لا يمكنُ الاختلافُ حولَ أهميّة المواطنة كفكرةٍ في إطار عالمنا المعاصر، باعتبارها من المفاهيم الهلاميّة متعدّدة الأبعاد والقيم لتعدّد مداخلها الحضاريّة، ما يجعل الاتّفاق على دلالتها ليس سهلًا، ويرجع ذلك لتداول مصطلح المواطنة في كثيرٍ من الخطابات السياسيّة والثقافيّة دون تحديد امتدادٍ واضحٍ أو إعطاء دلالةٍ محدّدةٍ لهذا المفهوم، ويتركُ تفسيره غالبًا لنوعيّة الوسط الذي عولجت فيه كإشكاليّةٍ فلسفيّةٍ واجتماعيّة. كما أنّ مفهوم المواطنة بني على أساس مجموعةٍ من الرؤى والنظريّات السوسيوفلسفيّة التي أسست لمعناه في كلّ عصرٍ من العصور، على اختلاف خلفيّات جموع الفلاسفة والمفكّرين، حيث أنّهم اتّفقوا على مسألة الوفاق الاجتماعي كإطارٍ فلسفيٍّ لمواطنة الأفراد داخل المجتمع العام، لكنّهم اختلفوا في تحديد مختلف الكيفيّات التي تمكّن الأفراد للانخراط في التمثّلات ومختلف الانتماءات الجماعيّة كي يكتسبوا صفة المواطن الحقيقيّ.
هذهِ الإشكاليّةُ أفرزت طرحين مختلفين لفكرة المواطنة في المجتمع الغربي، الأوّل يحمل دلالةً إنسانيّةً أخلاقيّةً ينطوي تحتها مفردات حقوق الإنسان، والثاني يحمل دلالةً مدنيّةً تنطوي على معاني الأنشطة الجماعيّة في التصويت والترشّح وتقلّد المناصب العليا، هذه الحالةُ كما يقول المفكّر عبد الله العروي، جعلت الفرد الغربيّ لا يفرّق بين صفة المواطن المساهم في الحياة السياسيّة وصفة البرجوازي المقيم في المدينة. لذلك بقيت فكرة المواطن، والمعنى الصحيح للمواطنة غائبةً وغامضةً في كثيرٍ من وعي المجتمعات المعاصرة.
إنّ هذا المقال يتّخذ من مبدأ الفرد بالمعنى الليبراليّ موضوعًا لتشريحٍ سياسيٍّ لعلاقة الدولة الليبراليّة بالمواطنة في الحداثة الرأسماليّة.
تعرّض المفهومُ القانونيّ للفرد إلى نقدٍ واسعٍ من قبل العديد من المفكّرين، انطلاقًا من البحث عن نموذجٍ بديل، وهي بالفعل تفتح أفقًا معرفيًّا تتيح لنا تتبع الدعوات الغربيّة النقديّة عن معنى الفرد المجرّد، بحسب منطق الماركسي نيكوس بولانتزاس ( بولانتزاس، السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية، 1982، ص162)، فضلًا عن مدى قدرتها التفسيريّة في مواجهة منطق الحكم بالمعنى الليبرالي المهمين.
لقد طرح الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو سؤالًا، حول كيفيّة العمل من أجل أن تصبح النفس ما يجب أن تكون عليه، لكي تتحرّر من منطق السيادة؟ كيف العمل من أجل أن تكون الذاتُ حرّةً تحيل إلى ذاتها بوصفها الحقيقةَ النهائيّة؟
يرى فوكو أنّ الغرب قدّم نظريّةً حول الذات القانونيّة غير مكتملة، عندما اختزالها إلى مجرّد مواطنةٍ صافية، فكان مشروعه حول الحقيقة متعثّرًا.
