Menu

دراسة بقلم القائد أحمد سعدات... "بعد انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي إلى أين يتجه الصين؟"

مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني

دراسة بقلم الرفيق الأمين العام

      أحمد سعدات

    14 يناير 2018 

بعد انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي إلى أين يتجه الصين؟

مقدمة:

تعتبر الصين اهم دولة نامية في العالم وهي تقود النمو الاقتصادي العالمي بما لها من تأثير ملموس تجلى خلال العقود الثلاثة منذ تسعينات القرن 20 حتى الآن، وقد جذبت الانتباه خلال العقد الأخير للدور الذي احتلته  في الاقتصاد العالمي، في حين مازالت المراكز الرأسمالية تعاني من تداعيات الازمة المالية والاقتصادية العالمية التي انفجرت في سبتمبر 2008، بحيث باتت الصين موضع اهتمام مختلف التيارات والمدراس الفكرية والسياسية والاقتصادية في العالم، فهي من اهم المنافسين اقتصاديا  للإمبريالية الأميركية، وتشكل نواة القطبية التعددية الجديدة الاخذة بالتشكل مع حلفائها في مجموعة بركس وخاصة روسيا، عدا عن كونها نموذجا اقتصاديا مختلفا عن النماذج السائدة عالميا.

 في هذه الدراسة، توخينا استعراض خصائص تطور هذه الدولة بعد رحيل القائد التاريخي ماو تسي تونغ، ورؤية قياداتها لحاضرها ومستقبلها، بعد انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، الذي انعقد في 18 تشرين الأول 2017، وحظى باهتمام وتغطية إعلامية غير مسبوقتين.

 فبعد قرابة أربعة عقود من انطلاقة " مسيرة الإصلاح" وستة عقود من إطلاق الزعيم الشيوعي " دينغ شياو بينج " مقولته الشهيرة " ليس مهماً أن يكون لون القط أبيضاً أم أسوداً ما دام يأكل الفئران" تقف الصين اليوم على أعتاب تحقيق قفزة نوعية يتوقع منها المراقبون والخبراء الدوليون أن تصبح الصين الدولة الأولى اقتصادياً مع حلول منتصف هذا القرن.

كما تحتل اليوم مقولة " المجتمع الاشتراكي ذو الخصائص الصينية" الموقف الأول من حيث الاهتمام في أواسط اليمين واليسار على حد سواء؛ فلقد كانت تجربة البناء والتنمية في الصين مثيرة للجدل داخلها وخارجها عقب انتصار الثورة الديمقراطية الجديدة، كما أسماها " ماوتسي تونغ".

 فالحرب الثورية والتحرير وتوحيد الصين بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، وتحوّل الجدل إلى تناقض مستعصي حول عبارة " بينج" التي أطلقها عام 1957 أسس للثورة الثقافية التي انطلقت عام 1966، دفع فيها ثمناً باهظاً أقصاه من الحلبة السياسية أكثر من عقد حتى أعيد له الاعتبار في النصف الثاني من السبعينيات بعد رحيل " ماوتسي تونغ" وخليفته " هوا جيو فينج " واعتقال وتصفية نفوذ ما سُمي " عصابة الأربعة" التي تزعمتها زوجة الرئيس " ماو" وحملت مسئولية "أخطاء الثورة الثقافية".

على أي حال، إن ما يميز تجربة الحزب الشيوعي الصيني، يتجلى في الاهتمام البالغ بالجانب النظري كما عبر عنه قائد الثورة ماوتسي تونغ ، ورؤساء الدولة والحزب من بعده وأهمهم "دينغ شياو بينغ" و"زيمين" وصولاً إلى الرئيس الحالي "شي جين بينغ" ، إلى جانب الاهتمام –بدرجات متفاوتة- بالماركسية ومنهجها وتطبيقها على الواقع الصيني في إطار الاشتراكية الصينية.

وقد رافق هذا الاهتمام ، بناء خطط وبرامج العمل على رؤية نظرية تحاول حل التناقضات العملية الثورية بسماتها الملموسة الواقعية التي تأخذها أشكال حركتها، ولم تكن هذه الميزة خاصة بحقبة "ماو" فقط، إذ أن تجربة الإصلاح بمراحلها المتلاحقة –بعد رحيل القائد الثوري ماو- استندت إلى رؤية نظرية غير منفصلة عن رؤية " بينج"، بدأت بمقولة " الفئران واقتصاد السوق الاشتراكي والتمثلات الثلاث[1] للرئيس " جيانغ زيمين" والمجتمع الاشتراكي المتناغم للرئيس " هوجين تاو" وأخيراً المجتمع الاشتراكي ذو الخصائص الصينية، كما امتازت تلك الرؤية، بعلاقة الحزب الشيوعي بالجماهير التي لم تنقطع صلاته بها في جميع المراحل التي مرت بها الصين، وإن ترهلت سماته الداخلية في بداية المرحلة الثانية من الإصلاح حتى عام 2002 بداية ولاية الرئيس " هو جينتاو".

 واليوم تقف الصين بين صفوف القوى الاقتصادية العظمى دولياً، ويطمح الحزب والرئيس " شي جين بينغ" بأن تكون على رأس هذه القوى في منتصف هذا القرن.

التجربة الصينية الحديثة بين الاشتراكية والرأسمالية:

 ترتفع حمى المناظرات بين مؤيد ومعارض، بين متحمس ومراقب، وبين الحذر من الخطر الصيني القادم كما تعبر عنه الامبريالية الأمريكية.

 ويأخذ الجدل بين القوى اليسارية الماركسية طابعه الأكثر إثارة، فهنالك من حسم رؤيته حول مسارها المتسارع نحو التحّول إلى بلد رأسمالي وإن كان بطربوش " ماركسي اشتراكي"؛ انطلاقاً من أن جوهر التطور الاقتصادي الاجتماعي في الصين قد حسم باعتبار اقتصاد السوق ومفاهيمه القوة المحركة لهذا الانطلاق، قاطعين الشك باليقين بأن وجود القطاع العام مهما كانت حصته في العملية الجارية ليس جديداً على تجربة قيد التحّول إلى الاشتراكية، وإن التجربة الصينية نسفت من حيث المبدأ ممكنّات هذا التحّول بشرعنة الملكية الخاصة الرأسمالية الصينية والدولية كمكون من مكونات  علاقات الإنتاج.

وهناك من اجتهد بأن الماركسية ليست أقانيم جامدة، فهنالك جوهر منهجها الجدلي العلمي، كما أن الاشتراكية ليست مجرد نصوص أو كتالوج معلب لحين الاستخدام، كما أن شرط نجاح الرؤية العلمية، يشترط الأخذ بالخصائص التاريخية التي تمر بها تجارب عملية البناء في هذا البلد أو ذاك، وما ينطبق على الاشتراكية جسدته عملية التحوّل إلى الرأسمالية الأوروبية في عصر سابق، فالأشكال الملموسة لم تكن متطابقة وإن توحدت وتجانست من حيث الجوهر، فليترك للصين تجربتها النوعية والمدى الذي تحتاجه فالعبرة في الخواتيم.

أما الرأي الثالث فمتحمس ويرى بالتجربة الصينية المعاصرة ذروة الإبداع الخلاق المسترشد بالماركسية ومنهجها الجدلي، وتحرير للفعل وتحديد لصوابية المنهج المنسجم مع القراءة الواقعية لتناقضات الكون في مرحلة العولمة الرأسمالية وطابعها الملموس في الواقع الصيني واحتياجات التنمية المطلوبة تاريخياً.

واللافت للنظر في الرؤية النظرية الصينية لتجربة الانفتاح تأكيدها على التمسك بمقولات ومفاهيم الماركسية وال لينين ية والماوية باعتبار أن الطريق الجديد –من وجهة نظرها- يشكّل قفزة نوعية أحدثته مجمل الرؤى النظرية الماركسية السابقة في سياق تطورها وتجديدها من خلال الدور القيادي المركزي للحزب الشيوعي في تحقيق الأهداف التي تحققها الخطط الخمسة وفق المبادئ اللينينية التي تشكّل جوهر النظام الداخلي للحزب.

كما أنهم وعبر المراحل التي قطعتها عملية الإصلاح ، يؤكدون على متابعتهم وتجاوزهم للسلبيات الناجمة عن اعتماد اقتصاد السوق كأساس من عملية التنمية وتحقيق أهداف الإصلاح.

فهل تتحقق نبوءة الزعيم " دينج رائد الإصلاح في هذه التجربة، أم أن الزمن تجاوز إمكانية خروج الصين من عنق الزجاجة وتحقيق الحلم الاشتراكي ورسالته الأممية الإنسانية باتجاه تكريس رأسمالية الدولة؟، وهل ستتجاوز الصين وحكمائها المثل الشعبي الدارج القائل" بأن دخول الحمام مش زي خروجه؟. خاصة وأن القط الرأسمالي متوحش ما دامت مخالبه وأسنانه حادة يفتك بما يصطاد!".

الإجابة على السؤال الرئيسي وعدد من الأسئلة التي تطرحها التجربة الصينية عملية تحتاج إلى قراءة تلخصها النظرية وحصاد نتائجها المحقق على الأرض، كماً ونوعياً.

الإطار التاريخي للإصلاح الاقتصادي كما طرحته وثائق الحزب الشيوعي الصيني:

تنمية الاقتصاد الوطني ( كما هو منصوص عليه في كتاب الصين إصدار دار نشر باللغات الأجنبية، الطبعة الأولى، عام 2007، ص 91)، يوضح الكتاب ما يلي:

"قبل تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 كان الاقتصاد الوطني في غاية التخلف، وصارت الصين اليوم إحدى الدول الاقتصادية الكبرى ذات الطاقة التنموية الكاملة في العالم. فمستوى معيشة الشعب ككل وصل إلى مستوى رغيد، وبعد دخول القرن الحادي والعشرين عززت وحسنت الحكومة الصينية التنسيق والسيطرة الكلية على الاقتصاد الوطني وحافظت على نمو مستقر وسريع، وفي عام 2006 وصل الناتج المجلي الإجمالي إلى 2.940,7 مليار يوان بزيادة 10,7% عن العام السابق".

ويضيف الكتاب " تحقق نمو الاقتصاد الصيني عبر تنفيذ الخطة الخمسية، فلقد نفذت الصين تسعة خطط خماسية من 1953 إلى  2000 مما أرسى أساساً تنموياً متيناً للاقتصاد الصيني أما الخطة الخمسية العاشرة التي نفذتها الصين بين عامي 2001 و2005 أحرزت نجاحاً مدهشاً وقفزت بقوة الصين إلى مركز الصدارة في العالم".

ويلاحظ أن الناشر يتحدث عن تتابع الخطط التنموية الخمسة وكأنها جاءت في سياق منسجم بعيداً عن أي صراع على قاعدة أو تحّولات جرت في مضمون النظام الصيني.

ويشدد الكتاب على الخطه الخمسيه الحادية عشر كنقطة تحّول جديدة ونوعية، حيث يرى أن هذه الخطة المنفذة ابتداءً من عام 2006 هي خطة عظيمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والوطنية الصينية في السنوات الخمس المقبلة ( 2006-2010) .

وحول إصلاح النظام الاقتصادي يبين الكتاب "أن إصلاح النظام الاقتصادي من أهم موضوعات الإصلاح والانفتاح، فيشير إلى أن عام 1978 بدأ اصلاح النظام الاقتصادي أولاً من الريف، وفي عام 1984  توسع من الريف إلى المدن، وفي عام 1992 بعيد تجربة الانفتاح والإصلاح لبضعة عشر سنة قررت الحكومة الصينية إقامة نظام " اقتصاد السوق الاشتراكي بالاستناد إلى أسس ومقومات ومستويات إصلاح النظام الاقتصادي الصيني المحدده فيما يلي:

-      التمسك بمبدأ اعتبار اقتصاد الملكية العامة قواماً والتنمية المشتركة الاقتصادية المتنوعة لإنشاء نظام المؤسسات الحديثة التي تتواكب مع متطلبات اقتصاد السوق.

-      إنشاء نظام السوق الموحد المنفتح في عموم البلاد.

-      تحقيق دمج السوق المحلية بالسوق الدولية لدفع التوزيع الأمثل للموارد.

-      تعزيز صلاحية الحكومة في إدارة الاقتصاد، وإقامة نظام التنسيق والسيطرة الكلية المتكاملة.

-      تقنين الضمان الاجتماعي المتطابق مع أحوال الصين وسكان الريف والمدن لدفع التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي.

وغني عن القول ان نجاح الاقتصاد الصيني يبدد كافة المزاعم المعادية لدور الدولة في الاقتصاد، وأسقط المقولة الغربية القائلة بان اقتصاد السوق المستند الى الحرية المطلقة لرأس المال هو وحده المؤهل في تحقيق تراكم ونمو اقتصادي، فالاقتصاد المختلط بقيادة الدولة " النموذج الصيني" ابهر العالم بمعدلات نموه المرتفعة وقدرته ليس على الصمود في وجه الازمة المالية والاقتصادية وحسب، بل وتقديم العون والمساعدة لاقتصادات امريكا واوروبا للخروج من الازمة.

كما انتصرت الصين بفضل قيادة الحزب على الفقر، فقد خرج خلال 30 عاما 700 مليون صيني من تحت خط الفقر، وتخطط الحكومة الصينية في إخراج 40 مليونا من خط الفقر خلال الثلاث سنوات القادمة بمعدل 20 مواطن كل دقيقة، وفقا لما أعلنته وكالة أنباء شينخوا في 25 أكتوبر 2017 .

 فقد أطلقت الصين صندوقين بقيمة 225 مليار يورو للاستثمار في كل من الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي، للمساهمة في إنعاش الاقتصاد الغربي، كما تعتمد الولايات المتحدة منذ سنوات على شراء الصين لجزء هام من سندات الخزينة. 

لقد نجحت الصين كدولة نامية بإنجاز مشروعها التنموي، والتحول من دولة مستهلكة للمنتجات الغربية الى دولة مصدرة، مستفيدة من سياسة الانفتاح والعولمة الرأسمالية، هذه السياسة التي صممت لفتح أسواق الدول النامية للمنتجات الغربية، أصبحت تشكل عبئا على هذه الدول، واخذت بعضها وخاصة الولايات المتحدة التمرد على منظمة التجارة العالمية والعودة الى السياسة الحمائية بسبب الضرر الاقتصادي الذي طالها من انسياب السلع الصينية اليها، والعجز التجاري المتفاقم مع الصين.

كما أن سياسة الصين عكست احدى مظاهر ازمة العولمة الرأسمالية، التي يمكن الاستفادة من تناقضاتها وخاصة بعد تشكل مجموعة بركس بقيادة روسيا والصين، التي وفرت مناخا سياسيا وشراكة حقيقية للدول النامية التي تتمتع بإرادة سياسية لبناء اقتصاد وطني.

فالصين معنية في الاستفادة من فوائضها المالية الضخمة، بتمويل مشاريع استثمارية وتقديم الخبرات، بقدر ما الدول الفقيرة معنية بتحقيق تنمية اقتصادية، فالاقتصاد الصيني اليوم يمثل –في رأينا- نموذجا ثالثا في العالم، فهو لا ينتمي للاقتصاد الرأسمالي الليبرالي المعروف في الدول الغربية، كما انه ليس نظاما اشتراكيا وفق النموذج السوفييتي سابقا، فقد حافظت الصين خلال انفتاحها على الاقتصاد العالمي على اقتصاد موجه، وقطاع عام يتحكم في معظم الموارد الوطنية للصين، ومع ذلك تم اطلاق المبادرات الفردية والخاصة، وفتح الابواب على مصاريعها للاستثمارات الاجنبية، وحافظ الاقتصاد الصيني على نمو مرتفع خلال العقود الثلاثة الماضية، ويعتبر نموذجا يحتذى لنجاح الاقتصاد الموجه لتحقيق التنمية في البلدان النامية.

فقد باتت الصين اليوم، مؤهلة سياسيا واقتصاديا وماليا وتقنيا للقيام في بناء منظومة صناعية مستقلة وفعالة في الدول النامية التي ترغب السير في هذا الطريق، حيث تتمتع الصين بإمكانيّات واسعة من الناحية التقنية التي لم تعد حكرًا على الدول الغربية كما كان سابقًاـ خاصة وأن الناتج المحلي الإجمالي للصين وصل عام 2016 إلى 11,199 تريليون دولار[2] ما يعادل 14.8% من إجمالي الناتج العالمي ليصبح ثاني اكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة التي بلغ ناتجها الاجمالي عام 2016 ، 18,1 تريليون دولار من أصل الناتج الاجمالي العالمي البالغ 75.54 تريليون دولار.

