Menu

الأدب والمقاومة

د. سهام أبو العمرين

أضحى الأدب المقاوم رافدًا أساسيًا من روافد الأدب العربي، إذ أسهم بشكل كبير في تأسيس خطاب معرفي تصادمي مع بنية الثقافة الإمبريالية بما ينتجه من نصوص "مُقَاوِمَة" تثويرية تهدف لخلخلة بنية القهر التراتبية. على اعتبار أن اللغة التي تعد عماد الأدب ليست محايدة، بل مشبعة بالأيديولوجيا فهي تصطبغ بالأطر المعرفية والاجتماعية للأفراد، هي وكما يرى "بول ريكور" بيت الوجود، الذي يقيم فيه الإنسان، وهؤلاء الذين يفكرون بالكلمات ويخرجونها هم حراس ذلك البيت، وحراستهم تحقق الكشف عن اللغة، ومتى تحققت اللغة تصبح قوة تكشف وتظهر وتجلي([1])؛ فالكلمة فعل تحريضي ضد الآخر من أجل إعلاء الذات فردية كانت أم جماعية؛ فهي "أداة الكينونة للتعبير عن وجودها أو حضورها"([2]) كما يقول فيلسوف التأويلية "هايدجر". وهذا من شأنه أن يحدث التغيير ويشعل الثورات. ولأن الكتابة هي عملية هدم وبناء فيمكن اعتبار نصوص الأدب المقاوم خطابات تتجاوز مفهوم انتقاد الواقع متى ما تحررت من الصوت الأيديولوجي الزاعق ولامست جوهر القضية بطريقة فنية. فكل نص أدبي حقيقي على حد تعبير "أدونيس" هو بمثابة "حرب أو هجوم"([3])؛ فإذا كانت مهمة المقاومة "أن تفجر الواقع السياسي والاقتصادي وتغيره، فإن مهمة الشاعر العربي الثوري هي أن يفجر نظام اللغة (الثقافة – القيم) السائد ويغيره"([4]).

قد يقع بعض الأدباء الذين يبنون عوالمهم المتخيلة معتمدين على المرجعية السياسية بشكل محوري في مأزق الخطابية والمباشرة وعلو النعرات الأيديولوجية التي يقف ورائها دومًا المؤلف الضمني الذي يقف خلف شخصياته ويشحن سرده بشحنات أيديولوجية مما يفقد النص الأدبي شاعريته، إلا أنه ليست كل رواية تستقى مادتها من العالم السياسي تقع في تلك المنطقة التي تبعدها عن شاعرية العمل الحكائي المتخيل؛ لأن السياسة حاضرة في كل الخطابات الأدبية، وهى محور فكري لا يمكن تغافله، فكل شيء مرده السياسة ومرهون بها على مختلف المستويات، ولكن الأمر يتعلق أولا وأخيرًا بقدرة الكاتب على تضفير أو تذويب الحكي السياسي المجرد (ما هو غير أدبي) فيما هو أدبي؛ لأن الرواية أولا وأخيرًا عمل متخيل، فليست مهمة الكاتب أن "يشجع ويصف ويثير، بل المهم أن يقود إلى رؤيا حياتية إنسانية جديدة وثورية. المهم أن يغير البنية النفسية والعقلية السائدة لا أن يستلهمها ويغنيها"([5]).

المقاومة كلمة مشتقة من الفعل الثلاثي "قوم" الذي حمل عدة معان في المعاجم العربية، أولها، معنى الانتصاب والعزم؛ فنقول قًام قًوما، وقِيامًا، وقومة أي انتصب ([6])، ومعنى ثان يدور حول المنازلة والمغالبة والمقارعة، يقال: "قاومته في كذا: أين نازلته"([7])، و" قاومه في المصارعة وغيرها. وتقاوموا في الحرب أي قام بعضهم لبعض"([8])، و"قيل للمخبل: قاوم الزبرقان، فقال: إنه أندى مني صوتًا وأكثر مني ريقًا وإني لا أقوم له في المواجهة ولكن دعوني أهاديه الشعر من وراء لوراء"([9]). ومعنى آخر يحمل معنى الثبات والديمومة، فقد ذكر الزمخشري في أساس البلاغة: "قام على الأمر: دام وثبت"([10]).

ومن ثم، فالدلالات المتعلقة بالجذر الثلاثي "قوم" تتعلق بمفردات الانتصاب، والعزم، والمنازلة، والثبات، وهي مفردات تستدعي معاني المواجهة والمدافعة ورد الأذى والمغالبة بمواجهة الجور لإقامة العدل.

