطينيّة، تجاهَ البحر أو نحو الجوار الإقليمي. نجحت غزة أن تكون مركز الفعل السياسي الفلسطيني بعد بيروت، وعدّت بمثابة "خندق المشروع الوطني المتقدّم". شهدت ولادة معظم الاتّجاهات السياسيّة، ونشأت على أرضها أوّل حكومة فلسطينيّة. اندلعت الشرارة الأولى للانتفاضتين وسطَ مخيماتها المكتظّة وأحيائها الفقيرة. واجهت ثلاثةَ حروبٍ عدوانيّةٍ في غضون أقلّ من عقد. لكنّها، بالمقابل، عرفت أسوأ أنواع العنف الذاتي؛ تغلب على سكانها مشاعر الانفعال، في حين يشجّع صغر مساحتها واكتظاظها السكانيّ على "التجييش العاطفيّ" والحشد الجماهيريّ والتأثير الإيحائيّ. أخيرًا جوارها الإقليميّ ل مصر منحها امتيازاتٍ، وفي الوقت ذاته تسبّب لها في كثيرٍ من المآزق والتهديدات.
(6) يقترنُ فعلُ المقاومة في الغالب بشكلٍ معيّنٍ من أشكالها فحسب، أو يرتبط بتنظيمٍ سياسيٍّ معيّنٍ دون غيره، وعلى كلّ حال، لقد خبّر الفلسطينيّون أشكالًا متعدّدةً من المقاومة، اجترحوا معجزاتهم الصغيرة وإبداعاتهم المتميّزة وَفْقًا لقدراتهم وظروفهم والسياق العام المحيط بهم، فكانت الانتفاضةُ الشعبيّةُ نموذجًا رائعًا في قدرة الشعوب المضطهدة على مقاومة محتلّيها بالرغم من التفاوت الهائل في العدّة والقدرة العسكريّة المجرّدة، أي في تحويل نقطة الضعف، أو ما يعتقد أنّها نقطة ضعفٍ إلى عاملٍ من عوامل القوّة المباغتة وغير المتوقّعة، وكان غاندي قد سبق بنموذجٍ خاصٍّ بالهند اعتمد على المبدأ نفسه. المقاومة من حيث المبدأ هي رفضُ الظلم والاضطهاد والاحتلال والقيام بالتدابير والأعمال التي تعبّر عن هذا الرفض، ولأنّها كذلك، فهي عمليّةٌ تاريخيّةٌ تختلفُ من سياقٍ إلى سياق، إبداعيّة تشترط التقاط الاتجاه السائد وفهمه وتطوير ما يناسبه من أدواتٍ وتدابير، وهي عمليّةٌ مركّبة، لا تقتصر على مسارٍ دون آخر، شكلٍ دون آخر.
(7) بالرغمِ من المطالبات الكثيرة بضرورة إحيائها، ما زالت (م.ت.ف) مغيّبةً ويتمّ استدعاؤها لأغراضٍ وحساباتٍ فئويّة، وهي ما زالت ضحيّةً بين تجميدها وتهميشها بحجّة المحافظة عليها من قبل طرف، وبين محاولات تجاوزها أو السطو عليها بالكامل من قبل طرفٍ آخر. باتت المنظّمةُ موضوعًا آخرَ للخلاف، وليس إطارًا وطنيًّا جامعًا يختلفُ الفلسطينيّون تحت مظلّته وليس عليه. منذ إعلان القاهرة 2005، تباينت أطروحات إعادة الإحياء بتباين المرجعيّات الأيديولوجيّة والسياسيّة لأصحابها وأغراضهم.
(8) تعدّ قراراتُ الشرعيّة الدوليّة أحدَ الأدوات الدبلوماسيّة لحلّ الصراع العربيّ - الإسرائيليّ، ورغم ذلك فقد أسقطت مسيرة التسوية مرجعيّة العديد من هذه القرارات، فخضعت لتوازن القوى، ومن ثمَّ لإملاءاتٍ إسرائيليّةٍ واشتراطاتها المستمرّة، ولا غرو في ذلك، فطالما جرى الانتقال من الشرعيّة الدوليّة إلى ما يمكن تسميته بالشرعيّة التفاوضيّة، وفي ظلّ غياب مبدأي العدل والإنصاف، فضلًا عن اختلال موازين القوّة، فما الذي يمنع إسرائيل ليس فقط من الاستمرار في التنصّل من التزاماتها والإفلات من العقاب، إنّما من فرض شروطٍ جديدةٍ وحتى صيغة إسرائيليّة للحلّ النهائي؟! وهكذا، لا يمكن فهم المواقف الإسرائيليّة المختلفة تجاهَ الشرعيّة الدوليّة وقراراتها إلا إذا أدركنا كنهَ هذه الدولة وطبيعتها، أوّلًا بوصفها دولةً خارج القانون، فممارساتها تجعلها في مصاف الدول الاستعماريّة، وثانيًا، بوصفها دولةً تمارس نظام الفصل العنصري، وأخيرًا، بوصفها دولةً ذات سجلٍ إجراميّ. وقد عبّرت قيادات إسرائيليّة بشكلٍ صريحٍ عن هذه العدوانيّة، فمثلًا صرّح ديفيد بن غوريون يومًا "إنّ صراعنا مع الفلسطينيّين واضحُ البساطة، نحن وهم نتنازعُ على قطعة الأرض نفسها، والفرق بيننا وبينهم أنّنا سنكسبُ إمّا بالحرب، وإما بالسياسة، وإما بالخديعة".