فالصين الشعبية هي الدولة الأولى من حيث عدد السكان (22% من سكان العالم) ، وتشير كافة المصادر الى أنها تقترب وبشكل سريع من الوصول الى قمة قائمة أكبر الدول الصناعية في العالم ، فالاقتصاد الصيني –بشهادة العديد من الخبراء- هو الاقتصاد الأسرع نموا في العالم خلال الخمسة وعشرين عاما الأخيرة، فإذا استمر معدل النمو الحالي (رغم تذبذبه بين 9 -5  %) فإن الاقتصاد الصيني سيصل إلى مستوى الاقتصاد الأمريكي بحلول عام 2025 ، وهو أمر تدركه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم التي تعتبر الصين عدوا محتملا في المستقبل أكثر بما لا يقاس منه في الحاضر، خاصة مع التطور في العلاقات السياسية الصينية الروسية أو التطور في إطار منظمة "بريكس"، إلى جانب استمرار الخلاف بين الصين وأمريكا في العديد من القضايا السياسية العالمية.

وفي هذا السياق، نؤكد على الحقيقة التاريخية ، بأن الصين عالم قائم بذاته ، ولا تملك تاريخاً استعمارياً، بل بالعكس طالما هددها النظام الامبريالي، لكنها في المرحلة الراهنة عبر سياساتها المعتدلة وتحولها الهادئ ، ليست في مستوى التحديات والاكراهات التي واجهت بعض بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا والبلدان العربية.

كما إن التقدم الملموس، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي المدني والعسكري الذي أحرزته الصين الشعبية تحت قيادة الحزب الشيوعي، أدخل الصين بقوة كشريك أساسي وقطب عالمي فعال كمحور رئيسي في النظام العالمي الراهن في القرن الحادي والعشرين، سيكون له دورٌ رائدٌ ومميزٌ في تحديد شكل وطبيعة المنافسة الاقتصادية/السياسية في إطار التعددية القطبية الراهنة لا محالة.

في هذا الجانب نشير إلى أن نظام اقتصاد السوق الاشتراكي في الصين بدأ –بصورة أولية تدرجيه- منذ نهاية القرن العشرين، وتم اعتماده وتكريسه رسمياً في الصين عام 2010، وسيصبح هذا النظام ناجحاً أو ناضجاً نسبياً في الصين عام 2020، بما يضمن وصول معدل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى البلدان المتطورة المتوسطة، ومن ثم بلوغ مستوى معيشي مريح منتصف القرن 21. 

وفي هذا السياق، نشير إلى انّ التطورات العالمية التي شهدها القرن الحادي والعشرين، من ثورة تكنولوجيا المعلومات، وانفتاح عالمي غير مسبوق، وتطورات اقتصادية لافتة في البلدان النامية وفي مقدمتها الصين والهند والبرازيل، مكن هذه الدول من اختراق الجدار الرأسمالي الذي كان يشكل سدًا منيعًا في وجه التنمية الاقتصادية الشاملة لبلدان العالم الثالث، في ظل التقسيم الدولي للعمل الذي كان سائدًا، بالإبقاء على الدول النامية في القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية دول مستهلكة. ومع تشكل التجمع الاقتصادي لمجموعة دول بركس يكون فُتح الباب على مصراعيه أمام منافسة المراكز الرأسمالية المتقدمة، مستفيدة من إزالة الحواجز الجمركية لتسهيل انسياب السلع بين دول العالم كافة، التي شرعتها منظمة التجارة العالمية لصالح المراكز الرأسمالية. وقدوفرت مجموعة بريكس وفي مقدمتها الصين مناخا سياسيا وشراكة حقيقية للدول النامية الراغبة في بناء اقتصاد وطني، فهي مستعدة لتمويل مشاريع البنية التحتية وتقديم المعدات والتكنولوجيا المطلوبة للبلدان النامية وهي بحاجة لمثل هذه المشاريع لضمان استمرار النمو المرتفع للاقتصاد الصيني.

وعلى الرغم من خصوصية الاقتصاد الصيني كونه يشكل نموذجا آخر فهو؛ اقتصاد مختلط يجمع بين ملكية الدولة وبين استثمارات رأسمالية محليّة وأجنبية، وهي تعيش في فضاء العولمة الرأسماليّة، وأصبح اقتصادها يمثل قوة ضاربة في الاقتصاد العالمي، ويقع تحت تأثير أمراض النظام الرأسمالي، وعلى الرغم من حرص الحكومة الصينية على الإبقاء على دور قوي للدولة في الاقتصاد، يسمح لها بالتدخل لتصويب بعض الاختلالات، إلا أنّ حجم الاستثمار الأجنبي والتجارة الخارجيّة "صادرات وواردات" يضع الاقتصاد الصيني تحت تأثير ارتدادات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، التي ما زالت المراكز الرأسمالية تعاني من تداعياتها، الأمر الذي يشكل خطراً كافياً على مستقبل الصين الاشتراكية لحساب التحالف البيروقراطي الرأسمالي الذي تراكم وتطور بصوره جليه طوال العقود الستة الماضية.

الإطار السياسي والفلسفي لعملية الإصلاح:

انطلقت تجربة الإصلاح الصينية بعد مخاض طويل وعسير عاشته الصين منذ تحررها، وإنجاز أهداف الثورة الصينية السياسية الوطنية وكما أطلق عليها " ماو" الثورة الديمقراطية الجديدة عبر عملية صراع حامية الوطيس بين مدرستين أساسيتين " المدرسة الماوية الاشتراكية العقائدية، ومدرسة زعيم الإصلاح "دينغ" البراغماتية " الاشتراكية" كما قال وأكد رفاقه.

حسُم هذا الصراع والجدال بوفاة القائد الفذ " ماوتسي تونغ" مفكر الثورة الصينية وقائدها العقائدي، وزمنياً بدأت بعد رحيل خليفة الرئيس " ماو" أو سقوطه عام 1978 وإعادة الاعتبار للرئيس "دينغ شياو بينغ" كزعيم للثورة والدولة، وتطهير مراكز القوى اليسارية العقائدية داخل الحزب والسلطة.

وفي ظل جو من العداء المستحكم بين الصين ونظيرها الاتحاد السوفيتي، واستمرار رغبة الغرب وأمريكا بالانفتاح على الصين وتعميق حصار الاتحاد السوفيتي التي بدأت عملياً في عهد الرئيس نيكسون عام 1974، وتسارعت بعد طرح رؤية الصين نظريتها الانفتاح وسقوط تجربة المنظومة الاشتراكية في نهاية العقد التاسع من القرن العشرين.

وفي هذا الجانب نشير إلى أن رؤية " دينغ" للانفتاح غير المحدود على العالم الرأسمالي، تطلبت تغييراً في المقولات والمفاهيم الاشتراكية التي اعتمدتها المدرسة الصينية الماوية، وكذلك المدرسة السوفيتية وغيرها من المدارس والرؤى الماركسية التي لم تُختبر في ميدان تجربة البناء الاشتراكي، وعلى الأقل كما أكد ويؤكد رواد التجربة أنها تمثل القراءة النظرية لتناقضات عملية البناء، وأساليب حلها في ظل التناقضات التي تحكم الكون في هذا العصر، وهو اجتهاد نختلف معه انطلاقاً من التحليل الموضوعي الذي يؤكد على ان الانفتاح غير المحدود على العالم الرأسمالي (خاصة في ظل نظام العولمة الامبريالية) يعبر عن موقف مثالي أقرب إلى اليمين منه إلى اليسار، ولكن على الرغم من ذلك فإن إن رؤية "بينغ" تطال كل البنى والهياكل الاقتصادية والسياسية والثقافية والإدارية والقانونية لمرحلة ما قبل الانفتاح والإصلاح، فهي رؤية "تتطلب التحرير الجزئي للاقتصاد والكلي للعقل" حسب ما رآه " دينغ"، وإن أهم ركائز نجاحها يتوقف على الفعل الصحيح لأهداف الاشتراكية وآليات ووسائل تحقيقها، فالماركسية كما يرى " دينغ" بالغة الأهمية لتغذية القوى المنتجة وتطويرها، وأن تطبيق الاشتراكية يتطلب قوى منتجة عالية التطور وصبغة مادية غامرة، فالمهمة الأساسية للاشتراكية تطوير القوى المنتجة، واستئصال الفقر، فالفقر ليس الاشتراكية ولا الماركسية، مشيراً إلى أن تفوق النظام الرأسمالي يكمن في قدرته على التطوير المضطرد مع القوى المنتجة، وتحسين مستوى الشعب المادي.

وتأسيساً على هذه الرؤية طالب "دينغ" في نهاية السبعينات باعتماد سياسة الانفتاح عبر الانتقال من الاقتصاد الاشتراكي المخطط مركزياً إلى اقتصاد السوق، مؤكداً على أنه بإمكان الصين الاشتراكية أن تطبق اقتصاد السوق، ودلل على ذلك بقوله " السوق موجودة هنا وهناك، وعليه لابد من تطبيق اقتصاد السوق، كما أن الخطط أيضاً موجودة في النظام الرأسمالي، ومن ثم فإن التركيز على عملية التنمية وزيادة ثروات المواطنين الأغنياء سيزودون بدورهم التنمية من خلال السياق الفردي من أجل الثروة والاعتماد على النفس ، كما أن الانفتاح للحصول على الرأسمالية الاستثمارية والتكنولوجيا كفيل أن يفتح نوافذ الصين على العالم، ويدخل الهواء الجديد إليها، لكنه سيكون معرضاً أيضاً –كما يقول "دينغ"- للذباب والحشرات في مجال الاستهلاك والتغريب والاستلاب الثقافي، لكن هذه السلبيات على حد رأيه لا تقارن مع الفوائد".

أما ضوابط الانفتاح ومجاله كما يجملها " دينغ"، فهي التمسك بالسيادة كمسألة بالغة الحساسية بالنسبة للصين، ولا تنطوي على المواجهة مع العالم، بل الاستناد إلى قيم السلام والتنمية وحل المسائل الأخلاقية من خلال الحوار!! وفيما يتعلق بهونج كونج ومكاو وتايوان على وجه الخصوص فقد طرح مقولة " دولة واحدة ونظامان أحدهما اشتراكي والآخر رأسمالي في تايوان".

 وقد استندت السياسة الخارجية للصين في ضوء عملية الإصلاح على الركائز العملية التالية:

1)      هجر سياسة الثورة الدائمة التي رفعتها ثورة أكتوبر الاشتراكية وشكّلت الأساس لمرحلة الحزب الشيوعي الصيني في مرحلة الرئيس " ماوتسي تونغ" أي إلغاء أو تجميد الصراع الطبقي كمحطة محركة لعملية الانتقال من الاشتراكية وطنياً وأممياً.

2)      التركيز على شعار التنمية والسلام ومفاهيم التعاون والشراكة وتوازن المصالح وتبادل المنافع، وتهيئة البيئة السلمية الموائمة لعملية البناء.

3)      ترك قضايا النزاع جانباً ووضعها في المرتبة الرابعة والخامسة واللجوء إلى الحوار من أجل حلها سواء بالغرب أو البيئة المحيطة.

4)      تقديم المزيد من الإغراءات لأمريكا وترك المسائل الأخلاقية جانباً، وغمرها بشعار " عدو عدوي صديقي" والمقصود العداء للاتحاد السوفيتي، والتغلب على حظر أمريكا وخوفها من الصين فقد تأخرت في فتح أسواقها في نهاية الثمانينات مما أعطى الأفضلية لدول أوروبا من ألمانيا وفرنسا وغيرها لاقتسام الكعكة الصينية.

أما فيما يتعلق بسياسته لجبي الرأسمال الضروري لعملية التنمية فقد ارتكزت على ثلاثة اتجاهات:

 أ‌-      تخفيف الأعباء الاجتماعية عن الدوله ورفع الدعم عن السلع، وتقليص الخدمات الاجتماعية، فالعبء حسب وجهة نظره " يجب أن يتحمله كل الشعب وليس الحكومة لوحدها، والانطلاق من فلسفة أن الانفاق من الحكومة يعّود الشعب على الكسل وأن التجربة تحتاج إلى نشاط دؤوب من كل المجتمع الصيني".

  ب‌-    الاستفادة من ارثها الصيني في هونج كونج ومكاوي وتايوان، وحصر مشاعرهم الوطنية حيث نجح بجباية عشرات المليارات بغرض الاستثمار داخل الصين كبداية.

 ت‌-    الانفتاح على الدول الغنية وتقديم الحوافز لشركاتها كما يتطلبه اقتصاد السوق وأسسه في الإنتاج والتجارة.

 ث‌-    مغادرة شعارات الانتماء لمعسكر حركات التحرر الوطني في المحيط ووقف دعمها أو تبني مطالبها مع إبقاء موجة خفيفة لطمأنة دول نامية باعتبار الصين إحداهما.

أما سياسته طويلة الأمد فقد قسمها إلى ثلاثة مراحل:

الأولى: حل مشكلة الغذاء والكساء من 1981 إلى 1990.

الثانية: تحقيق حياة الرغد حتى عام 2000.

الثالثة: الارتقاء إلى مستوى الدول المتقدمة بحلول أواسط القرن الحادي والعشرين.

خطوات الإصلاح التشريعي والقانوني:

ولأجل تطبيق هذه السياسات وإنجاح خططها وتوجيهاتها اتخذ الحزب الشيوعي الصيني بقيادة "دينغ" ووفق رؤيته" العديد من التشريعات والقوانين فبين عامي 1979 و1994 تم سن 150 قانوناً من أجل تصحيح الأمور في مؤسسات الدولة، وأهمها هو قانون إفلاس المؤسسات الحكومية، ويقضي هذا القانون بضرورة أن تتحمل المؤسسات الإنتاجية العامة مسئولية ثبات مبررات وجودها مع إعطائها صلاحياتها كاملة، وتكريس شخصياتها الاعتبارية والحق بتوسيع أعمالها وإدارتها كاملة، وتحمّلها مسئولية الربح والخسارة وتصفية ما لم يثبت جدارتها، وقد أدت هذه السياسة إلى بروز شركات عملاقة مملوكة للقطاع العام تمكنت من تسوية ديونها والانطلاق الفاعل في عملية البناء الاقتصادي، كما تم تصفية عشرات الألوف من الشركات الفاشلة، إلى جانب ذلك اعتبار أموال الدعم الاجتماعي غير منتجة وتشجع على الكسل، وتوظيفها في توفير الرأسمال اللازم للتنمية إلى جانب الرأسمال الخارجي.

ونظراً لأهمية الريف الذي يسكنه 80% من الشعب الصيني، فقد أقر مجلس الدولة خطة الإشارة لاستنهاض الريف وتحديثه وتطويره، وقد تركزت هذه الخطة على جذب الثقافة المتقدمة والمناسبة للريف، وإرشاد وتدريب مئات الملايين من الفلاحين على استخدام الطرق العصرية في تنمية الاقتصاد الريفي، وزيادة إنتاجية العمل، وصولاً إلى تحقيق تنمية مستدامة ومتسارعة، وتشجيع الفلاحين لتغيير أساليب انتاجهم، إلى جانب ذلك سعت الحكومة وعملت على جذب الاستثمارات الأجنبية إلى الريف مع تقديم ميزات إضافية للمستثمرين الأجانب فيه، كما عملت على الإعفاء من الضرائب وحرية الاستيراد  للأجهزة والآليات المتقدمة وحرية تصدير السلع الصينية المنتجة مع حماية المنتجين ودعم الإنتاج الزراعي الوطني وإطلاق برنامج 863 الكتروني عام 1986 المتخصص في ثمانية مجالات: (العلوم الاحيائية، الطيران الفضائية، المعلومات، أشعة الليزر، الطاقة، المواد الجديدة، التكنولوجية البحرية).

في إطار تقييم هذا المشروع بعد عشرين عاماً من إطلاقه، فقد تحقق إنجاز أكثر من 8000 براءة اختراع داخل الصين وخارجها، ووضع أكثر من 1800 معيار تكنولوجيا على مستوى الدولة، وتجاوز عدد العاملين العلميين فيه 150 ألف، كما خصصت الحكومة الصينية نحو 33 مليار يوان صيني لتطوير هذا البرنامج، كما تحقق بفضله سلسلة من الاختراعات في مجال التكنولوجيا الجوهرية، والتعاون الوثيق مع قطاع الصناعة، وأنتجت الصين أنواعاً كثيرة من المنتوجات ذات حقوق الملكية الذاتية في مجالات العلوم الإحيائية، وإنتاج الأدوات وتكنولوجيا المعلومات والمواد الجديدة وغيرها من المجالات التكنولوجية العالية ذات التنافس الدولي الشديد، كان أبرزها جهاز الكمبيوتر "شيركوان" العالي الكفاءة وإعداد مجموعة من الكفاءات بطرق الإبداع التكنولوجية الممتازة، ودعم مباشر لصناعة تكنولوجيا المعلومات، وتحديد الزراعة والأدوات الاحيائية كنقطتي اختراق لهذا المجال، وتركيز الجهود في بحوث المحاصيل الزراعية العالية الإنتاج والممتازة من سلالات الادوية الحديثة واللقاحات والعلاج الجيني وغيرها من العلوم والاكتشافات العلمية في مجال العلوم الالكترونية، والفضاء، والهندسة الوراثية، والفيزياء النووية، والنانو تكنولوجي.... إلخ، علاوة على تطوير الجيش بالمعدات الحربية المتقدمة تكنولوجياً.

