بعدَ عقدٍ كاملٍ من الصّراعِ في ليبيا حلَّ بصيصُ أملٍ لحلّ الأزمة من خلال تحديد موعدٍ لإجراءِ عمليّةٍ ديمقراطيّةٍ استثنائيّةٍ لانتخاباتٍ برلمانيّةٍ ورئاسيّةٍ مباشرةٍ ومتزامنة، ينتهي من خلالها الصّراعُ الدائرُ على السلطة في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأوّل الماضي؛ ليأتيَ الظلامُ مسرعًا ويعلن عن إجهاض الانتخابات بإعلان المفوضيّة الوطنيّة العليا للانتخابات للقوّة القاهرة، ليجدَ الليبيّون أنفسهم من جديدٍ رهائنَ لدى سلطاتٍ انتقاليّةٍ مليئةٍ بالفساد، وأجسام تشريعيّة عرقلت - وما زالت تعرقل - بشكلٍ منظّمٍ سيرهم نحو صناديق الانتخابات، ابتداءً من المجلس الأعلى للدولة الذي يعدّ امتداد المؤتمر الوطني العام المنتخب في شهر يوليو عام 2012م، ثُمَّ مجلس النواب الذي انتخب في شهر يونيو عام 2014، هذهِ الأجسام في أعمارها تعدّ أطول سلطاتٍ برلمانيّةٍ تشريعيّةٍ شهدتها ليبيا بعد التجربة البرلمانيّة بعهد المملكة الليبيّة في خمسينات وستينات القرن الماضي، أمّا السلطةُ الانتقاليّةُ التي أخرجها ملتقى الحوار السياسيّ الليبيّ، الملتقى الذي مثّل أعضاؤه أطراف الصراع كافةً في ليبيا، وشاركت به مختلف القوى السياسية والمجتمع المدني والقبائل، ليخرج هذه السلطة بمسمي حكومة الوحدة الوطنية، وكان من أولويات المهام الموكلة إليها في نصوص الاتّفاق السياسي التمهيد لإجراء انتخاباتٍ برلمانيّةٍ ورئاسيّةٍ مباشرةٍ ومتزامنةٍ في الرابع والعشرين من ديسمبر، وتماشيًا مع الإخلال بالمسؤوليّة الذي قامت به السلطات التوافقيّة المتعاقبة؛ ضربت حكومة الوحدة الوطنية الانتخابات بعرض الحائط وساهمت في إفشالها مع باقي الأطراف السياسية التي من مصلحتها تأجيل وترحيل الانتخابات إلى موعد مجهول تضمن من خلاله استمرار البقاء في السلطة لتعبث بمصير ليبيا وشعبها، لنقف اليوم أمام مشهد مرعب من خلال هذه الاطراف التي تملك القوة وتحكم على الأرض وهي متمثلة شرقاً وجنوباً في القيادة للجيش الليبي التابعة شكلياً لمجلس النواب أخر سلطة تشريعيّةٍ منتخبةٍ وغربًا، حيث تحكم مجاميع مسلحة متعددة الولاءات والانتماءات يتبع البعض منها لحكومة الوحدة الوطنية وأخرى لرئيس الاركان التابع للمجلس الرئاسي الليبي الذي هو الاخر من مخرجات ملتقي الحوار السياسي كسلطة محايدة من مهامها التمهيد لإجراء مصالحة وطنية وتوكل إليها مهام القائد الاعلى للجيش.
كل هذه الأجسام والسلطات، وبسبب مخالفتها لنصوص الاتفاق السياسي المبرم في جنيف؛ خلقت هذه الحالة المرعبة التي تعيشها ليبيا، وتحولت لأطراف تتنافس في الفساد، وتقوم بشكل ممنهج بنهب مقدرات وثروات المجتمع، وترتكب انتهاكات جسمية في ملفات حقوق الانسان فهناك المئات من المعتقلين السياسيين في سجون شرق وغرب البلاد، وحالات تصفية جسدية طالت عدد من السياسيين والمعارضين، إضافة للأوضاع المعيشية الحرجة التي يعيشها المواطنون بسبب الانقسامات فضلا عن الصراع المحتدم على السلطة، ومجدداً أمام هذه الحالة العبثية لم يعد هناك خيار أمام الدول الاقليمية والدولية المتداخلة في ليبيا الا الضغط على هذه القوى السياسية لإجبارها على الذهاب نحو للانتخابات كأفضل تسوية تنهي صراع الشرعيات وتمدد عمر الاجسام المغتصبة للسلطة، فالحل المسلح لم يقدم نتيجة ابتداء من انقلاب "فجر ليبيا" حتي الحرب التي دارت على أطراف طرابلس في عام 2019 وانتهت بإعلان الهدنة ومن ثم اللجوء لحوار سياسي ينتهي بتحديد موعد لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وفق وثيقة مؤتمر برلين الأول.