المقاومة فعل وجودي ارتبط بالإنسان في صراعه من أجل البقاء والحفاظ على ذاته وهويته ووجوده تجاه الأخطار المحدقة به والتي ترصدته من أزمان سحيقة، هذا الصراع هو الذي شحذ عقل الإنسان لابتكار الفنون والتي وظفت "لبث روح المقاومة في صراعه مع القوى الأخرى التي تهدده وتعرض كيانه للخطر...(فـ) ظهرت العبادات والطقوس العقائدية وعرف التمائم والقرابين وعرف الفن"([11]) وهي وسائل تحايل بها الإنسان الأول على مخاوفه؛ فعمر المقاومة من عمر الإنسان على البسيطة، فهي فطرة وغريزة، وصفة من صفات الإنسان الحر، وسمة من سماته الأساسية التي لا تنفك عنه طبيعيًّا، فالإنسان يقاوم لا إراديًّا أي مسلك عدائي تجاهه، بأن يتخذ وضعياته العفوية للدفاع عن ذاته وعمن حوله. ويرتبط مفهوم المقاومة بمفهومات عدة كالحرية والكرامة والإباء فمن فقد مقاومته واستسلم للآخر/ المعتدي كأنما فقد عزته بل وإنسانيته؛ فالمقاومة لا تجتمع مع الذلة والخنوع، فهي التي تجعل الإنسان جديرًا بإنسانيته.

والمقاومة قد تكون فردية أو جماعية، تتعدد أشكالها بتعدد أنماط الاعتداء من الآخر المعتدي، الذي قد يكون فردًا يمارس وصايته وقهره على فكر وجسد الآخر المعتدى عليه، وقد يكون جيشًا محتلاً، فيكون الاعتداء ماديًا، أو معنويًّا كمحاولة المحتل محو ثقافة أمة بالعبث بمقدراتها التراثية اللغوية وتزييفه للتاريخ في محاولة لطمس هوية هذه الأمة ليكون ضربًا من ضروب الغزو الفكري الذي يتطلب مقاومة دفاعية بالعودة إلى الذات وحمايتها من الآخر الدخيل المُسْتَلِب. ويحدد معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية مفهوم المقاومة من الناحية السياسية على أنها "رفض الأوامر وصد القوة، وقد تكون المقاومة سلبية Passive Resistance وهي المقاومة التي لا تقوم على العنف، والمقاومة السلمية Non-violent resistance أي رفض التعاون"([12]) مع الآخر.

المقاومة ليست مقصورة على شكل محدد من أشكال العمل الوطني، فقد "يتسع مدلولها ويتراخى بين لهجة السلاح عندما يأخذ السلاح دوره، مرورًا بكل الوسائل التي يمكن أن يتغيا بها المقاوم إضعاف خصمه والتخلص منه، بالقلم بالريشة، بالإزميل، بالصوت، بالعيون، بالغناء، بالرقص، بالصخب، والعنف وحتى بالهدوء والصمت... فهو يتمدد على أوسع مساحة من إمكانات التصرف الإنساني الرافض لواقع ما.. من أقصى جوانب السلبية إلى أقصى جوانب الإيجابية"([13])، ولأن الأديب ضمير أمته وشاهد عصره فكان دومًا هو المرهص للفكر الثوري، والداعم لحركة التغيير.

لا يستطيع الأديب أن ينفصم عن قضايا وطنه، فمصيره مرتبط بمصير الجماعة التي ينتمي إليها، ويأتي أدبه مجسدًا لهموم وطنه وكفاحاته، وبالتالي نحصل على مصطلح "أدب المقاومة" الذي يتميز بسمات محددة تجعله أدبًا ملتزمًا يُعنى بمناقشة قضية التحرير ومواجهة الذات الفردية والجمعية للآخر/ المعتدي، على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية.

يمتد أدب المقاومة الفلسطينية إلى تاريخ طويل من النضال سبق نكبة 1948م، إذ انبثقت روح المقاومة الفكرية التي تساوقت مع النضال بالسلاح ضد الانتداب البريطاني والكيان الصهيوني، ثم قدمت النكبة لأدبائها "مادة واقعية غنية، وشغلت بمأساتها وويلاتها، وأهوالها الضمير العربي، فانطلقت الصرخة من أعماقه داعية إلى مطاوعة الأدب الحديث لواقع الأمة العربية المرير، ليعيش الأدب تجربة الأمة"([14])، لتبدأ مرحلة استحضار الذات القومية المقاومة في الأدب شعرًا ونثرًا، وفي أعقاب هزيمة 1967 "انهارت الأسوار التي توهمت الدولة الصهيونية أنها رفعتها حول ما قدرت أنه قبر الشخصية الفلسطينية، وإذا بهذه الشخصية، على عكس ما خطط ضدها، تبدو في حالة من الوعي العميق، وقد انتصبت قامتها وعلا صوتها"([15]) ليتدفق نهرًا من الأدب المقاوم الذي أسهم في اتقاد جذوة الثورة الفلسطينية ضد الآخر/ المحتل.