الإصلاح في مجال التعليم:

على هذا الصعيد، اتخذت الحكومة الصينية عدة إجراءات وقرارات للاهتمام بالتعليم أهمها:

-       التخلص من سياسات وامتيازات التعليم المجاني في الجامعات، وتحسين أوضاع المعلمين، وإيفاد 1-2 مليون طالب إلى الخارج لتلقي الدراسات المتقدمة، وتحويل المؤسسات الجامعية إلى مؤسسات رابحة تصرف جزءاً من أرباحها على تطوير الدراسات والأبحاث بما يساعد في الحد من هجرة الأدمغة إلى الخارج، وتحويلها بالاتجاه المعاكس، وإنشاء جامعات مستقلة بإدارتها وفتح معاهد وجامعات خاصة مأجورة.

 

السياسة الخارجية في زمن الإصلاح:

وفي مجال إصلاح السياسة الخارجية مرت الصين بثلاث مراحل هي:

الأولى: وتمتد من بداية الإصلاح 1978 حتى نهاية الثمانينات، واتسمت سياستها في هذه المرحلة بالسعي إلى مهادنة الغرب، والابتعاد عن التدخل في القضايا الدولية والصراعات الإقليمية، وتجنب الخلافات مع الدول المجاورة للصين، وقد استطاعت من خلال هذه السياسة أن تحد من عداء الولايات المتحدة القائمة على احتواء الصين وتهديدها عسكرياً، ومد جسور التفاهم مع الغرب واليابان بوجه خاص، وتهدئة الأجواء مع الاتحاد السوفيتي.

الثانية: بدأت مع تسعينات القرن الماضي، حيث سعت الصين إلى الانتقال نحو خطوة مهمة لحل جميع خلافاتها وصراعاتها الحدودية وتطبيع العلاقات مع دول الجوار، واستمرار تهيئة الأجواء الملائمة لسياساتها الإصلاحية. وقد نجحت الصين في احتواء هذه الصراعات وإيجاد حلول للعديد منها، وتكريس الحوار والمنطق السلمي لحل ما تبقى من تناقضات، وبناء علاقات صداقة وتعاون وتوقيع اتفاقية استراتيجية مع روسيا، فضلاً عن التنسيق الكامل للدولتين في مجال السياسة الدولية، وتوقيع اتفاق التعاون الاقتصادي مع الهند، واحتواء منظمة "آسيان" منظمة دول جنوب شرق آسيا وأصبحت عضواً فاعلاً ومهماً فيها، فضلاً عن فيتنام وغيرها من الدول.

الثالثة: وهي مستمرة، تقوم على أساس تحسين العلاقات مع دول العالم كله، بما في ذلك دولة العدو "إسرائيل" ، على طريق سعي الصين لتعزيز دورها على الصعيد الدولي، دون أن تتخلى عن تأييدها المبدأي في دعم الحقوق الفلسطينية في تقرير المصير والدولة المستقلة على الأراض المحتلة 1967 وعاصمتها القدس .

وكتقييم أولي لهذه السياسة فقد نجح " دينغ" في تهيئة المناخات السياسية الضرورية لمشروعه التنموي ومد جسور علاقاته الدولية مع كل الدول الغنية والمتقدمة كأساس، مع تقليص علاقاته مع دول العالم النامي، وما كان يُسمى بمعسكر حركات التحرر الوطني ومن ضمنها حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وإن أبقت على عضويتها في منظمة دول عالم الانحياز، التي ساهمت في تدشينها وانشاءها لمواجهة الاستعمار في وقت سابق. وهذه علامة غير مريحة في السياسة الخارجية الصينية على الأقل حتى الآن.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد لاقت سياسة الصين ارتياحاً دولياً شاملاً من زاويتين متعارضتين: الأولى اعتقاد دول الغرب أن محاولات الإصلاح الداخلية سيدفع الأوضاع في الصين إلى المصير الذي لحق بالاتحاد السوفيتي، وبالتالي انهيار الدولة والحزب مراهنة على إفرازات سياسة السوق الاقتصادي التي ستؤدي حتماً إلى ولادة نظام سياسي جديد ورأسمالي.

أما الزاوية الثانية فقد "عززت" آمال دول العالم النامي التي رأت في النهوض الصيني النوعي في كل المجالات نموذجاً من شأنه كسر الهيمنة الامبريالية على العالم، ومساعدتها في النهوض بأوضاعها، وتحريرها من نظام الإلحاق السياسي والاقتصادي والثقافي على طريق نهوضها واستقلالها وتطويرها، فتحقيق معدل للتنمية يلامس 10% سنوياً يبعث الأمل بأن تلحق هذه الدول بركب الصين.

نظرية اقتصاد السوق الاشتراكي:

استخلص الزعيم " دينغ شياو بينج " ومن خلفه الحزب الشيوعي العبر من أحداث الحراك الطلابي وأحداث ميدان " تيانانمن" وتعاطف عدد من القيادات الحزبية مع المحتجين، أما أوضاع الحزب الشيوعي الداخلية فهي ليست على ما يرام، وأن معارضة الطلاب تحديداً تعني أن جزءاً مهماً من الشباب ليس مع سياسة الحزب مع ما يمثله الشباب من رافعة مهمة في إنجاح سياسته، وغياب الوحدة الفكرية في الحزب.

مجمل ما سبق دفعه لمواجهة الثغرات الفكرية، وإعادة صياغة نظريته الإصلاحية بشكل واضح، ووضعها قيد الدراسة المعمقة ونقلها إلى الممارسة، وعليه عمل على دفع المؤتمر الرابع عشر للحزب الذي عُقد في أكتوبر عام 1992 لتبني نظرية اقتصاد السوق الاشتراكية، وحدد المؤتمر مضمون هذه الخطة والرؤية الاقتصادية على النحو التالي:

مع الحفاظ على السيطرة الحكومية الكلية على العمليات الاقتصادية، فإن الأنشطة الاقتصادية والتجارية يجب أن تخضع لقانون القيمة وتستجيب للتغيرات التي يفرضها قانون العرض والطلب في السوق، وأشارت القرارات إلى أن السوق هو الذي يتحكم في تحديد الأسعار، فمن الضروري أن تكون هناك منافسة في السوق لحفز المؤسسات الإنتاجية على مزيد من النشاط والحيوية يؤدي إلى ازدهار هيئاتها الناجحة وتطويرها في الوقت نفسه، وبالتالي فإن اعتماد آلية السوق ستقود إلى تصفية المؤسسات الفاشلة والخاسرة، والتي تشكّل عبئاً على الاقتصاد الوطني حتى لو كانت ملكاً للقطاع العام.

وعلى هذا الأساس باتت الصين أمام شكل جديد للملكية في الصين وهي الشركات المساهمة التي تتوزع حصصها بين شركات القطاع العام والخاص، حيث هدفت الحكومة من خلال قرار الشركات أن يتحمل المساهمون كامل المسئولية عن الشركة وفقاً لنسبة استثمار كل منها، بينما تتحمّل الشركة ديونها بالكامل.

وإضافة لذلك التفصيل في بعض الشروط والقوانين واستثارة النزعات القيمية كالشفافية والنزاهة والتمسك بالأخلاق التي يفرضها الواجب، والابتعاد عن الفشل والتزوير وسرقات ماركات الإنتاج أو اللجوء للرشوة...الخ.

أما القانون الثالث الذي أقرته السلطات الصينية كان قانون حماية الحقوق المشروعة للمستهلكين وقانون جودة المنتج وينص القانون على " أن يتحمل المنتجون مسئولية جودة المنتجات وأن يتحمل الباعة مسئولية الإصلاح وتبديل وإعادة السلع المباعة والتي لا تحمل المواصفات المحددة المكتوبة على صناديق التغليف، وأن يعوضوا المشتري عن خسائره كما ينبغي على الباعة تعويض المشترين عن الأضرار التي تلحق بهم  اثر وجود عيوب ناتجة عن أخطاء"، وبالتالي فإن المستهلك يتمتع عند شراء السلع بالحقوق التالية:

-       الحماية من الأضرار بالبدن والممتلكات والحق في الحصول على المعلومات الصحيحة حول الحرية في الاختيار، وإبرام الصفقات المتكافئة والعادلة، والحق في التعويض عن الخسارة التي تلحق به.

والقانون المكمل والهام الآخر كان قانون " التجارة الخارجية" وأهم ما جاء فيه:

  1. تزاول الدولة نظاماً موحداً للتجارة الخارجية تكون فيها هذه التجارة عادلة وحرة وقانونية.
  2. تضمن الدولة مزاولة التجارة الخارجية وتخصص اعتمادات مالية لتطويرها بشكل نزيه وغير منحاز.
  3. تتحمل الدولية مسئولية إنشاء هيئات لخدمة الإدارة الخارجية.
  4. تخصص اعتمادات مالية لتطوير هذه التجارة، وأموالاً أخرى للمخاطر.
  5. تقدم ائتمانات للاستيراد والتصدير أو تعيد رسوماً معينة في تجارة الصادرات، كما طالبت المؤسسات التي تمارس التجارة الالتزام بالمهنية والنزاهة والشفافية في ممارسة أعمالها.

 في نفس الوقت تم إجراء تعديلات على الدستور الصيني في تقديم ضمانات لأشكال الملكية في الاقتصاد الصيني تحدد الدور القيادي للدولة في حماية الحقوق والمصالح المشروعة للتنظيمات الاقتصادية الجماعية والمصالح المشروعة للاقتصاد الفردي، وتحمي الحقوق والمصالح المشروعة للاقتصاد الخاص وتمارس التوجيه والمراقبة والإدارة له، إضافة إلى قواعد لضبط الإعلانات التجارية والتزاماتها بالمواصفات وعدم الانخراط في منافسات غير شريفة

نظرية التمثلات الثلاث:

بوفاة الرئيس " دينج" عام 1997، عاشت تجربة التحولات الاقتصادية مخاضاً صعباً على مدار أكثر من عشرين عاماً من انطلاقها، وقرابة عشر سنوات على انطلاق نظرية السوق الاشتراكي التي حاولت معالجة الكثير من الأمراض التي أفرزتها عملية الانفتاح الاقتصادي على دول الغرب الرأسمالي واعتماد اقتصاد السوق كأساس لتحريك عجلات الاقتصاد الصيني ، في ظل ظروف مواتية عملت على تهيئة الصين على المستويين الداخلي والخارجي من اتخاذ شعار " الانفتاح والتنمية السلمية التي أطلقها الحزب الشيوعي وفق رؤية "دينغ" وإسقاطه لمقولة الصراع الطبقي في سياساته الداخلية والخارجية، وفي ظل رغبة الغرب الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتحدة في محاصرة الاتحاد السوفيتي من بوابة الصين، وانفتاح شهية شركات احتكارية دولية لغرف الثروات من سوق الصين العظيم.

إن مجمل هذه العوامل الذاتية والموضوعية، أعطت دفعة لانفتاح الصين على العالم وتشجيع الشركات الرأسمالية للاستثمار في هذا السوق الذي يحتاج كل شيء في الوقت الذي أتاح اقتصاد السوق فرصاً نوعية لتقدم الاقتصاد الصيني، لإدراك الرئيس " دينج" للطبيعة المزدوجة لاقتصاد السوق على حد تعبير محمد خيري الوادي في كتابه "الصين من التطرف إلى الاعتدال"، ذلك إن تحفيز دينامية وتسريع وتيرة النمو الاقتصادي هو أحد أوجه اقتصاد السوق.

أما الوجه الآخر والمرتبط بالسمة العفوية والفوضوية اللتان تحكمان عملية الاقتصاد واتجاه سيره فإنه من شأن هذه السمة إنتاج كل الأمراض والأزمات التي عاشتها وتعيشها الرأسمالية كنظام اجتماعي، وعليه فإن إطلاق نظرية السوق الاشتراكية كانت من وجهة نظر " دينغ" استجابة للتحديات والظواهر السلبية التي أفرزتها تجربة الانفتاح بعد عشر سنوات، واستهدفت تمتين النظام السياسي الصيني وإحكام قبضة الحزب الشيوعي الصيني الذي يراهن عليه لإنجاح وحماية هذه التجربة، وتعزيز جماهيريته وضمان التفاف الشعب حول سياسته الاقتصادية.

لقد نجحت نظرية " دينغ" وما ارتبط بها من إجراءات وتشريعات في إعادة الاعتبار لوحدة الحزب الداخلية، وتطوير أداؤه والحد من استفحال أمراض النمو الرأسمالي الموضوعية، ولكنها كما يشير "دينغ" كمنظر ماركسي سابق، "ان هذه الامراض بطبيعتها الموضوعية المستمدة من الرأسمالية لا تزول سوى بإزالة هذا النظام، فإفرازات النظام الرأسمالي لا تقتصر على أمراض التفاوت في الثروة والفساد والمضاربة في السوق وتهريب الأموال وغيرها، بل أيضاً توجد المناخ المواتي لنشاط كل القوى التي تقف على يمين التجربة المدعومة من قبل النظام الرأسمالي وبشكل خاص الامبريالية الأمريكية، فأمريكا لم تفقد أملها في تغيير النظام الصيني، كما لا يسعدها أن يضاف إلى نادي الدول الرأسمالية لاعب قوي كالصين يقف على رأسها حزب شيوعي مسلح بأدوات التحليل الماركسي يعلن انحيازه للخيار الاشتراكي، ومظاهرة الطلاب لم تكن سوى البروفة فقد تبع ذلك نشوء حركة " الفالينج كونج" في نهاية التسعينيات من القرن الماضي التي شكّلت تحدياً جدياً للنظام الشيوعي، نمت وتغذت من الأمراض التي أنتجها النظام الاقتصادي الصيني، ولم تخفِ أمريكا دعمها لهذه الحركة التي ارتدت قناعاً بوذياً وتبنت الدعوة لإسقاط النظام السياسي لاستئصال هذه الأمراض، فضلاً عن رفعها لشعارات الديمقراطية وحقوق الانسان، ومكافحة الفساد وإنشاءها لشبكة من الخدمات الاجتماعية لتدعيم وجودها وتحشيد الفئات والطبقات المتضررة من سياسات الانفتاح.

وبعد رحيل رائد التجربة الصينية الزعيم " دينغ" تسلم الرئيس " زيانج زيمين" دفة قيادة الصين وشأن سلطة " دينغ" قدّم رؤيته النظرية لمعالجة تناقض مرحلة التحوّل واستكمال محاولة " دينغ" في التغلب على التحديات التي طرحها واقع التجربة وتناقضاتها، وتعزيز الدور القيادي للحزب وتوسيع جماهيريته وتوحيده تنظيمياً وفكرياً طرح الزعيم "زيمين" رؤيته لإغناء المسيرة وتطويرها واستثمار الاحتفال بالذكرى الثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي في أواخر حزيران عام 2001 حدد فيها المهمات الجديدة للحزب الشيوعي الصيني في القرن الجديد وهي ثلاثة:

  1. 1.    مواصلة برنامج التحديث.
  2. 2.    إنجاز توحيد الصين.
  3. 3.    صيانة السلم العالمي.

 ويرى " زيمين" أن تحقيق هذه المهمات لا يمكن أن يتم إلا من خلال إنجاز ثلاث مقولات تلخص نظرية التمثلات الثلاث وهي:

أولاً: " على الحزب الشيوعي أن يصبح ممثلاً للقوى التقدمية في الصين وغيرها ممن يمثلها في الطبقة العاملة، ومن الضروري جعل نظرية الحزب وبرامجه وسياسته منسجمة مع القانون الذي يحكم القوى المنتجة، ويفتح المجال لتطويرها، ورسم اتجاه حل التناقضات بين علاقات الإنتاج وبين القوى المنتجة من جهة،  وحل التناقض بين البناء التحتي ممثل بعلاقات الإنتاج والبناء الفوقي للنظام السياسي الاقتصادي الجديد، من جهة ثانية.

فالانفتاح على القوى المنتجة يعني لدى " زيمين" استيعاب كل الفئات الجديدة التي بدت منتجة بما فيها القوى المنتجة من القطاع الخاص والأثرياء الذين يمارسون أنشطة إنتاجية.

