لا يمكن فصل مشهد هجوم قوات العدو على نعش الشهيدة شيرين أبو عاقلة عن هوية مشروع العدوان، وما يحرك المحتلين من دوافع، مخاوفهم، وآمالهم، وأي كان من أصدر القرار بهذه الجريمة كما جريمة قتل شيرين، كما اجتياح مخيم جنين، كما كل مجزرة، فإن مصدرها لم يكن القرار، حتى نبحث عن مصدره و نحاكمه، أو يطالب المجتمع الدولي الاحتلال بتحقيق بشأنه؛ الفاعل هو المستوطنة؛ المحتل، الذي طرد الفلسطيني من بيته، وهجر شعب بأكمله. إن المشروع الصهيوني وداعميه هم القتلة، وفي هذا لا يمكن أن يتم "إصلاح الاحتلال"، أو تحسين آليات عمل منظومة القتل؛ فتعديل أوامر إطلاق النار لن يحسن ميتة الفلسطيني أو حياته.
إطلاق النار والقتل لكل من ينقل حقيقة الصراع، هذا ليس حدث فرعي ناتج عن ظروف موضعية، أو ملمح توحش منفرد، بل جزء من تصور الاحتلال لما يجب أن يسود؛ واقع يذبح فيه الفلسطينيين ويتم محو وجودهم بصمت، وما التفاف الفلسطينيين حول شهيدتهم إلا دفاعًا عن حقيقة وجودهم، كضحية تقاتل دفاعًا عن وجودها.
إن حلفاء المحتل يوفرون له الغطاء والدعم لكل هذه الجرائم، ولدور كمنظومة إبادة وقهر ومحو لكل ما هو فلسطيني وما هو تحرري، حيث يستثمر أقطاب الاستعمار والهيمنة والوحشية في الاحتلال كمنظومة قهر مثالية، كصورة يجب تعميمها ومضاد لفعل التحرر والتحرير وإرادة البشر في العيش الحر، فيما يحمل شعب فلسطين عبء مواجهة هذا كله، ويحقق التحرير حتى في ذروة اختلال معادلة القوة: تحرر القدس بجنازة شهيد، لبرهة من الزمن يعود علم فلسطين وصوتها وصورتها مع الجماهير التي تحمل النعش، وتخوض المعركة وتبقي العلم والنعش مرفوعًا، وتُسقِط الاحتلال، وفي جنين ينتصب الفدائي معلنًا دولة فلسطين؛ مقاتلًا لساعات دفاعًا عنها.
قد يتقدم الاحتلال آنيًا في موضع أو آخر، وتقتل منظومة الإبادة مزيدًا من الفلسطينيين وتلتهم من أرضهم أكثر فأكثر، تهدم البيوت وتصادر الأرض، وتمتد مساحة هيمنتها لتصبغ سياسات دول وحكومات قررت وضع كل رهانها على القهر، ولكن شعب فلسطين ينتزع ويحرر مساحات أخرى، حين تلتحم الجماهير بالعنوان الجامع لهويتها وهو مقارعة الاحتلال.
إن قتل الاحتلال للشهيدة شيرين أبو عاقلة هو جزء من سلسلة طويلة من الجرائم التي استهدف بها الاحتلال كل صوت حر؛ فموضع من يقتل الحقيقة هو السجن أو القبر، هذا ما اختطه الاحتلال، ولكن فلسطين جيل بعد جيل تفرز من يختار هذا المصير، ك غسان كنفاني الذي أوفى لقضيته واستشهد مدافعًا عنها بالكلمة والموقف والانتماء لخيار الكفاح المسلح، وعمر القاسم الذي قضى شجاعًا منتصب الهامة؛ ملتزمًا بقضيته ونضال شعبه، وناجي العلي الذي خط بوصلتها كاملة برسوماته.. وقائمة لا تنتهي من شهداء الصوت الفلسطيني الذي يسعى الاحتلال لإسكاته وطمسه.
إن ما أحدثه شعب فلسطين ردًا على جريمة اغتيال الشهيدة شيرين ليس محض فعل تضامني مع من نقل صورته وصوته فحسب، ولكن تحد شامل لجبروت الاحتلال، واستدعاء للهوية النضالية الجامعة، التي ترفض أي وجود لهذا الاحتلال على الأرض الفلسطينية، وتشتبك معه في كل موضع، هذه الجموع التي حملت نعش الشهيدة وطافت به في أرض فلسطين؛ معلنة وحدة الارض والنضال، في وجه مشروع الإبادة المعلن، خطوات على طريق التحرير الذي يعرفه هذا الشعب جيدًا، ويضيء الشهداء مشرقين فيه موضحين ملامحه.