الليبيون بحاجة لعملية ديمقراطية استثنائية يذهبوا من خلالها لانتخاب برلمان جديد ورئيس يحكم البلاد، توكل إليه مهمة جمع السلاح وحلحلة كافة المجاميع المسلحة نحو جيش منظم يتبع الدولة ويحتكر قوة وحيازة السلاح؛ إذ استمد الرئيس شرعيته من الصندوق والشعب، وهذا كان وما زال متاح وتدعمه غالبية القوى الوطنية، والمفوضية الوطنية العليا للانتخابات برئاسة الدكتور عماد السايح ما زالت تؤكد بأن العمل الفني والانجاز الذي قامت به قبل الموعد المحدد سابقاً، والذي انجزته بجدارة وشاهدناه في أواخر شهر نوفمبر العام الماضي من خلال عملية تسجيل الناخبين التي تجاوزت الاثنين مليون وثمانمائة الف ناخب وناخبة الذين سجلوا وأكدوا على رغبتهم في الذهاب نحو هذا الخيار، حيث الاحتكام للصندوق والعمل على إجراء الانتخابات في مواعيد جديدة ومحددة؛ غير أن ذلك سوف يتعرض حتماً للفشل من قبل القوى السياسية الحاكمة كون الانتخابات ليست في صالحها وتعمل دائماً على خلق الفوضى التي من خلالها تضمن بقائها أطول مدة في المشهد السياسي والحكم.
وبالعودة للوضع الميداني على الأرض فهو كذلك سيء جداً؛ فالليبيون من جديد تمارس في حقهم جرائم نهب ممنهجة لمقدراتهم وثرواتهم من قبل السلطات الحاكمة شرقاً وغرباً، والمدعومة اقليمياً ودولياً من محاور متعددة تراهن على بقاء الوضع كما هو عليه، لتتحصل على مصالحها على حساب الشعب الليبي، ما تقوم به السلطات الحاكمة لم يحدث اطلاقاً طوال العقود الماضية، حيث أصبحت عائلات تنفرد بالحكم على حساب تجزئة الوطن وانقسام الشعب، شرقاً وجنوباً؛ إذ يسيطر أبناء المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش مدعومين من قبل مجلس النواب برئاسة "عقيلة صالح" وبعض القبائل والتيار الديني "السلفي المداخلي" في ظل حكم انعدم به مناخ حرية التعبير والعمل السياسي الحر، وفي غرب البلاد تسيطر عائلة الدبيبة التي يترأس ابنها "عبدالحميد الدبيبة" رئاسة حكومة الوحدة الوطنية، وهي من العائلات التي كونت ثروة طائلة من خلال لعلاقة التي جمعت عميد العائلة "علي الدبيبة" بالعقيد "معمر القذافي" وهم في أسسهم موظفين بقطاع البناء وتشييد أعطيت لهم مليارات الدينارات في العهد السابق لتنفيذ مشاريع البنية التحتية والبناء كونوا من خلالها ثروتهم الطائلة واستطاعوا من خلال أموالهم تجديد ولائهم للعهد السياسي الجديد؛ تعتمد هذه العائلة على مجاميع مسلحة تقاسمت طوال العقد الماضي مناطق عاصمة البلاد طرابلس ارتكبت فيها العديد من الجرائم والانتهاكات الجسيمة بحق المواطنين، وتعتبر هذه المجاميع مفاتيح الحكم في طرابلس التي بداخلها مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط وعدد من المؤسسات السيادية والوزارات الخدمية ومقر السلطة التنفيذية، تتصادم هذه المجاميع فيما بينها باستمرار لصالح الاطراف السياسية المتصارع على السلطة والتي تحاول السيطرة على القرار من خلال الدخول إلى طرابلس، تحصلت حكومة الوحدة الوطنية مؤخراً على دعم من خلال تحالفها مع مفتي دار الافتاء "الصادق الغرياني" الذي أصدر مجلس النواب في قت سابق قراراً بعزله من منصبه، ويعتبر المتحكم في دار الافتاء هم أعضاء الجماعة الليبية الاسلامية المقاتلة التي كانت سابقاً الكيان الذي جمع المقاتلين الليبيين بأفغانستان ويتمتع أعضاء الجماعة بعضويات بمجلس دار الافتاء.