وبذلك يمكن تحسين مستويات الشعب المعيشية. ويطرح " زيمين" مقولته " لقد فتح تأسيس النظام الاشتراكي وتحسينه المستمر طريقاً فسيحاً لتطوير القوى المنتجة، وعلى جميع العلاقات الاجتماعية، والبناء الفوقي ينبغي أن تنمو مع تطور القوى المنتجة، وأن المهمة الأساسية للاشتراكية هي تطوير القوى المنتجة وتعزيز القوى الشاملة في الصين وتحسين معيشة الشعب، وبهذا الأسلوب يظهر استمرار تفوق الاشتراكية على الرأسمالية. إن المجتمع الإنساني هو عملية تاريخية للقوى المنتجة المتقدمة التي تحل مكان القوى المنتجة المتخلفة.

ثانياً: مقولة " التمثل الثاني" كما طرحها " زيمين" " أن الحزب الشيوعي الصيني ينبغي أن يمثل إلى الأبد الثقافة التقدمية الصينية.

في هذا المجال ينبغي عدم الاقتصار على بناء الحضارة المادية، وإنما التركيز بذلك على حفز بناء الحضارة الروحية للاشتراكية.

ويوضح " زيمين" ذلك بقوله " ينبغي تطوير ثقافة اشتراكية صحية وتقدمية وغنية وزاهية الألوان وذات خصائص وأساليب صينية لمواجهة متطلبات الشعب الروحية والثقافة المتزايدة، وتوجيه الشعب عن التزود عقلياً بأفكار صحيحة. ويسترسل في التركيز على القيم والأخلاق الاشتراكية، محذراً في سياق خطابه  الدعوات لنبذ الكونفوشية، ومن الاغتناء وجمع الثروة، فعلى حد تعبيره فإن عبادة المال أمر خطير والمهم التمسك بالأخلاق.

ثالثاً: مقولة التمثل الثالث التي أطلقها " زيمين" هي " أن يتخذ الحزب الشيوعي الصيني مصالح الشعب الصيني كنقطة انطلاق، والهدف أن يساعد الشعب على الحصول المتواصل على منافع اقتصادية وسياسية وثقافية ملموسة، وينبغي المحافظة دائماً على علاقات الدم واللحم للحزب والشعب، وهذا يعني التمسك دائماً بأن مصلحة الشعب فوق أي اعتبار، وأن تمثل قيادة الحزب القدوة الحسنة للشعب، وألا يسئ استخدام السلطة لمغانم شخصية،

وفي رأينا ، ان هذه المقولة (التمثل الثالث) تحمل في طياتها موقفاً أو رؤية مثالية ذات مضمون يميني خاصة حينما يقول " ينبغي على كوادر الحزب أن يعالجوا بشكل صحيح العلاقات بين الذين حققوا رخاءً مبكراً أو متأخراً وبين الازدهار الفردي العام.

على أي حال، إننا نتفق مع "محمد الوادي" في تحليله لنظرية التمثلات الثلاث بقوله " أن الحزب الشيوعي وفقاً لهذه النظرية لم يعد يسع لإقامة دكتاتورية بروليتاريا وإنما تجسيداً لرغبات وأهداف القوى المنتجة بما فيها أصحاب الشركات في القطاع الخاص، وأيضاً فإن الحزب الشيوعي بات منفتحاً على الثقافة الصينية القديمة بما فيها الكونفوشية التي حاربها ماو كجزء من الثقافة التقدمية التي ينبغي أن يحملها الحزب ويعبر عنها بالمعنى الماركسي الطبقي، لكن المتغيرات منذ "دينغ شياو بينغ" وصولاً إلى الرئيس "زيمين" تخلت عن البعد الطبقي لحساب الامة الصينية حيث تم تكريس شعار ان "الحزب الشيوعي الصيني"، بات ممثلاً للأمة الصينية من كل فئاتها وطبقاتها وليس ممثلاً لطبقة اجتماعية بعينها"([3]).

كما أن "محاولة الحزب الشيوعي الصيني لاستعادة التطورات التي حدثت في الصين عقب سياسة الانفتاح والإصلاح، أقلمت عقيدة الحزب مع الواقع الجديد، إلى جانب تطويق الطفيليات التي بدأت تنمو في تربة الإصلاح وتدخل مع رياح الانفتاح، لكن هذه النظرية أخفقت في معالجة وسائل التفاوت في الدخل والحد من انتشار الفساد، وحث المسئولين لأن يكونوا قدوة في السلوك المستقيم([4]).

إننا نتفق مع الكاتب محمد الوادي في استنتاجه بان "التركيز على الجانب الاقتصادي قد أضعف الاهتمام بجبهة العمل الفكري التربوي في صفوف الناس، وأدى إلى تراجع الدور القيادي للحزب الشيوعي الصيني في المجال العقائدي، مما أدى إلى انتشار القيم الاستهلاكية الغربية في المجتمع الصيني، وتراجع قيم العمل وحل مكانها السعي المحموم للإثراء ومحاكاة نمط الحياة الغربية، وما يرتبط بها من هبوط المعايير النضالية وزيادة السباق نحو الجاه والسلطان واحتلال المناصب([5]) .

وقد أسست هذه المرحلة بكل تداعياتها وإفرازاتها الضارة لدفع الرئيس " هون جين تاو" الذي خلف الرئيس " زيمين" عام 2002 إلى طرح نظرية " المجتمع المتناغم" لكن قبل البحث لتناول نظرية المجتمع الاشتراكي المتناغم لابد من الإشارة إلى بعض الملاحظات الأولوية على نظرية اقتصاد السوق الاشتراكي ونظرية التمثيلات الثلاث للرئيس.

ملاحظات أولية حول نظرية اقتصاد السوق الاشتراكي:

لاشك أن الرئيس "دينغ" أدرك بعمق ماهية اقتصاد السوق الرأسمالي وقوته الديناميكية وقوة فعل قوانينه، كما كان مدركاً للتناقض الجوهري بين الرأسمالية والاشتراكية كنظامين مختلفين، وأن الاشتراكية تشكّل تاريخياً نفياً للرأسمالية والحل الموضوعي لتناقضاتها الداخلية على المستويين القومي والأممي.

كما كان مدركاً أيضاً بأن تدخل الدولة واشرافها على العمليات الاقتصادية وفقاً لنظريته، التي جمعت المنظور الاشتراكي والمنظور الرأسمالي في بوتقه واحده تحت مظلة الحزب الشيوعي الصيني، لا تقود إلى تغيير جوهر النظام الاشتراكي الصيني، ولم يراها كذلك صاحبهاً بل يمكن أن تحد أو تقلل من مدى الأزمات الناجمة عن الانفتاح الرأسمالي والتخفيف من آثارها . وإن هدف الاشتراكية حل التناقض الأساسي الذي يحكم مسار الرأسمالية  ويتسع مع نموها أي التناقض بين الطابع الاجتماعي للعمل الذي يتسع بلا حدود مع الطابع الفردي لملكيته ووسائل الإنتاج الذي يتمظهر بالطابع الحاد بين البروليتاريا والبرجوازية، وأن التعايش المطلق مع هذا التناقض غير ممكن ومنافي لمنطق ديالكتيك الحركة الاجتماعية والقوانين التي تحكمها.

ولكن "دينغ" ومن خلفه قيادات الحزب والدولة لم يطرحوا ولم يحسموا بشكل تقريري هذه المسألة، وأشاروا –وفق منطق تجريبي مثالي واهم- بأن الانفتاح وقوانين السوق يأتي في إطار مرحلة انتقالية لها حدودها ومداها الزمني، وأن التعايش بين أشكال الملكية العامة والخاصة الوطنية والعالمية طابعها مؤقت، وأن هذا التناقض سيزول لدى توفير المقدمات الضرورية والقاعدة المادية الديالكتيكية للاشتراكية، وحسمها كخيار تاريخي للبناء التاريخي والاجتماعي، الأمر الذي لم يتحقق لحساب تطور الاشتراكية بل على العكس عزز آليات نمو الرأسمالية، لأن آثار عملية الإصلاح وتطورها اللاحق  دللا بوضوح على ترسيخ القطاع الخاص واتساع الفجوات وشكل مرضاً مزمناً مصاحبا للنمو الرأسمالي، وهذا ما أشار إليه أحد الخبراء الصينيين بقوله " إن الصين تحوّلت من أكثر دولة تحققت فيها العدالة الاجتماعية في العالم، إلى أكثر دولة تتسع فيها الفجوات بين الأغنياء والفقراء". وكما أوضح لينين لدى طرحه خطته الاقتصادية الجديدة" النيب" المؤسسة على نظرية تعايش الأنماط المختلفة للإنتاج وأشكال الملكية المختلفة في إطار المرحلة  الانتقالية الضرورية لبناء القاعدة المتينة التكتيكية للانتقال للاشتراكية، أوضح أيضاً أنه من الطبيعي أن يبقى فعل قانون القيمة وهيمنة قانون الطلب والعرض لفترة من الزمن، لكنه سيضمحل بالتدريج كلما قطعنا شوطاً على طريق تحقيق الاشتراكية. وهذا أوضحه " ماركس" في كتابه (رأس المال) .

فكما أوضح " ماركس" فإن قانون القيمة ملازم للإنتاج وللمراحل التي مر فيها ويعلو شأنه في إنتاج النظام الرأسمالي، وعليه فإن نظرية اقتصاد السوق الاشتراكي تنطوي على تناقض مبدأي ما دام اقتصاد السوق الرأسمالي وقوانينه ظلت المحرك الرئيسي لكل العمليات الاقتصادية في قطاعين العام والخاص على حد سواء، فهي في أحسن الأحوال نظرية رأسمالية بغلاف اشتراكي لها طابعها وخصائصها الملموسة.

فالتحول الاشتراكي كما شأن التطور الاجتماعي عموماً يحكمها الصراع الطبقي وهو محرك التاريخ، أما التعايش أو التوازن والوحدة بين الطبقات والتناقضات بشكل عام مؤقتة سرعان ما يؤدي الصراع الطبقي في إطار اختلال التوازن بين الأضداد أو القديم والجديد الحاسم إما بانتصار القديم أو الجديد، والمنطق الديالكتيكي يقطع بانتصار الجديد على القديم، فالأساس هو صراع الأضداد وليس وحدتها.

وإذا استطاعت نظرية اقتصاد السوق الاشتراكي إعادة الاعتبار لمصالح البرجوازية فإن إعادتها إلى القمقم التي خرجت منه لن تكون عملية سهلة ربما غير ممكنة عبر سياسة الوفاق الوطني التي ينتهجها الحزب الشيوعي الصيني وقيادته.

وما ينبغي التأكيد عليه أن البحث عن مخرج واقعي لتنمية وانتهاج هذا الخيار كمفتاح لحل إشكالياتها استدخل معه مشكلات وتناقضات أكثر عمقاً، والصين كما يعتقد الكثيرون من الخبراء لم تكن بحاجة لهذا الاختبار غير المضمون حين تلجأ إلى تحقيق الازدهار ومعدلات النمو المرتفعة لا تكفي وحدها لتحقيق العدالة والمساواة، الأمر الذي أدركته القيادة الصينية وصرحت به، ومن يقارن وضع الصين قبل انتصار الثورة بأوضاعها بعد ذلك يشهد أن الصين أحدثت نقلة نوعية وقفزات غير مسبوقة في معدلات نموها رغم تخلفها التقني النسبي، فهل كانت الصين مضطرة لانتهاج هذه السياسة أم أن رواد التجربة وعلى رأسهم الزعيم " دينغ" كان حاسماً منذ إطلاقه مقولة " الفئران" بأفضلية الرأسمالية على الاشتراكية، رغم إجابته بالنفي القاطع قبل إعادة الاعتبار له وحتى وفاته. هذا ما ستحاول هذه المقالة الإجابة عليه لاحقاً.

أما نظرية التمثلات الثلاث فقد جاءت لمعالجة الآثار المترتبة على الانفتاح، واعتماد نظرية اقتصاد السوق الاشتراكي، مع إضافة أنها عمقت الشك والتساؤلات حول مسار الصين لاحقاً، في ظل مخاطر انتعاش دور القطاع الخاص ضمن نظام رأسمالية الدولة والاثار السلبية الناجمة عن ذلك.

إضافة لهذه الملاحظات فإن نظرية التمثلات الثلاث جاءت مكملة ومدعمة لنظرية اقتصاد السوق الاشتراكي وخطت خطوات في هذا الاتجاه حيث أنها:

1)    عومّت عضوية الحزب الشيوعي واعتباره ممثلاً لجميع القوى المنتجة بما في ذلك أصحاب الشركات والأغنياء. ويتضمن تغييراً جوهرياً في الرؤية الشيوعية لنظرية الحزب، وطمساً قصرياً لمقولة الصراع الطبقي كعملية موضوعية لوجود الطبقات في الواقع الاجتماعي.

وسؤالنا هنا، إذا كان التعارض بين العمال والفلاحين يمكن حله سلمياً وعبر التطور الاقتصادي للمجتمع الاشتراكي، وحل التناقض الكامن بين المدينة والريف فإن حل التناقض بين الطبقة العاملة والبرجوازية ومصالحها المتباينة والمتعاكسة لا يتحقق إلا بزوال الأساس المادي لنشوئها، وإذا كانت علاقات الإنتاج الاشتراكي لديها القابلية لفسح أوسع مجال لتطور القوى المنتجة فلماذا تحتاج القوى المنتجة الاشتراكية إلى تغيير أو تهجين لمرحلة انتقالية تفرضها ضرورات بناء القاعدة المادية التكتيكية للبناء الاشتراكي والحاجة للحصول على التكنولوجيا من القط الأسود" فهل تحتاج هذه الضرورة إلى تغيير شروط العضوية في الحزب والقول أن الحزب الشيوعي الصيني يجب أن يصبح مرجع لكل عناصر القوى المنتجة التقدمية، وبالتالي كيف ستكون عملية الصراع الموضوعي والطبقة البرجوازية الصينية المستحدثة لتحويل الطبقة العاملة إلى برجوازية وأصحاب شركات وطغم مالية.

2)            ان اعلان الحزب الشيوعي الصين أنه يمثل الثقافة التقدمية الصينية في ظل الانفتاح واقتصاد السوق لا يتعارض مع منهج الماركسية العلمية، وقانون النفي الديالكتيكي، هو اعلان يجسد موقفاً ملتبساً ومثالياً أو ديماغوجي، إذ كيف يمكن انسجام هذا الموقف مع الرؤية الماركسية التي لا تقبل الجمع بين النقيضين (الاشتراكية والرأسمالية) كما أن اعلان الحزب الشيوعي الصيني تعويم عضوية الحزب  لتشمل الشرائح الطبقية الرأسمالية الجديدة يعيدنا إلى "لينين" في الحديث عن الثقافة الاشتراكية بمضمونها الإنساني التقدمي، وليس عن الثقافة الجديدة التي دخلت مع هواء الانفتاح وما جلبه من حشرات وذباب، وبالتالي فإن السؤال هنا هل نحن مع الثقافة الاشتراكية الجماعية التي تكرس قيم الاشتراكية بالمساواة والعدالة الاجتماعية أم ثقافة الاستهلاك التي استدخلت كل ما هو سيئ في الثقافة الرأسمالية وعادتها وقيمها؟ وهل نسي الرفاق الصينيين مقولة الرفيق لينين عن الأمة في المجتمع الطبقي، حيث أكد أن في كل أمة أمتان (رأسمالية وكادحة) وثقافتان متباينتان من حيث الجوهر والمصالح والقيم".

 أليست البنية الفوقية التي تشكّل الثقافة هي انعكاس للبناء التحتي؟ ألا يدركون ان البناء التحتي الذي تمثله علاقات الإنتاج الراهنة قد هجنت الصين بعد سياسة الانفتاح وأصبحت متناقضة غير منسجمة، أم أن الدعوات الأخلاقية النبيلة واستثارة النزعة القومية الصينية كافيان لتحقيق الانصهار الوجداني والثقافي والأخلاقي والإنساني بين طبقات الشعب الصيني المتعارض في مصالحها وأهدافها رغم وعي الرفاق في الحزب الشيوعي الصيني أن المنطق الماركسي يقول عكس ذلك.

3)    التمثل الثالث لا اعتراض عليه، فالحزب في المجتمع الاشتراكي يجب أن يمثل مصالح الشعب كله، بدون ان يعني ذلك تمثيل كافة الطبقات،  فهل أصبح الحزب الشيوعي الصيني حزباً لكل الشعب ولكل الطبقات؟ وتحوّل من سلاح لنضال البروليتاريا الطبقي وأصبحت وظيفة كادراته أن تعالج بشكل صحيح العلاقات بين الذين حققوا رخاءً مبكراً أو متأخراً وبين الازدهار الفردي والعام.