يرى الماركسي بولانتزاس أنّ مفهوم الحقوقي الليبرالي للفرد القائم على المواطنة، يخفي عنفًا متأصّلًا وراءَ مزاعم تمثيل القانون كحدٍّ أمامَ عسف الدولة الرأسمالية وكعقبةٍ أمام ممارسة العنف، بوصفها جهازًا حياديًّا كليًّا مجرّدًا، يزعم مخاطبته الأشخاص بصفاتهم لا بذواتهم. فقد فهمت دولة القانون بالمعنى الليبرالي هذه كنقيض للسلطة غير المقيّدة، وبخاصةٍ أنّ الدولة الرأسمالية، قامت على مزاعم، أنّها تمثّل المنهج السياسي الصحيح الذي يحوز فعالية كبرى لضبط القوة والعنف؛ فكان لا بدّ من عملية تفكيك الروابط الجمعية بالمعنى الماركسي الواقعة بين الفرد والدولة، وذلك للوصول "للفرد المجرد" باعتباره مسلمةً نظريّةً أولية، وشرطًا تاريخيًّا لوجود أسلوب الإنتاج الرأسمالي. ويرى بولانتزاس أنه لا توجد حدودٌ واقعيّةٌ للسلطة الليبراليّة، سوى الصراعات الشعبيّة وعلاقات القوى بين الطبقات التي تضع حدًّا لعسفها.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى موقف بيار بورديو من الدولة الليبراليّة وعلاقتها بالفرد المواطن، فقد ذهب إلى أنّ الدولة هذه تقوم بقولبة الأفراد وتطويعهم؛ إذ قال إنّها "مؤسّسةٌ لتدمير الكائنات" (بيار بورديو، عن الدولة، 2016)، غير أنّ بورديو يعود إلى المراهنة على الدولة في مواجهة العولمة، كونها تؤدّي إلى تدمير الأطر الجمعيّة، بما أنّ الدولة في مواجهة العولمة هي مستودعُ القيم العامة والضامن للمصلحة العموميّة. إنّ بورديو هنا يدافع عن الأطر الجمعيّة كالنقابات والاتّحادات والطبقات في مواجهةِ محاولة تفكيكهم وتدميرهم.
وترى حنة أرنت في تفسيرها لنشأة الأنظمة الشموليّة، في أنّ علّتها تقوم على انعدام أو هشاشة الوسائط الاجتماعيّة بين الدولة والفرد، وهو شرطُ إمكان التوتاليتاريّة وحاجته إلى إلغاء التضامن الاجتماعي، والحال أنّ انهيار منظومة الطبقات، مقدّمة لانهيار الاجتماعي والسياسي كأحد الأشكال المأساوية في تاريخ النظم الاستبدادية للوصول إلى جسمٍ اجتماعي طبقي رخو، يمكن الدولة من توغلها، ومن ثَمَّ فرط الهيمنة. إذ ترى أرنت بأنّ انهيار منظومة الطبقات داخل البلدان الأوروبيّة، كان مقدّمة لنشوء النظم الشموليّة (حنة أرنت، أسس التوتاليتاريّة، 2016، ص39).
في هذهِ الحالة لا يمكن التعاطي مع مفهوم المواطنة باعتباره دالًا على قوّة حضور الفرد في إطار منظومة القانون، دون أن يرافق ذلك وعي فرديّ للمواطنين بهذا القانون ومسوّغاته وحدود صلاحيّاته، كون الفرد الواعي يدرك لا محال في نهاية الأمر أن حضوره وقوته تكون عند انتظامه في إطارٍ مؤسسيٍّ منظّم، يعبّرُ فعليًّا عن مصالحه الطبقيّة في مواجهة تغوّل الطبقات البرجوازيّة أو المتماهيّة مصلحيًّا مع النظام السياسي، وهذا ما يحمي فعليًّا المواطنة كمفهومٍ تمَّ تدجينه ليس لتفتيت الأطر الجمعيّة المنظّمة وتحميلها إلى هياكلَ هولاميّةٍ شكليّةٍ لا تعبّرُ فعليًّا عن مصالح الفئات الاجتماعيّة والطبقيّة التي تمثّلها.