أول من قدم مصطلح "أدب المقاومة" على الساحة الثقافية العربية هو الأديب الفلسطيني غسان كنفاني عام 1966 عبر كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968"، وهذا الأدب، وبحسب عباراته؛ يمثل "صرخة شجاعة"([16])، ويجسد حالة من حالات "الصمود من الداخل"([17])، وأن "الالتزام بالقضية، الالتزام الواعي، هو الإطار الذي أستطاع أن يقود خطوات أدب المقاومة"([18])، وأنه استطاع في فترة مبكرة الربط بين البعدين السياسي الاجتماعي، والربط كذلك بين قضية مقاومة المحتل الإسرائيلي وقضايا التحرر في البلاد العربية والعالم([19]). هو الأدب "المعبر عن الذات (الواعية بهويتها) و(المتطلعة إلى الحرية) في مواجهة الآخر العدواني، على أن يضع الكاتب نصب عينيه جماعته وأمته، ومحافظًا على كل ما تحفظه من قيم عليا.. ليس متطلعًا إلى الحرية بمعنى الخلاص الفردي"([20]).

إذا كانت المقاومة تهدف إلى تدعيم ركائز الحرية والالتزام والمسئولية في الإنسان، وقهر نظام الاستبداد البطريركي الإمبريالي، ومجابهة كل ما من شأنه هدر كرامة وإنسانية الإنسان، من أجل تدعيم مشاركة المرء في تغيير واقعه، فإن أدب المقاومة يترجم هذا المسعي ويبلوره بشكل فني رمزي، ليصبح الكاتب مناضلا في مجاله، لا يقل دوره عن دور المناضل المسلح، وهذا ما تراءى جليًّا في سياسة قمع الاحتلال للمبدعين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة التي تراوحت بين سجنهم وتصفيتهم؛ فقد أودع "محمود درويش" السجن مرارًا، وأن سميح القاسم ذاق مرارة الأحكام العسكرية، كما مارس الاحتلال سياسة الضغط على مكان العمل الذي يعمل فيه الشاعر فوزي الأسمر لتطرده من عمله بسبب شعره ونضاله السياسي معًا، وكذلك تعرض كل من توفيق زياد وتوفيق فياض للطرد من عملها، فضلا عن سلسلة الاغتيالات للمبدعين على يد المخابرات الإسرائيلية كاغتيال غسان كنفاني، وماجد أبو شرار، وكمال ناصر وغيرهم.

__________________________________________________________________________

[1])انظر، ريكور، بول: إشكالية ثنائية المعنى، ترجمة: جبوري غزول، فريال، مجلة ألف، ع 8)، ربيع 1988، ص145.
([2])حمودة، عبد العزيز: المرايا المحدبة "من البنيوية إلى التفكيك"، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت ، ع (232)، إبريل، 1998، ص 302.
[3])أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، بيروت،1996، ص 102.
[4])المرجع السابق، ص 103.
[5]) المرجع السابق، ص 106.
([6]) انظر ، الفيروز أبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، دار الحديث، القاهرة، (د.ط)، 2008، ص 1382. وكذلك، القاموس الوجيز، مادة قوم، مجمع اللغة العربية، مصر، ط (1)،1980، ص 521.
([7])الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، سلسلة المعاجم والفهارس، مج (5)، ص 231.
([8])انظر، الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر، مختار الصحاح، مادة (قوم)، مكتبة لبنان، 1986، ص 232. وكذلك، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، ط(4)، 2004)، ص767،768.
([9]) الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمد بن عمر بن أحمد، أساس البلاغة، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط(1)، 1981، مادة (روى)، ص331.
[10])السابق، ص111.
([11]) النجم، السيد: أدب الحرب، ص12، منشور على موقع كتب عربية www.kotoabarabia.com
([12])بدوي، أحمد زكي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، بيروت-لبنان، 1993، ص 356.
([13]) محمود، حسني، شعر المقاومة الفلسطينية "دوره وواقعه في عهد الانتداب"، الوكالة العربية للتوزيع والنشر، الزرقاء-الأردن،(د.ط)،س1984، ص7.
([14]) الأشتر، صالح، في شعر النكبة، مطبعة جامعة دمشق، سوريا، ط(1)، 1960، ص 87.
([15])محمود، حسني، شعر المقاومة الفلسطينية "، مرجع سابق، ص5.
([16])كنفاني، غسان، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط(1)، 1968، ص43.

[17])السابق، 32.
[18])السابق، ص 55.
[19])انظر، السابق، ص 45.
([20])نجم، السيد، أدب المقاومة، كتاب الكتروني منشور على الشبكة الإلكترونية: https://books.google.ps