  وفي هذا السياق، من المفيد التذكير بموقف الحزب الشيوعي الصيني الذي أقام الدنيا ولم يقعدها عندما أعلن " خريتشوف" في المؤتمر العشرين للحزب، أن الحزب الشيوعي السوفيتي أصبح حزباً للشعب بأسره، علماً بأن الشوط المقطوع على صعيد البناء الاشتراكي كان متقدماً والطبقات بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي لم يكن لها وجود، وشكّلت هذه المسألة أحد أهم نقاط الخلاف بين الحزبين، فأن يعبّر الحزب الشيوعي بأنه ممثلاً للشعب ومدافعاً عن مصالحه فهذا تعبير عن دوره القيادي، لكن أن يضم في صفوفه أقطاب العمل وطواغيت رأس المال الصيني الجديد ويعلن أنه ممثلاً للشعب فهذا أمر آخر، وأن تكون وظيفته المواءمة بين الطبقات التي تحولت إلى فئات في لغة هذه النظرية، فهذا أمر مستغرب، وتذكرنا هذه النظرية والخطاب الأخلاقي للحزب بدعوات الاشتراكيين الخياليين في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع التماس العذر لسان سيمون وروبرت أوين وشارل فوربيه، ولكن أي عذر ممكن أن نلتمسه لقيادة الحزب الشيوعي الذين تخرجوا من مدرسة ماو الذي كان أفضل من كتب عن موضوع التناقض.

نظرية المجتمع الاشتراكي المتناغم:

أدرك الرئيس " هوجين تاو" منذ استلامه مقاليد السلطة عام 2002 حجم المخاطر المحدقة بالمجتمع الصيني، وهبوط الدور القيادي للحزب الشيوعي الصيني، بسبب السياسة الاقتصادية الجديدة المستندة إلى مفاهيم وقوانين اقتصاد السوق، وأدت لارتدادات كارثية على المجتمع الصيني، رغم ما أنجزته من تقدم نوعي أدى إلى تسريع وتائر النمو ورفع درجاته.

وعلى الفور باشر باتخاذ الإجراءات وإعداد الخطط لمعالجة التناقضات الرئيسة التي أفرزتها سياسة الإصلاح والانفتاح التي من شأنها الحفاظ على خلق الحوافز وتوفير البيئة لتأمين نمو مضطرد في الاقتصاد الصيني لا يقل عن 10% سنوياً والحد قدر الإمكان من تأثير الظواهر السلبية التي بدأت بالظهور على سطح المجتمع ودرء أخطار توسعها وتعمقها وتحولها إلى وباء عام يهدد حاضر النظام السياسي ومستقبله.

وفي إطار هذه السياسة حدد التناقضات الرئيسية التي تحكم الواقع الصيني وتحتاج إلى علاج وحلول علمية وواقعية التي أسماها ب"الهوات" الثلاث على النحو التالي:

أولاً: اتساع الهوة بين الأغنياء الجدد وبقية أفراد المجتمع الصيني.

ثانياً: اتساع الهوة بين المناطق الفقيرة والغنية.

ثالثاً: اتساع الهوة بين الريف والمدينة.

تأسيساً على هذه القراءة قدّم رؤيته لبناء المجتمع الاشتراكي المتناغم وفضل طرحها باسم الحزب خلافاً لسلفه " بينيغ" وفي أكتوبر تشرين أول عام 2006 استدعى اللجنة المركزية للحزب لإقرار رؤية المجتمع الاشتراكي المتناغم وقد جاءت هذه الرؤية كنتاج لعملية مسح ودراسة أجراها الخبراء وذوي الاختصاص قبل سنتين من إقرارها.

وقد أقرت اللجنة المركزية للحزب التوجه الجديد للبدء في بناء المجتمع الاشتراكي المتناغم، وقد جاء في القرار: "إن التناغم الاجتماعي يعتبر طبيعة متأصلة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وضمانة هامة لرخاء البلاد وتجديد شباب الأمة  وتحقيق السعادة للشعب، وإن بناء مجتمع متناغم عبارة عن مهمة استراتيجية حددها الحزب الشيوعي يهتدي من الماركسية اللينيية وفكرة ماوتسي تونغ إلى نظرية دينغ والفكر الهام للتمثلات الثلاث، والتنفيذ العلمي للتنمية، وإن بناء مجتمع اشتراكي  متناغم هو المطلب الجوهر لبناء بلد اشتراكي حديث مزدهر قوي ديمقراطي متحضر ومتناغم ويجسد الطموح المشترك للحزب بأكمله والشعب بكافة مجموعاته العرقية.

وإننا إذ نتفق مع مضمون قرار اللجنة المركزية، نسأل مجدداً، هل تستطيع كل القواعد اللينيينية في بناء الحزب وإدارته بالوسائل العصرية والقيم الأخلاقية العالية أن تحقق الانسجام داخل الحزب الشيوعي بعد فتح عضويته لأرباب العمل والأثرياء والمصالح المتعارضة؟

وجوابنا على ذلك يتحدد فيما يلي:

من حيث الجوهر بين هذه الطبقات غير المنسجمة بطبيعة العلاقات التي تحكمها لن تحقق الانسجام داخل الحزب، وبالتالي المجتمع. صحيح أن المجتمع في مرحلة محددة تاريخية يمكن أن تمثل مصالح أكثر من طبقة وقد ينسحب الأمر على الحكومات، خاصة إذا كان الحديث يدور من مرحلة انتقالية ضرورية لتوفير القاعدة المادية التكنيكية بالانتقال للمجتمع الاشتراكي، لكن التاريخ لم يطرح ولا تجارب الأحزاب الشيوعية ممكنة التقاطع الجوهري بين مصالح المستثمِر والمستثَمر، المضطِهد والمضطَد.

المسألة الأخيرة التي تسير التساؤل والاستغراب في قرار اللجنة المركزية للحزب هو الحديث عن الانتقال في عملية التوزيع من قانون التوزيع حسب العمل للتوزيع حسب الحاجة، فهل حقاً يستطيع الاقتصاد الصيني الذي تحركه قوانين السوق تحقيق هذه المقولة؟ فإذا كانت القيمة الفردية لوسائل الإنتاج المشرعنة، كذلك السعي لجمع وتكديس الثروة، فعند أي حاجة يمكن أن تحدث؟، فهل التفاوت في الثروة واتساع هذا التفاوت يمكنه أن يوجد معياراً موحداً لقياس حاجات الناس؟ وتحقيق المساواة الفعلية.

 ومن أجل إنصاف الحزب الشيوعي في جديته وترجمته شعاراته ودعواته إلى أفعال لابد من الحديث عن الخطة الخماسية الحادية عشر التي أقرها البرلمان الصيني عام 2006 بالتوازي مع إقرار نظرية المجتمع الاشتراكي المتناغم. هذه الخطة التي ركزت على أهمية الاهتمام بالريف معللة بالأسباب التي دفعت لإقرارها وأهميتها في عملية التنمية التي أوجدها القرار على النحو التالي:

1)       أغلبية السكان من الريف بحوالي 900 مليون من أصل 1.3 مليار نسمة، إن أن أغلبية عدد سكان الصين هم من الفلاحين.

2)       التركيز على المناطق الجنوبية والساحلية الشرقية خلق قاعدة صناعية متقدمة ووفر الإمكانيات والموارد اللازمة لتقوم الحكومة بعملية التنمية.

3)       جدية اهتمام " هوجن تاون" بمكافحة الفقر.

4)       بروز صدامات بين الفلاحين والسلطات المحلية، أو أطراف ريفية مختلفة حول ملكية الأراضي، وتسويق المحاصيل.

عناصر خطة تطوير الريف الأساسية:

1)    إلغاء قانون الضريبة الزراعية المفروض على حيازة الأراضي لتخفيف 50% من الأعباء عن كاهل الفلاحين.

2)    تخصيص مبلغ 42 مليار دولار للنهوض في الريف، وتقديم المساعدات عام 2007 حزمت وخصصت لبناء مدارس ومشافي ومراكز وإدخال التقنية.

3)    تطوير المناطق الغربية والشمالية في البلاد " أساس الريف" مع إلزام الشركات الصينية الكبرى بالاستثمار في الريف وتشجيع الرأسمال الأجنبي للمشاركة في هذه العملية مقابل إعفاء جزئي أو كلي من الضريبة.

4)    إعفاء الريف من رسوم التعليم بالتدريج (علماً أن الرسوم موحدة في عموم الصين) وإدخال التعليم الإلزامي في الريف، علماً أن تكلفته بلغت عشرات مليارات من اليوان.

5)    إلزام المناطق الغنية في الجنوب والشرق بالاستثمار في غرب البلاد وشمالها لوقف نزيف هجرة سكان الريف إلى مناطق الاستثمار (حيث هاجر قرابة 200 مليون عامل ريفي إلى هذه المناطق).

6)    توفير الرعاية الصحية للريف 40% في البداية من المحافظات، بحيث تدفع الحكومة 85% من النفقات، إضافة إلى بناء مركز طبي في كل مجتمع.

7)    إعفاء الفلاحين من رسوم مياه الري والشرب، وتطوير مشاريع الري.

8)    تعميق عملية الإصلاح الاقتصادي والسياسي.

بعض الحقائق والأرقام عن مظاهر الفساد في ظل الانفتاح واقتصاد السوق:

نشرت وكالة الأخبار الصينية تقارير وأخبار حول الثراء السريع لبعض الأشخاص الذين تمكنوا من تكديس الثروة والأموال الهائلة خلال فترة زمنية قصيرة، فقد ارتفعت ثروة المرأة " شينغ بان" المرأة الطموحة التي تمتلك شركة "ناين دراغون" أو "التنين تسعة" لصناعة ورق التغليف لتصل إلى أربعة مليارات دولارات. وبلغت ثروة " هوانغ جوانجيو" صاحب شركة " جومي" للأجهزة الالكترونية 3 مليارات دولار. كما نشرت وكالة الأنباء الصينية " شينخو" خبراً يقول بأن مجموع ثروات 400 صيني وصلت عام 2004 إلى 75 مليار دولار، كما كتب مجلة " الصين اليوم" في كانون أول عام 2005 أن شركة " بنجي" التي تنتج أفخم أنواع السيارات في العالم احتلت مبيعاتها في المركز الأول من حيث النسبة والحجم، وكذلك اكتساح شركة سيارة " بينجي 728 التي بلغ أرباحها مليارات دولار، كما بات الصين ثالث أكبر مستهلك للعطور في العالم. فقد صرف أثرياء الصين عام 2005 أكثر من ملياري دولار على شراء العطور.

وبينّـت أقوال " شياونج" رئيس المحكمة الشعبية العليا حجم وسعة الفساد المنتشر في الصين حيث قال " برز الفساد في الصين خلال تواطئ مسئولي الحكومة والحزب مع رجال أعمال والقطاع الخاص في المجالات العقارية وأسواق المال وإدخال الأراضي في المخططات التنظيمية" ويذكر " شيوان الرقم التالي " تقلصت مساحة الأراضي الزراعية بين أعوام 1996 و2005 من 130 مليون هكتار إلى 121 مليون هكتار، وقد خسرت الصين التسع ملايين هكتار من الأراضي الزراعية نتيجة الفساد، فضلاً عن انتشار القمار بين المسئولين والأغنياء"، فحسب تقرير وكالة الأنباء الصينية نُشر عام 2007 فقد أنفق أغنياء الصين نحو 360 مليار دولار، وإن عدد من يمارسون هذه العادة أكثر من مليون شخص.

كما أن الصين التي لم تعرف البطالة قبل سياسة الانفتاح، وصل فيها عدد العاطلين عن العمل إلى نحو 120 مليون. ولكن ما يجب التأكيد عليه أيضاً أن الصين في عهد الرئيس "هوجين تاو" ضربت رقماً قياسيا في الشفافية ومكافحة الفساد، ووضعت العديد من قيادات الحزب الشيوعي والحكومة تحت طائلة المساءلة والمحاسبة.

المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني الحصاد والأصداء والتوقعات:

وسط متابعة واهتمام وطني وعالمي استعرض الرئيس الصيني " شي جين بينغ" في خطابه أمام المؤتمر ملامح وحصاد الشوط المقطوع لتجربة الصين، وحدد التوجهات والتوقعات والأهداف التي يسعى الحزب لتحقيقها، حتى منتصف هذا القرن، حيث أعلن "أن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية قد دخلت عصراً جديداً، وأوضح أن التناقض الرئيسي الذي يواجه المجتمع الصيني الذي استمر ل36 عاماً قد تغير الآن، فقد بات تحولاً يؤثر على كامل المشهد العام".

وأضاف قائلاً "لم يطرح التوسع المتزايد لحاجة الشعب إلى حياة جميلة مطالب أعلى من الحياة المادية والثقافية وحسب، بل أدى إلى تزايد المطالب المتعلقة بالديمقراطية وحكم القانون والانفاق والعدالة الاجتماعية والأمن والبيئة وغير ذلك من المجالات".

وأوضح أن " الحزب الشيوعي يهدف من خلال سياسته لتحقيق المزيد من التوازن وتنمية أكثر جودة عبر كافة مناطق البلاد والقطاعات، حيث من المتوقع أن يستمر الأمر على هذا النحو لبعض الوقت ليتم تحقيق هذه السياسات والأهداف، وربما يشهد التناقض الرئيسي تحولاً جدياً".

وعلل ذلك بقوله " أن الصين ما زالت وستظل لفترات طويلا من الزمن في المرحلة الأولى من الاشتراكية في حين لم تتغير المكانة الدولية للصين كأكبر دولة نامية في العالم".

وأوضح أن " الاستراتيجية المطروحة ذات المرحلتين التي تمتد من ثلاثين عاماً يتمثل بجعل الصين دولة اشتراكية مزدهرة ودولة ديمقراطية متحضرة ومتناغمة وجميلة وستكون جاهزة لتمطي العتبة للعبور في مرحلة جديدة من الاشتراكية"، حيث أكد أن الصين ستصبح دولة اشتراكية حديثة عظيمة بحلول منتصف القرن، وأن الرخاء المشترك لكل فرد قد تحقق على نحو أساسي، وأن الشعب الصيني أكثر سعادة وأمناً وصحة".

واستطرد الرئيس قائلاً "التحديث الاشتراكي سيتحقق بشكل أساسي في عام 2035، وإذا تحقق هذا الهدف فإن الحزب الشيوعي الصيني سيحوّل الصين إلى واحدة من أغنى دول العالم، وأكثرها قوة على الأرض، وهي المرة الأولى الذي يحقق فيها حزب ماركسي مثل هذا العمل الرائع".

وكان الرئيس " بينغ" قد أكد في وقت سابق أنه عندما تدخل الصين الصفوف الأولى للدول فإننا لن نكون قد قمنا بشق طريق فحسب لشعوب العالم الثالث، لكننا سنكون قد أظهرنا للبشرية أيضاً وهذا هو الأهم أن الاشتراكية هي الطريق الوحيد الذي يتوفق على الرأسمالية".

وتعقيباً على خطاب الرئيس "شي جين بينغ" أكدت صحيفة " تيسى مايا" الروسية "أن من الصعب تخيل أن تحقق الصين هذه الإنجازات غير المسبوقة بغير قيادة الحزب الشيوعي الصيني ومع النمو الاقتصادي السريع ستساعد خبرة الصين الدول النامية على الازدهار".

وقال " نيكولا سيدشيف" عن وكالة أنباء " تاس" الروسية أن تقرير " تشي" كان رائعاً وأعتقد أنه يحدد بوضوح التحديات والقضايا الرئيسية للبلاد من تطور الاقتصاد ومكافحة الفساد وتطوير تكنولوجيا الطيران وتحديث الجيش أكثر الأشياء إثارة للاهتمام".

وقالت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية " أن الصين تهدف لتقديم نموذج للتنمية والعولمة ليحل محل النموذج الغربي القديم وغير الفعال، وأن استمرار النجاح في سياسات الإصلاح الصينية سيشجع دول العالم على اتباع نهجها".

أما صحيفة ترانا الكوبية الرسمية ، فقد قالت أن " الرئيس الصيني لديه مقام كبير بفضل نجاح الإصلاحات التي حققها مع زملاؤه خلال العقود الخمسة الماضية، مضيفةً أنه عزز دبلوماسية أكثر فاعلية مكنت الدول الآسيوية أن تزيد مشاركتها في آليات وعمليات صناعة القرار في العالم".

إلى أين يتجه الصين؟

لاشك أن مستوى الشوط المقطوع خلال أربعة عقود من مسيرة الإصلاح وحجم إنجازاتها  الاقتصادية والعلمية والثقافية المحققة، وإصرار القيادة الصينية والحزب الشيوعي في خطابهم العام على التمسك بالماركسية والاشتراكية لاستنهاض عملية التنمية وتحديد مستقبلها واستدخال اقتصاد السوق المحرك لكل العمليات الاقتصادية بما في ذلك القطاع العام، وإنتاج نظرية السوق الاشتراكية يثير الاعجاب والتقدير بقدر ما يثير العديد من التساؤلات.