التداخل الإقليمي الداعم لحكومة الوحدة الوطنية يتمثل في دول تركيا والإمارات والجزائر، فتركيا تسيطر عسكرياً وأمنياً على غرب البلاد وتعتبر مرجعية الحكومة الوحدة الوطنية في قرارتها السياسية؛ فتركيا من الدول التي تصدت للمشير "خليفة حفتر" أثناء تقدمه باتجاه طرابلس ودعمت حكومة الوفاق الوطني ضده ومن خلال هذا التدخل نجحت في التموضع بأريحية في غرب البلاد، ومؤخراً تقارب بين الأمارات العربية المتحدة وحكومة الوحدة، تتحصل من خلاله الإمارات على مصالحها في ملف النفط والغاز من خلال رعايتها لاتفاق غير علني تم بين نجل القائد العام للجيش الليبي "صدام حفتر" و "إبراهيم الدبيبة" نجل "علي" عميد عائلة الدبيبة، ونجح هذا الاتفاق من خلال قيام القيادة العامة بفتح الموانئ والحقول النفطية مقابل تلقيها مستحقاتها المالية من قبل الحكومة التي تتحكم في إيرادات بيع النفط عن طريق محافظ ليبيا المركزي "الصديق الكبير"، وشمل الاتفاق تنحية رئيس المؤسسة الوطنية للنفط "مصطفي صنع الله" وتعيين بديل له يكون محايداً بين الطرفين لتقوم الإمارات باقتراح أحد رجالها "فرحات بن قدارة" الذي شغل في عهد العقيد القذافي منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي، وانتقل للإقامة بالإمارات العربية المتحدة بعد أحداث الثورة الليبية وأصبح مقرب من دوائر القرار هناك، في المقابل بقي الموقف السياسي الرسمي للقيادة العامة للجيش داعم لحكومة الاستقرار الوطني التي اعتمدت من قبل مجلس النواب في شهر فبراير/شباط الماضي برئاسة المرشح الرئاسي و وزير الداخلية الاسبق في حكومة الوفاق الوطني "فتحي باشاغا" والذي تنافس مع عبدالحميد الدبيبة في جولة التصويت النهائية بملتقى الحوار السياسي الليبي، لتحكم ليبيا اليوم سلطتين تنفيذيتين الأولي برئاسة "عبدالحميد الدبيبة" والتي أخرجها ملتقي الحوار السياسي وترفض تسليم السلطة إلا لسلطة منتخبة، والثانية المعتمدة من البرلمان برئاسة "فتحي باشاغا" والذي يتهم حكومة الأول بعرقلة الانتخابات وبأن حكومته فشلت في تنظيم الاستحقاق الانتخابي. وتتقاسم السلطتان في البلاد أجزاء من الجغرافيا الليبية بناءً على التحالفات العسكرية والمسلحة على الأرض التي منعت رئيس الحكومة المكلفة من دخول العاصمة طرابلس غير مرة.
كما بدأت بالسؤال في بداية هذه المقالة "ليبيا إلى أين؟" أؤكد بأن الأطراف صارت منشغلة أكثر من أي وقت مضي في عملية نهب وإفراغ الخزائن الليبية لتغذية نفوذها وتثبيت حكمها وتقوية سلاحها المستبد، فلا تمتلك هذه الأطراف أي مشاريع مستقبلية تنقذ الحاضر وتؤسس لمستقبل جيد لليبيين والأجيال الناشئة والتي تليه ولكنها تملك الخراب والدمار والانقسام والنهب، ولهذا فأنني أرى بأن الحل في يد الشعب الذي إذا قرر استرداد بلاده من هؤلاء الساسة العبثيين ويصنع التغيير فسيكون قادر على ذلك، فقط على القوى الوطنية تنظم صفوفها وتلتحم لإطلاق صرخة الخلاص تطالب بالذهاب للخيار الديمقراطي السلمي وتقرير المصير وتجديد الشرعية من خلال صناديق الانتخابات، أما غير ذلك ستمضي السنوات وتتوسع معها دائرة الانهيار وتتضخم الأزمات وتتمدد منظومة الفساد ويحكم المستبدين حتي نفقد الأمل في رؤية بلادنا مستقرة وموحدة رائدة ومتقدمة، نعم نحتاج لحراك شعبي واسع وعريض منظم وواعي يرفض الجميع ويسترد حقه ويعيد لليبيا كرامتها وسيادتها التي فرط فيها هؤلاء الساسة المقامرون.