ففي الوقت الذي يثير نهوض الصين الاقتصادي الإعجاب، فإنه في الوقت نفسه يدعو للتساؤل ويحفز الجدل الدائر في أوساط اليسار واليمين، ولأن الحكم على مسار هذه التجربة والإجابة على سؤال "اين تتجه الصين" ليس سهلاً، فالسياسة جبر وليست حساب .

ولأن رموز عملية التنمية الصينية ومعادلاتها غير مألوفة وتنطوي على غموض وتعقيد شديدين لكل هذه الحقائق، فإن فك شيفرة هذه المعادلة وإيجاد مجموعة حلها سيظل في إطار التوقعات التي يرجحها المستقبل القريب للتجربة سلباً أو إيجاباً كما يحتاج إلى قراءة المنتج وتناقضاته دون أن تغشي الأرقام الفلكية المحققة اقتصادياً أعين الدارس والفرز الدقيق بين ما هو صعب ومنسجم مع الأسس النظرية العامة للماركسية والاشتراكية، ويعتبر التجديد والدعم المتوائمة مع القوائم الموضوعية لطابع تناقضات العصر الملموسة واستجابة لاحتياجاتها من اجل النهوض وبين ما يشكّل انحرافاً أو نسفاً لهذه الأبعاد و تضييع هذا الأمر سيكون أكثر يسراً لو تعلق الأمر بلجوء منظري اقتصاد السوق للاستعانة بمقولات الاشتراكية في تجديد نفسها وتبذير قيود نظامها السياسي الاجتماعي ، فالاشتراكية جاءت رداً على الأسئلة التي تولدّت عن المسار المتوحش الذي جسده النظام الرأسمالي الامبريالي الدولي ومحاولة لحل تناقضاتها الأساسية وتحقيق المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية والسلم العالمي والتقدم والاخوة الإنسانية، وشكّلت تهديداً جدياً للرأسمالية وللأسس التي بنيت عليها فهل المصالحة ممكنة بينها وبين اقتصاد السوق؟

 على هذا السؤال أجاب رائد التجربة الصينية الجديد قبل ولوجها بالنفي القاطع وأكد تمسكه بالماركسية والاشتراكية ومفاهيمها ومقولاتها واستشهد بتجربة الكوندانت البائسة في تايوان التي انتهجت الرأسمالية، مؤكداً على قدرة الحزب الشيوعي على استلهام مبادئ الماركسية اللينيينية الماوية في بناء تجربة الثورة والبناء وتحقيق التقدم.

فلقد ألهمت حضارة الصين العالم القديم وحيرته واستحقت عن جدارة تسمية بلد العجائب، كما ألهمت الثورة الصينية الديمقراطية الجديدة كما أطلق عليها العالم الحديث، وأدخلت الرعب في قلوب قادة الرأسمالية الامبريالية وصمدت وتطورت رغم ظروف عزلها وحصارها والتآمر عليها من الشرق والغرب على حد سواء.

واليوم تنتصب قامة الصين في العديد من العجائب والألغاز والتي تحتاج لسبر غورها وفكها لأعمال العقل والتفكير المتزن الرصين، فقد شكّلت قرارات المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني منارتها ساطعة شخصت اليها انظار مفكري العالم ومنظريه وساسته.

وبعد هذا الاستعراض لإنجازات التجربة الصينية، والآراء والملاحظات المتفاوتة حول مستقبلها والتي استهدفنا تسليط الأنظار على نصف الكوب الممتلئ حرصاً على القراءة والمحاكمة الموضوعية لتجربة الصين الجديدة.

 وتأسيساً على ذلك فإن الإجابة على الأسئلة الصعبة التي يكثفها السؤال الرئيس للمقالة "إلى اين تتجه الصين؟" يستدعي التأكيد على جملة من المسائل الجوهرية كإطار نظري مساعد لوضع اليد على مفتاح الإجابة وهي:

1)      يجب ألا يغفل أي دارس أو قارئ للتجربة الصينية أن مهمة الغوص في بحر المشكلات والإنجازات والسلبيات في البلد يمثل سكانه ربع عدد سكان الكون ليست مهمة سهلة، خاصة إذا أدركنا محدودية الإمكانيات والمستوى التقني التي امتلكتها الصين عشية إقرار الرئيس " دينغ" لما سُمي بخطة الإصلاح بعد رحيل الزعيم " ماوتسي تونغ".

2)      إخراج الصين من عزلتها القصرية وفتح علاقاتها مع العالم الرأسمالي المتوحش من غير الممكن أن يتم دون عملية مساومة تتنازل فيها الصين عن بعض ثوابت سياساتها الداخلية والخارجية –حسب رؤية الرئيس "شياو دينغ" - مع مراعاة  أن لا تمس القضايا المبدئية والجوهرية التي تشكّل مضمون الماركسية والنهج الاشتراكي العلمي لأنها في هذه الحالة ستفقد أهم مبررات وجودها كثورة اشتراكية وستتساوق عملياً مع أهداف الغرب وأمريكا على وجه الخصوص.

3)      إن الصين كدولة نامية ليست كغيرها من الدول المناظرة في المحيط، فهي تملك أوراق القوة الكافية لإجراء مساومة عادلة مشروعة ومتوازنة تعطي الصين –بصورة متدرجه- دورها القيادي على هذه الأفكار وتطلعات الثورة الصينية ببعديها القومية والاممية التقدمية، ومواصلة النضال لتحقيق رسالة الاشتراكية التاريخية، والهادفة لبناء المجتمع الإنساني والذي يعيد للعالم قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام العالمي والاخوة الإنسانية.

4)      ينبغي التمييز بين مرحلتين في سياق دراسة تجربة الإصلاح الأولى وتمتد من قيادة الرئيس " دينغ" حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي وانهيار الاتحاد السوفياتي، والمرحلة التي تلت ذلك الانهيار، والآثار التي تركتها على الوضع الداخلي الصيني، وارتفاع حجم المراهنات الغربية الأمريكية على وجه الخصوص المقترنة بدعم أي تململ أو معارضة داخلية التي تواجه الصين من المصير الذي لاقته نظيراتها الدول الاشتراكية.

وبالتالي فإننا نعتقد أن ما يُسمى نظرية السوق الاشتراكي جاءت في إطار رسالة مزدوجة من جهة فهي رسالة للغرب لطمأنته والتأكيد على تمسكها بخيار اقتصاد السوق والتنمية، الثانية هي المعارضة اليسارية من خلال طمأنتها بتمسك قيادة الحزب الشيوعي بالاشتراكية كمرشد لعملية البناء.

5)       لم تسقط الرؤية الماركسية ممكنات وضرورات عملية البناء الاقتصادي في مرحلة انتقالية يبديها الواقع الملموس للبلد المعني ومستوى تطوره الاقتصادي من أجل بناء المقدمات والقواعد المادية التكتيكية للانتقال للاشتراكية، فالمحددات التي طرحها " لينين" كأسس لهذه المرحلة أكدت إمكانية تعايش أنماط إنتاجية مختلفة تمثل القطاع الاشتراكي العام والقطاع الخاص المحلي والرأسمال والمال الأجنبي المنافس والمتكافئ بينهما وقيادة سلطة الطبقة العاملة هذه العملية وتوجيهها، وقيادة الحزب الشيوعي وسيطرته على مسارها الانتقالي. وفي هذه المرحلة فمن الطبيعي أن يستمر نفوذ وجبرية قوانين السوق الموضوعية ونظرية القيمة ودور قانون العرض والطلب والتحكم النسبي في تحديد الأسعار ونظام التبادل الداخلي والخارجي. وأخيراً فإن هذه المرحلة ليست الزامية بقدر ما ترتبط بالظروف الخاصة لهذه التجربة أو تلك وطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها ومستوى التطور الاقتصادي في الموقع المحدد لهذا البلد أو ذاك، والأخذ بهذه التجربة له طابعه الانتقالي المحدد زمنياً والمرتبط بتحقيق أهداف واضحة وملموسة.

6)      من نافل القول، أن قوانين الثورة والتطبيق الاشتراكي ليست وصفات جاهزة للتطبيق بل تأخذ مجراها من خلال مراعاة الظروف الملموسة المتباينة بين البلدان من حيث مستوى تطورها الاقتصادي، كما لا يمكن القبول بمذهبية النظرية الماركسية والاشتراكية فلا يمكن الإفراط في نفخ الخصوصية وتقسيم الاشتراكية إلى تشكيلة من القوميات الروسية والأجنبية...الخ أو عربية وهكذا، فالخاص والعام مقولات مترابطة، لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى وإلا نسفنا أسس المنهج الديالكتيكي الموضوعية العلمية، كما لا يمكن وفق هذه الأسس أن يطغى الخاص على العام، فالعام هو الأساس ومحدد الخاص والناظم لحركته الداخلية.

7)      وجود القطاع العام وملكية الدولة والتعاونيات ليست شرطاً أو أسساً للحكم على النظام الاجتماعي السياسي لهذا البلد أو ذاك، فهناك العديد من البلدان الرأسمالية التي تجمع بين ملكية الدولة واستثماراتها ودورها والقطاع الخاص الرأسمالي، فالتأمين كما أنشأ ماركس ليست بالضرورة أن يكون اشتراكي بالضرورة فالدول الرأسمالية لجأت في سياق تطورها إلى هذا الإجراء.

8)      لقوانين اقتصاد السوق قوتها وجبريتها القاهرة الموضوعية التي لا يمكن معاندتها ومنع إفرازاتها وأمراضها كالبطالة والاحتكار والأزمات والغش والفساد، فتعميق النزعة الاستهلاكية فضلاً عن قيمه الثقافية التي يعكسها الأساس الاقتصادي توظفها الدولة في خدمة اقتصاد السوق وهدفه الأساسي الناظم في تحقيق الحد الأقصى للربح الفردي، وتحقيق الثراء وتكديس الثروة. صحيح يمكن للدولة من خلال بعض الإجراءات في مواجهة الأزمات أن تحد منها لكنها لا تستطيع إلغائها لأنها مستمدة من طبيعة اقتصاد السوق وميكانيزم حركته الموضوعية، كما لا يمكن التهجين بين اقتصاد السوق ومفاهيمه ومقولاته والاقتصاد الاشتراكي ومنظومته الفكرية، فالاقتصادان مختلفان من حيث الجوهر والأهداف وتناقضهما مطلق، وفي هذه الحالة لا يمكن الحكم على اقتصاد مهجن بأنه اشتراكي أو رأسمالي، وفي أحسن الأحوال مختلط في سياق انتقالي نحو الرأسمالية أو الاشتراكية، ومن الطبيعي أيضاً أن يحكم المبادلات التجارية الخارجية بين البلدان الاشتراكية والرأسمالية قوانين السوق بحكم هيمنتها على الاقتصاد العالمي ومؤسساته الاقتصادية.

وعليه، وانطلاقاً من هذه البديهيات التي لا يختلف عليها أي ماركسي فإننا لا نستطيع وضع التجربة الصينية والحكم عليها تعسفاً بالاشتراكية والواقع الصيني الراهن الذي لا تستطيع الإنجازات الصينية المحققة تغطية افرازاته السلبية كاتساع الفجوات بين الأغنياء والفقراء، أو نشوء طبقة رأسمالية صينية معولمة بشركاتها التي لا تختلف في المضمون والوظيفة عن الشركات الرأسمالية الاحتكارية. كل ذلك لا يبرر نظرية اقتصاد السوق الاشتراكية أو مشتقاتها والإقرار بأن الصين تسير نحو التحوّل إلى دولة اشتراكية حديثة وعظيمة، إلا إذا كانت كلمة حديثة لها مدلول آخر غير ما هو موجود في قاموس الماركسية النظرية، فمعدلات النمو التي حققتها الصين يمكن أن تتحقق لو كانت الصين دولة رأسمالية، فالتهافت الدولي عليها أملاه شهية الشركات العملاقة الاحتكارية الغربية على غزو أسواقها ومضاعفة أرباحها، ومن الطبيعي أن يوفر الطابع المتأخر للاقتصاد الصيني ممكنات إحداث قفزات كبرى على تطور القوى المنتجة ومضاعفة وتائر النمو عشرات المرات والحفاظ على نسبة متوازنة من معدل سنوي للتنمية تفوق النسب المتحققة في البلدان الرأسمالية العريقة.

في نفس الوقت فإن منهجية بناء الخطط ومتابعتها وتحقيق أبجدياتها تعتبر علامة تميز حيوية القيادة الصينية ومثابرتها، ولكنها ليست دليلاً على اشتراكية النظام أو اتجاه حركتها نحو الاشتراكية ، فالرئيس " دينغ" في إطار اجراءاته لاعتماد اقتصاد السوق قال " في الرأسمالية يوجد سوق، وكذلك في الاشتراكية كما يوجد خطط هنا وهناك، ومن الطبيعي أن يتحسن مستوى الشعب المادي وكذلك الروحي، وأن يرفع مستوى الدخل الفردي وكذلك النظام الرأسمالي، ولكن ما هي حصة فقراء الشعب في عملية التوزيع قياساً بحصة الطغم المالية الناشئة من ميكانيزمات اقتصاد السوق وتكريس الأرباح وما دامت الأسعار يحددها قانون العرض والطلب ما هي قيمة الأجرة الفعلية للمنتج الفقير وقوتها الشرائية".

المسألة الأخرى التي لابد تأكيدها أن حجم الفائض المحقق لم يكن موازناً للارتفاع المضطرد من دور العاملين والمقصود بالفائض الأرباح، كما أن أرقامه الفلكية جاءت نتيجة لتكلفة العمالة الرخيصة، وهذه الأرباح أسست لولادة أثرياء الصين وطغمها المالية كذلك أصحاب الاحتكارات الرأسمالية الأجنبية. يمكن تفهم هذا الأمر أي سياسة شد الأحزمة على البطون والتقشف حين يكون اختيارياً في بلد اشتراكي من أجل توظيفه الفائض في إطار تركيم عملية تطوير القوى المنتجة ونظام الضمان الاجتماعي والخدمات المادية والصحية والروحية وبناء منشآت البنية التحتية بشكل عام أي النهوض بمقومات النظام الاشتراكي وتطوره وقوته ومناعته وأفضليته على النظام الرأسمالي.

ليس لدينا أدنى شك بأفضلية النظرية الاشتراكية على الرأسمالية بل نحن كماركسيين على يقين بأن الاشتراكية هي البديل عن الرأسمالية وأزماتها، ونظامها المتوحش ومراحل تطورها.

 نحن على يقين أيضاً بالقدرات المتميزة للقيادة الصينية المتعاقبة على توظيف مقولات ومفاهيم الماركسية والاشتراكية في عملية البناء الاقتصادي ورسم خطط وقراءة المستقبل الذي يمكن ان تحققه الإمكانيات المتاحة بين أيديها أيضاً، ولكن هذا ليس معياراً وحيداً لتزكية انتمائها لمعسكر الاشتراكية الثورية.

 يمكن لمنظري الرأسمالية أن يستفيدوا منها بنفس القدر، فعالم الاقتصاد البريطاني جون ما ينارد كينز لم يكن اشتراكياً عندما شدد على ضرورة أن يكون للدولة دوراً مهماً في عملية البناء الاقتصادي وتوجيهه أو القدرة على التقاطه وتحديد التناقض الرئيسي في كل مرحلة من مراحل البناء الاقتصادي، فمن تتلمذ على أفكار "ماوتسي تونغ" المفكر المبدع في صياغته لنظرية التناقضات لا يمكن إلا أن يكون مبدعاً في هذا الجانب ولكن دقة قراءة التناقضات التي تحكم عملية البناء الداخلي وتوجهه لا تكفي دون وصفها في إطار لوحة التناقضات الكونية التي تحكم العصر، وتحديداً تناقضها الرئيسة أيضاً فقد أبدع الحزب الشيوعي الصيني في حقبة " ماو" في تحديد التناقضات الرئيسية التي تحكم كل مرحلة من مراحل النضال الوطني الديمقراطي وعملية البناء الداخلي، وأيضاً التناقض الرئيسي الكوني الذي يحكم عملية الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية كمضمون لهذا العصر، حيث جزم أن التناقض الرئيسي على المستوى الكوني هو بين المركز الرأسمالي الامبريالي ودول المحيط الممثلة بمعسكر التحرير الوطني، وقد أصاب " ماو" وأخطأ " خريتشوف".

 كل ما سبق يمكن تفهمه وإيجاد المبررات له أو التريث في الحكم عليه عدا التطاول على مضامين الماركسية كالصراع الطبقي أو مفهوم الطبقة أو استخدام مفهوم الفئة وتعميمه على الطبقات وكأن ما يجمعه من مصالح أكثر مما يفرقها.

والأخطر من كل ذلك هو تعميم عضوية الحزب الشيوعي ليصبح ممثلاً ومعبراً عن مصالح كل القوى المنتجة التقدمية ومساواة الأثرياء وكبار رأس المال والعمال والفلاحين في اشتراطات العضوية، فهل يمكن لحزب شيوعي كحامل للواء تحقيق الاشتراكية إلى أن يكون ممثلاً لكل الطبقات ؟ وهل تم إنهاء الطبقات في المجتمع الصيني ولم يعد هناك واقع يشكّل ماكينة تفريخ اتوماتيكية لها ؟

يمكن تفهم السماح للطبقات البرجوازية من تشكيل أحزاب لها ومنحها الحق في الصراع على السلطة، واحترام عملية التداول السلمي للسلطة، وحتى بناء تحالفات معها في حكومات، لكن أن يصبح للحزب القائد ممثلاً لها ومصالحها المتناقضة من حيث الجوهر مع مصالح الفقراء كما جاء في نظرية التمثلات الثلاث التي طرحها " جيان " فهذا الأمر لا يتقبله العقل، فيمكن للحزب الشيوعي أن يكون ممثلاً للشعب في كل مكوناته في مرحلة معينة من مراحل التقدم للمجتمع الاشتراكي وتطوير علاقات الإنتاج وحل تناقضاتها وردم المستنبت المولد للطبقات. غير ذلك فهو غريب ومستهجن وغير منسجم مع مضمون الماركسية الثورية ونظرياتها في الثورة الاشتراكية، كما لا يمكن لأن تكون الدولة التي ارتبطت نشوئها تاريخياً بولادة طبقات هيئة تحكيم بين الطبقات الأمر الذي استهجنه " لينين" في وقت سابق في كتابه " الدولة والثورة". 

وفي نفس السياق فإن سياسة السلم الطبقي داخل السلطة من الطبيعي أن يكون لها امتدادها المنطقي أو تفرخ ما سُمي بالتنمية السلمية والاحتكام لتوازن المصالح والمنفعة المتبادلة، والتعايش الطبقي السلمي على الصعيد الكوني.

 يمكن الحديث عن التعايش السلمي في إطار العلاقات بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي لدرء خطر الحروب وكوارثها المستمدة من طبيعة النظام الرأسمالي الامبريالي وأهدافه التوسعية، فالاتحاد السوفيتي انتهج هذه السياسة في مؤتمره العشرين عام 1956، ولكن لم يعلن انتهاء الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية أو الصراع الطبقي على المستوى الكوني في إطار هذه السياسة التي شكّلت أحد أهم عناوين الخلاف بين الحزبين الشيوعي الصيني والسوفيتي في الستينات في ظل هذا الشعار الذي رفعه الاتحاد السوفيتي لم يوقف دعمه لحركات التحرر الوطني والدول الوطنية الفتية التي كانت تناضل ضد كل أشكال إلحاقها واحتجاز تطورها من أجل صيانة استقلالها الوطني وخيارها المستقل في البناء الاقتصادي.

 وهذه المسألة تقودنا لمناقشة الاحتمال الذي يمكن أن يشكّله النموذج الصيني كمرشد لبلدان المحيط والدول النامية، فقلة من الدول النامية تمتلك مقومات إجراء مساومة عادلة مع النظام الرأسمالي في مرحلة العولمة الامبريالية وهيمنة مؤسساته الاقتصادية الدولية، ويتضمن من خلالها الحق في التطور المستقل والعلاقات المتكافئة بينها وبين النظام الرأسمالي وصيانة استقلالها الوطني وتحقيق المنفعة المتبادلة بينها وبين دول المركز الرأسمالي. وهذه الامكانية لا يمكن تحويلها إلى واقع كما يدرك قادة الحزب الشيوعي الصيني دون توفر ثلاث عوامل:

الأول: ألا يكون مآل التجربة الصينية هو إنتاج النظام الرأسمالي بخصائص صينية.

الثاني: أن تطرح الصين نموذجاً متكافئاً في تبادل المنافع وتوازن المصالح في علاقاتها مع الدول النامية، بمعنى أن تكون داعمة لطموحاتها الوطنية المشروعة في الاستقلال والتنمية المستقبلية المستقلة.

الثالث: أن تكون التجربة تحت قيادة شيوعية أو تحالف جبهوي تقدمي يسعى للتقدم الاقتصادي الفوق الاشتراكي، وهذا ما تأمله دول المحيط التي يسحقها ويقود نموها البلدوزر الرأسمالي الامبريالي المعولم.

والسؤال، هل تستطيع الصين أن تقدم هذا النموذج المتميز والمتقدم في علاقاتها مع دول المحيط؟ فهي تعلن في وثائقها كما جاء في كتاب " الصين" المنشور في دور النشر بلغات اجنبية لعام 2007 أنها التزمت بكل متطلبات واستحقاقات اقتصاد السوق ومؤسسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية في خطتها للإصلاح الاقتصادي، والاندماج في الاقتصاد الدولي، أي اقتصاد السوق الرأسمالي.

 أي أنها طبقت بنود إعلان واشنطن الذي اشترط التقشف والخصخصة في التجارة والصناعة وأسواق المال، وبهذا المعنى هل ستعفي دول المحيط هذه الالتزامات التي تعيق تطورها وتحتجز تحولها إلى أسواق التصريف وأزمات الاقتصاد الرأسمالي؟، وفي هذه الحالة أي في حال أن تثبت هذه الاشتراطات التي قبلتها لنفسها في إطار الحديث عن التكافؤ، هل تستطيع الصين أن تنتج سياسة بديلة لدول الرأسمالية في تعاملها الدولي لا ينزع طابع الاستقلال الوحشي؟ الواقع الراهن يقول عكس ذلك فأسواق هذه الدول التي غزتها المنتوجات الصينية عملت موضوعياً على تدمير الصناعات المناظرة في هذه البلدان، فاعتماد قوانين السوق وما بني عليها من أنظمة العلاقات الاقتصادية الدولية لن ينتج إلا سياسة امبريالية وحشية حيث الوظيفة الاقتصادية وفي أحسن الأحوال سياسة أقل وحشية لكنها ليست عادلة أو متكافئة، كما أن وجود نظام متقدم للنظام الاجتماعي والصحي ليس دليلاً على اشتراكية هذا الاقتصاد أو ذاك مهما كان متقدماً، فالدول الاسكندنافية وخاصة السويد تمتلك نظاماً متطوراً للضمان الاجتماعي لكنها ليست اشتراكية ولا تقول عن نفسها أنها كذلك.

والملاحظة الأخرى التي تطرح رزمة من التساؤلات تتناول ماهية الدولة الاشتراكية العظمى التي أكد الرئيس " شي" أن الصين ستنجزها في 2035 وحديثه عن أن الصين لا زالت في المرحلة الأولى من الاشتراكية، وتأكيده على أن المرحلة الأولى من الاشتراكية تنطوي على تناقضات خاصة بها وملازمة لها، مركزاً على التفاوت بين الثروات.

 والسؤال عن أي مرحلة أولى يتحدث ؟ هل يحدث الطور الأول من المجتمع الصيني والذي تمثله الاشتراكية وعملية بناءها، فالأدب الماركسي وخاصة قراءات "لينين" تحدثت عن أن الاشتراكية تطور أول في المجتمع الشيوعي، كما حدد "لينين" تناقضات هذه المرحلة الأساسية المتمثلة في التناقض بين الريف والمدينة والعمل الفكري مع العمل البدني والتوزيع حسب العمل والقدرة الإنتاجية وليس حسب الحاجة لكنه لم يذكر أبداً أن التناقض بين العمل والرأسمال الذي لا يزال موجوداً بوضوح في الصين الجديدة، وله افرازاته وأمراضه ومخاطره المقلقة بفعل هيمنة قوانين اقتصاد السوق، فهل تأكيدات الرئيس " شي" تعني أن هذا التناقض سيأخذ طريقه إلى الزوال مع استكمال النضوج والتحوّل إلى دولة اشتراكية عظمى ومزدهرة وحضارية وديمقراطية؟ ثم لماذا الحديث الملتبس عن المرحلة الأولى من الاشتراكية والقفز عن تسميتها الطور الأول من المجتمع الشيوعي في بلد يقوده حزب شيوعي؟ أم أن أدبيات الحزب الشيوعي تسقط ضمناً ممكنات تحقيق المجتمع الشيوعي مع أنهم يتحدثون عن مرحلة يتم فيها التوزيع حسب الحاجة وليس المقدرة، وتجاوز ما أسماه " لينين" بالحق البرجوازي الذي يفرزه نظام التوزيع حسب المقدرة ويجعل المساواة منقوصة، مع أن المؤشرات لا تشير أو تطمئن أن الصين ستحسم لدى انتهاء المرحلة الانتقالية وتحقيق الاشتراكية أي أشكال ملموسة للتناقض بين العمل ورأس المال وتحقيق المجتمع غير الطبقي والذي أساسه المادة أي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. نحن نأمل أن يتم هذا الأمر، لكننا لسنا واثقين كما يجب أن هذا ما قصده وعناه الرئيس " شي" .

الملاحظة الأخيرة هو الخشية والقلق الذي تبديه القوى الثورية الحريصة على الصين والأمل بأن تقدم تجربة الحزب الشيوعي الصيني البديل النظري والثوري الواقعي لتجربة الاتحاد السوفيتي المنهار من أجل دفع عملية انعتاق الشعوب وتحررها وتوفير الظروف الموضوعية والذاتية لانتصار الاشتراكية كنظام بديل للرأسمالية المعولمة الامبريالية.

 ومبعث هذا القلق مصدره كثرة الحديث عن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية وتعويم عضوية الحزب في نظرية التمثلات الثلاث والتركيز العالي والمبالغ فيه بأن الحزب الشيوعي يمثل مصالح الأمة الصينية بكل طبقاتها كما هي في الواقع، والنضج في التراث والحضارة الصينية وانكفاء الصين عن القيام بواجباتها تجاه الدول وحركات التحرر الوطني الديمقراطية، فالاشتراكية عملية تاريخية إنسانية وأممية تماماً كما كانت الرأسمالية ولا زالت على النقيض لهذه العملية ولها قواعدها وقوانينها العامة وهو الذي أكد صوابية الاشتراكية وعلميتها، أما تطبيقها كما تم الايضاح في صفحات سابقة فمن الطبيعي أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصية هذا البلد أو ذاك فمستوى تطوره الاجتماعي والاقتصادي، فلا يجوز للخاص انتهاك العام وليس منطقياً ومنافياً للديالكتيك أن يطغى العام بكل تفاصيله على الخاص، ونجاح أي حزب شيوعي في السير على طريق تحقيق مبادئ الاشتراكية  وقيمها إنما يتجلى في قدرتها على تطويع المبادئ العامة واستيعاب نظرية الثورة الخاصة بكل عناصر التقدمية الكامنة في تراثه الوطني وثقافته ورموزه الحضارية والإنسانية وتوظيفها، وتحويلها إلى قوة دفع لتحقيق انتصار الثورة وإنجاز عملية الانتقال للاشتراكية.

لكن تركيز الصين في خطابها العام يوحي وكأن الحزب الشيوعي يسعى لإعادة بناء نظرية اشتراكية قومية لتطوير الصين فقط ولا تصلح لأن تشكّل نموذجاً يمكن أن تسترشد به شعوب العالم المحتجز تطورها من قبل المركز الرأسمالي الامبريالي، أي أن الخوف الذي تبديه القوى الثورية أن تتغلب النزعة القومية الصينية على مضامين النضال الاشتراكي الأممي والإنساني الأمر الذي قد يعني فيما يعنيه أن تكون تجربة الصين ليست إلا شكلاً محولاً عن أنماط الاشتراكية القومية حيث عززت نزعات الدول القومية الامبريالية في علاقتها مع الشعوب والطبقات المظلومة، فالحديث عن عظمة حضارة الصين لا يمكن وليس بمقدورها أن يلغي قانونية الصراع الطبقي  وإحلال التناغم بديلاً عن التنافر الرأسمالي الجشع  لتحقيق أعلى درجة ممكنة من الأرباح بين العامل والفلاح الطامحان لإنهاء الاستغلال وفك قيوده إلى الأبد.

وتعزز هذا الانطباع باعتباره أحد أهم شروط التجربة الصينية في إطارها العام في حال نجاحها لرؤية توجه عملية التنمية في البلدان النامية هو خروج الصين من عزلتها وتقديم الدعم والتعاون لها في إطار الواجب الأممي تجاه هذه الشعوب حتى لو غضبت أمريكا واختل توازن التعايش السلمي الذي تطمح الصين لاستقراره النسبي.

 إن التجديد والابداع والابتكار واستيعاب التغيرات السريعة لطابع التناقضات الملموسة في كل لحظة تاريخية حددت وظيفتها في بناء وتوظيف الاشتراكية في خدمة هذه الأهداف أمر لابد منه مما يستدعي وضعها في اتجاهها التاريخي الصحيح .

ومع ذلك فتحت هذه الشعارات " قاد كاوتسكي " الأممية الثانية إلى الوضع الرث الذي تعيشه اليوم الاشتراكية الدولية التي تختلف برامجها من حيث الجوهر عن أحزاب الرأسمالية المحافظة، وتحت هذه الشعارات أيضاً تآكلت واندثرت وتقزمت الأحزاب الشيوعية الأوروبية وعلى وجه الخصوص وبات من تبقى منها لا يستحق إلا الرثاء والشفقة. ونأمل ألا نقف غداً على أطلال الحزب الشيوعي الصيني الذي نحترم تراثه النضالي العظيم وتعزية ما تبقى من أعضائه.

لكن السؤال الذي لم تتبلور إجابته بوضوح حتى اللحظة: هل ستبقى الصين دولة اشتراكية حقاً في ظل اقتصاد السوق المتبع حالياً، أم أنها ستتحول تدريجياً إلى نظام رأسمالية الدولة تمهيداً لتحولها إلى دولة رأسمالية بمزايا صينية؟

إن هذه المخاوف أو الاحتمالات تستند إلى العديد من المؤشرات والمعطيات التي تؤكد عليها، علاوة على أن حديث القيادة الصينية (في الحزب والحكومة) عن تطبيق قوانين اقتصاد السوق الاجتماعي منذ أواخر القرن الماضي، لا يمكن أن يستقيم مع قوانين الاقتصاد الاشتراكي ومناهجه التي بدأت في التراجع والانحسار لحساب القطاع الخاص الذي بات يسيطر على حوالي 60% من الاقتصاد الصيني في إطار الشركات المساهمة التي تجمع بين الرأسماليين وعمال المصانع.

 وفي كل الأحوال يظل المستقبل مرهوناً بمدى اتساع التناقضات بين القطاع الخاص الصيني من ناحية وبين الحزب الشيوعي وبرامجه من ناحية ثانية واحتمال تطوير العلاقة المصلحية الانتهازية بين بعض مكونات البيروقراطية المدنية والعسكرية داخل الحزب مما سيؤدي إلى إضعاف وتراجع الدور المركزي للحزب الشيوعي الصيني لحساب "الطبقات" البورجوازية ، وبالتالي بداية تراجع قوة الاقتصاد الصيني ودور الدولة ، خاصة مع ما تخططه الولايات المتحدة لوقف وإعاقة تطور الصين كدولة عظمى مازالت تتعاطف وتؤيد القضايا التحررية العادلة للقوى رغم تخليها عن مواقفها الشيوعية الأممية السابقة.

وختاماً، فإن الخلاصة التي تكثف الإجابة والحكم في آن واحد على مسار التجربة في الصين أوجدها المفكر الماركسي العربي الأممي الدكتور سمير أمين وهي أهم النتائج التي توصلت إليها مجموعة النقاش في الخمسينات حول السبيل الأفضل لتطور دول المحيط وهي أن على شعوب التخوم أن تقوم ببناء اقتصادها الوطني بالاعتماد على الذات، مع فك الارتباط مستندة إلى التجمعات الإقليمية وإلى  الجنوب ككل، وأنها لا يمكن أن تحقق ذلك إلا في إطار التوجه نحو الاشتراكية، وأنه في سبيل ذلك عليها أن تتحرر من الوهن البديل وهو الالتحاق في إطار النظام الرأسمالي المعولم " ([6]، الذي نحدد –فيما يلي- سماته الرئيسه عبر عدد من المظاهر :

1- طغيان آليات السوق الحر المفتوح والمنفلت في جميع بلدان العالم، وما أدت اليه هذه الظاهرة من تراجع وتدمير للصناعة المحلية والمنتجات السلعية في البلدان التي كانت سائرة باتجاه التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، حيث تتكشف لشعوب هذه البلدان حجم الويلات التي أفرزها تطبيق آليات السوق الحر التي أثبتت مجددا أنها اعادت انتاج التشوهات في النشاط الاقتصادي، من خلال تزايد حجم البطالة الثابتة (البنيوية) والبطالة المؤقتة، والتضخم وارتفاع الأسعار وثبات الأجور، وما يرافق ذلك من تزايد انتشار الفقر والفقر المدقع في اوساط الجماهير الكادحة، بحيث أصبحت هذه الاحوال المتردية السمة الرئيسة للعولمة الراهنة في تطبيقاتها على بلادنا وبلدان العالم الثالث، علاوة على تزايد انتشار حركات التطرف الارهابي وحركات الاسلام وانتشار الصراعات الاثنية والطائفية إلى جانب انتشار السرقة والجريمة والمخدرات والدعارة والانهيار النفسي، في بلداننا العربية، كما في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية جنبا إلى جنب مع اقتصاد الكومبرادور والمضاربة والمقامرة والطفيليين بكل أشكالهم، دون أن نتجاوز انتشار كل أنواع الجرائم داخل الولايات المتحدة وغيرها من بلدان المراكز الرأسمالية.

2- التدهور الشديد والمتفاقم في المساوة الاجتماعية، بفعل الفجوة الهائلة في توزيع الثروات والدخل من ناحية والزيادة الكبيرة في نسبة الفقراء التي تزيد في بلادنا وبلدان العالم الثالث عن 70% من ناحية ثانية.

3- تطور الفقر وتفاوت الدخول عالميا واقليميا و قطر يا بفعل العولمة الراهنة حيث اتسع الفقر افقيا ليشمل أوسع الفئات الوسطى، وينحدر بها إلى ما يقرب من خط الفقر .

4- التراجع المهني على الصعيد العالمي، عن نظام الخدمات أو التكافل الاجتماعي، بينما تتقدم التكنولوجيا وتنتشر بصورة هائلة غير مسبوقة، لتحقق انتاجية فائقة وارباحا اسطورية، والمفارقة هنا بينما تزيد الانتاجية وتتضاعف في نظام العولمة، تتقلص الخدمات الاجتماعية للفقراء العاطلين عن العمل وذوي الدخل المحدود في البلدان الفقيرة، وبدرجات أقل من الولايات المتحدة وأوروبا.

5- تتجلى فى المرحلة الراهنة (مرحلة أزمة التراكم) ظواهر متجددة من التفاوت الاجتماعى والفقر يمكن أن نسميها أشكالاً من "تحديث الفقر". فلا تزال مجتمعات الأطراف تعانى من حجم كبير "لجيش احتياطى" من قوى العمل يستحيل امتصاصها فى إطار سيادة منطق التراكم الرأسمالى، وخاصة فى إطار انفتاح التراكم المحلى على العولمة الليبرالية وإطلاق حرية الأسواق دون تقنين يذكر.

فالمنافسة فى هذه الأسواق المفتوحة تفترض تركيز الاستثمارات فى مشروعات تمتص أموالاً هائلة نظراً لاحتياجات التكنولوجيات الحديثة، وبالتالى يتقلص الاهتمام برفع مستويات الإنتاجية فى القطاعات التى تعمل فيها أغلبية قوى العمل.

وبالتالى فإن مشروعات "التخلص من الفقر" (حسب لغة البنك الدولى) لن تكون فعالة، بل ستظل حبراً على الورق، ما لم يتم التخلى عن اعتناق مبدأ سيادة السوق الحرة، والعودة إلى مبدأ تقنين الأسواق، الأمر الذى يفترض بدوره –كما يقول سمير امين- الشروط الآتية:-

1- على المستوى القطرى، إقامة نظم حكم ديمقراطية جذرية ذات مضمون اجتماعى حقيقى.

 2- على المستوى العالمى، بناء عولمة بديلة متعددة الأقطاب تتيح هامشاً لتحرك الطبقات الشعبية فى مختلف المجتمعات المكونة للمنظومة العالمية بما يمكن من حلول هذه العولمة البديلة محل نمط العولمة الليبرالية السائدة، ولنا في تجربة الحزب الشيوعي الصيني مثالاً ساطعاً يحتذى على طريق التنمية المعتمده على الذات، والتقدم الصناعي والتكنولوجي المتميز، ومجابهة مظاهر الفقر والبطالة وتحقيق أسس العدالة الاجتماعية في إطار الاشتراكية الصينية.

إن التحدي الذي تفرضه إمبريالية العولمة اليوم على مجمل العلاقات الدولية، وعلى الشعوب المحكومة لأنظمة الكومبرادور والتخلف والتبعية في آسيا وأفريقيا، هو في حقيقته انعكاس لظرف موضوعي، يعبر عن التناقض التاريخي والراهن على صعيد كوكبنا الأرضي، الذي وصل اليوم الى ذروته عبر الصراع أو التناقض بين التراكم الرأسمالي في المراكز من جهة، وضرورات كسر التبعية والتخلف في بلدان الأطراف وسعيها نحو النهوض والتقدم من جهة أخرى ، إذ أن هذا الصراع التناحري بين المراكز والأطراف هو أيضا، تعبير عن التناقض الصارخ بين الطابع الاجتماعي أو الجماعي للإنتاج الرأسمالي ، بوصفه محددا رئيسيا للعلاقات الاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية من جهة، وبين ما يسميه ماركس الطابع الخاص أو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بوصفه المحدد الرئيسي للإنتاج الرأسمالي الهادف الى ضمان استمرارية الحصول على فائض القيمة ، أو زيادة معدل الربح والتراكم الرأسمالي الهائل الذي دفع الى تطور القوة الاقتصادية المعولمة الراهنة من جهة ثانية، خاصة بعد أن أصبحت الأسواق المحلية أو القومية غير قادرة على استيعاب هذا التوسع غير المسبوق في الإنتاج، وفي تراكم رأس المال وحركته المتسارعة والمعولمة.

وفي ضوء ذلك ، لم يكن غريبا ما يجري اليوم ، من تزايد حدة التناقضات بين ظاهرة العولمة الامبريالية من جهة، وبين مفهوم الاستقلال الكامل والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية بآفاقها الاشتراكية في دول العالم الثالث من جهة أخرى ، وهي تناقضات كامنة حتى اللحظة ، ومقتصرة على المستوى الجماهيري العفوي الشعبي الذي يتحمل مظاهر الاستغلال والاضطهاد، ويراكمها لحين لحظة انفجارها.

لكن هذا المستوى الشعبي يفتقر للقوى التغييرية اليسارية الديمقراطية المنظمة ، -كما هو الحال في تجربة الحزب الشيوعي الصيني- القادرة على الخروج بهذه التناقضات الى شكل المواجهة العلني الديمقراطي والثوري المطلوب ، خاصة وأن أنظمة دول العالم الثالث عموما وفي بلادنا العربية خصوصاً، تتعرض اليوم –بحكم تبعيتها ومصالحها الطبقية الانانية الخاصة- لحالة من الرخاوة والخضوع والتراجع، لضمان تلك المصالح، بل وتبريرها والدفاع عنها وعن رموزها من الملوك والامراء والمشايخ والرؤساء، بوسائل دعائية وحيثيات ديماغوجية تجيرِّ الدين وتزيف التاريخ لحساب المصالح الطبقية للأنظمة الحاكمة، عبر مئات القنوات الفضائية الدينية والسياسية المسخرة لمخاطبة الوعي العفوي الشعبي في محاولة لإطفاء وخداع الجماهير المضطهدة باسم الدين والوعي الزائف، لتعويضهم عن متاع الدنيا أو وعد الآخرة.

لكن كل هذه الممارسات الديماغوجية لم تمنع انتشار مزيد من حالات الاحباط واليأس في أوساط الجماهير الشعبية الفقيرة التي وجد قطاعاً واسعاً فيما ملاذه الوحيد صوب الالتحاق بحركات الاسلام السياسي بمختلف أنواعها، لكنها ظاهرة مؤقتة مرهونة بتطور مجتمعاتنا عبر الدور الاستنهاضي التقدمي الديمقراطي لأحزاب وفصائل اليسار العربي.

وفي هذا السياق ، فإن المثقفين اليساريين عموما ، وبخاصة في إطار القوى والأحزاب التقدمية – في دول المراكز الرأسمالية وفي البلدان المهمشة بالذات- يتحملون دورا مركزيا في إعادة إحياء النضال الطبقي ضد كل أنظمة الاستغلال، بكل ما يترتب عليه من قمع ومعاناة وتضحيات ، للخروج من المأزق الذي وصلته تلك القوى، عبر صياغة وامتلاك البرنامج السياسي الاقتصادي الاجتماعي (في كل بلد) المستند الى أيديولوجية الماركسية كمنهج لتحليل الواقع وتفسيره من جهة، ودليل عمل في النضال من أجل التغيير من جهة ثانية ، بشرط إعادة النظر –بصورة موضوعية وبعقل جمعي- في كثير من الاستنتاجات والتحليلات الماركسية التي تلقاها معظم المثقفين العرب بصورة ميكانيكية في المرحلة السابقة ، دون أي نقاش جدي أو وعي جدلي حقيقي بها ، بحث أصبح الواقع الاجتماعي الاقتصادي وتفاصيله الحياتية في واد ، والنظرية عبر تلك العلاقة في واد آخر ، وهو ما يفسر بقاء المثقف في بلدان العالم الثالث والوطن العربي ، متلقيا للمعرفة عاجزا –بشكل عام- عن إنتاجها ، ولا شك أن لهذه الظاهرة أسبابا متعددة ، ولكن يبدو أن أهمها –كما يقول- المفكر العربي التقدمي محمود أمين العالم "إننا لا نمتلك معرفة حقيقية بالماركسية ، وعلينا أن نعترف بأن هذه المعرفة معرفة محدودة، مسطحة، واليوم ونحن نتساءل عن مصير الماركسية وأزمتها ليس على الصعيد العالمي فحسب، بل في بقية بلدان العالم الرابع أيضاً، فإن تساؤلاتنا وإجاباتنا ستكون بالضرورة محدودة بحدود معرفتنا بالفكر الماركسي .

على أنه برغم ما حدث خلال السنوات الماضية ، وبرغم البلبلة الفكرية التي تغذيها ترسانة النظام الرأسمالي ضد الفكر الاشتراكي عامة ، والماركسي خاصة ، فلم تبرز الحاجة الى الاشتراكية والى الفكر الماركسي كما تبرز إليه هذه الأيام، فالحكم على الاشتراكية لا يكون بما أصاب التجربة السوفيتية من انهيار، وإنما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون بما تمارسه الرأسمالية العالمية وخاصة الامبريالية الأمريكية اليوم من اشكال الاستغلال وقهر الشعوب الفقيرة بشراسة عدوانية مجرمة تجلت في موقف الرئيس الأمريكي العنصري دونالد ترامب المنحاز كلياً لدولة العدو الصهيوني على حساب حق شعبنا الفلسطيني في الحرية والاستقلال والعودة وبناء دولته المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس كحل مرحلي لا يلغي حق شعبنا التاريخي في أرض وطنه فلسطين.

 إن العلاقات الدولية في هذه المرحلة التي دخلت فيها الرأسمالية طورها الإمبريالي المعولم ، لا يعني أنها قد تغلبت على تناقضاتها ، ولا يعني أن الكامن ، ونقصد بذلك حركة فقراء العالم وكادحيه قد مات ، فبالرغم من أن الرأسمالية قد أفلحت في تأجيل الانفجار عبر توسيع مجال التناقضات باسم العولمة ، إلا أنه تأجيل سيؤدي بالضرورة الى تزايد معاناة وإفقار شعوب العالم وأممه المسحوقة من جهة والى تزايد حركات المقاومة الشعبية ببعدها الطبقي الثوري اليساري- رغم ظاهرة انتشار المد اليميني الرجعي في اللحظة الراهنة- من جهة اخرى ، ولذلك فمن الطبيعي والضروري بصورة حتمية، أن تسعى هذه الأغلبية المتضررة من هذا النظام الشرير ، الى تقويض أركانه من أجل بناء نظام لا تحكمه هذه التناقضات ، بشرط امتلاك البرنامج الواضح المستند الى مفهوم وتطبيقات الاشتراكية  بصورة أولية، بمثل استناده الى مقومات الديمقراطية والعلم والحداثة والمعرفة المعاصرة ، والتكنولوجيا التي أصبحت –قوة أساسية من قوى الإنتاج في هذه المرحلة ، تمهيدا لصياغة المشروع الإنساني التقدمي البديل ، وتفعيل حركته ، من أجل إخضاع مقتضيات العولمة لاحتياجات شعوب البلدان الفقيرة وتقدمها الاجتماعي، ومن أجل المساهمة في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الاحتكاري.

إن البديل إذن أكثر من أي وقت مضى هو كما عبرت عن ذلك روزا لوكسمبورغ في عصرها الاشتراكية أو البربرية، مع التذكير بأننا لا يجب أن نعول فقط على الأزمة البنيوية للرأسمالية أو أن نقول إن غطرسة الخطاب الليبرالي الجديد تحمل في طياتها معاول هدمها ، بل يتوجب التأسيس الفعال –بدافعية ثورية عالية ووعي عميق- للدعوة إلى حوار يساري يستهدف التفاعل والتنسيق مع كافة الأحزاب اليسارية الماركسية في كوكبنا عموماً، وفي بلدان وطننا العربي تمهيدا لولادة الحركة الماركسية الديمقراطية العربية ، من أجل تحقيق أهدافنا في التحرر القومي والبناء الاجتماعي الديمقراطي التقدمي بآفاقه الاشتراكية كمخرج وحيد لتجاوز أزمة مجتمعنا العربي المستعصية، بما يمكننا من تفعيل نضالنا ضد العدو الصهيوني وتحقيق أهدافنا التحررية الوطنية، مدركين أن هذه الأهداف تتشابك وتترابط بشكل وثيق مع الأهداف القومية والإنسانية بصورة عامة، ومع أهداف الشعوب الفقيرة في العالم الرابع خصوصاً من اجل إخضاع مقتضيات العولمة لاحتياجات شعوب هذه البلدان وتقدمها الاجتماعي، ومن أجل الإسهام في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الاحتكاري . لقد حانت اللحظة للعمل الجاد المنظم في سبيل تأسيس عولمة نقيضه من نوع آخر عبر أممية جديدة، ثورية وعصرية وإنسانية.

أخيراً، فإن ما يمكن الجزم فيه بأن الصين مرت طوال العقود الخمسة الماضية بتجربة نوعية خاصة لتطبيق نمط الاقتصاد المختلط الذي نأمل أن تكون نهايته حسم تناقضات هذه المرحلة التي يعكسها واقع وجود أشكال متنوعة من أنماط الإنتاج وأشكال الملكية الخاصة والعامة، رغم أنه كان يجب أن تحقق الصين نموها للاستناد على ما راكمته تجربة البناء الاشتراكية حتى نهاية حقبة " ماو" وما تحقق في هذه المرحلة قياساً بوضع الصين قبل التحرير لم يكن أقل اعجازاً عن اعجازات النمو الحالية والذي تحقق عبر طريق الانفتاح بكل ما ينطوي عليه من غموض تجعل من الصعب وقف مآل وحركة التناقضات الناشئة بانتصار الاشتراكية العلمية كخيار لا يقبل التأويل أو التأجيل مع ضرورة التأكيد أن تطور الصين وازدهارها أمر يثلج صدورنا، ويدفعنا لبناء الآمال والتوقعات على أن تستعيد الصين دورها الأممي بدعم شعوب المحيط وكسر الهيمنة الأمريكية على شعوب العالم كافة، فالمحرك الرئيسي الذي يقف خلف هذه المقالة هو الحرص على الصين الشعب والحزب والدولة والمدرسة الثورية النوعية التي رضعت القوى الثورية اليسارية في دول العالم وفي فلسطين بوجه خاص من حليبها، فالابن لا يجد أو يتمنى لامه سوى الخير.

[1] وتتلخص التمثلات الثلاث كما يلي: التمثل الأول: الحزب الشيوعي ممثلاً للقوى التقدمية في الصين، الثاني: ينبغي ان يمثل الحزب الشيوعي إلى الأبد الثقافة التقدمية الصينية، الثالث: مصالح الشعب نقطة انطلاق للحزب الشيوعي الصيني.

[2] المصدر: موقع البنك الدولي – الانترنت – اجمالي الناتج المحلي لدول العالم.

-[3]  الصين من التطرف للاعتدال محمد خيري الوادي ص152.

-[4] المرجع السابق ص155.

-[5] مرجع سابق ص 153.

-[6] سمير أمين قانون القيمة المعولمة، ترجمة سعد الطويل، إصدار المركز القومي للترجمة 2011.