Menu

الفلسطينيات

الأديب أحمد بشير العيلة

يكفي يومٌ واحدٌ في العام لنحتفي بكل نساء العالم في الثامن من آذار، ولكن لا يكفي يومٌ واحدٌ في العام لنحتفي بالمرأة الفلسطينية، فبالكاد تكفي كل أيام السنة احتفالاً بأولئك النسوة التاريخيات الفائقات العاليات.

في يومٍ واحد في الثامن من آذار ماذا سنقول ولدينا قصصٌ تعد من روائع القصص العالمي لكل امرأةٍ فلسطينية على حدة، لك أن تتخيل عدد قصصٍ يفوق السبعة مليون قصة بعدد نساء فلسطين على الأرض، كل امرأة فلسطينية حكاية لوحدها، ومجموع حكاياتهن من الألم والصمود يعادل ألم وصمود نساء الكون، أنا لا أبالغ، اسمعوا حكاية كل فلسطينية لوحدها، كيف ستخرج بوصفٍ واحد، أنهن فائقات..

الفلسطينية؛ كانت بل ظلت إلى الآن هدفَ إبادةٍ للمشروع الصهيوني، بل أن المجازر التي ارتكبت ضد شعبنا، لا تحقق أهدافها الوحشية إلا ببقر بطون الفلسطينيات وقتلهن، كيف لا وهن المنجب الأوحد للأبطال والمقاومين والرافضين للاحتلال وطمس الهوية، عشرات الآلاف من الشهيدات منذ النكبة لم يكن عائقاً طبيعياً أمام زيادة عدد الفلسطينيين تسعة أضعاف عما كانوا عليه حين النكبة، لقد حملت المرأة الفلسطينية على كاهل رحمها مضاعفة الشعب الفلسطيني 9 مرات لينجو الفلسطينيون أجمع من هولوكست صهيوني حقيقي، فالهدف الأساسي للصهاينة على الأرض هو إبادة هذا الشعب.

الفلسطينية لا تعترف بصعوبات الحياة، كانت أمي وجيلها من الصغيرات أثناء الهجرة يقطعن الكيلومترات الموحشة المليئة بالأحراج والصبار الشائك، والرصاص محيطٌ بهن، من أجل أن يجلبن الماء من بئرٍ بعيد عن المخيم إلى الأنفس العطشى المكسورة في المخيم، كانت تحكي عن قدرة النساء الفلسطينيات والصغيرات الفلسطينيات بكل سلاسة وبساطة لأنها تروي سيرةً حقيقية من الوجع، وأنا لا أملك إلا أن أتسامق لأعلى وأعلى ولستُ خائفاً على انحناء جذعي لأني ابن أمي الفلسطينية.

الفلسطينية التي اقتلعها الاحتلال من بيتها من مدينتها أو قريتها، تحمّلت حمل أمتعة البيت بأطفاله ورجاله على رأسها، وصغارها على كتفها وهي تسير عشرات الكيلومترات خوفاً من المذبحة وحفاظاً على النسل الفلسطيني، ومن غريب القصص أن جدتي من أبي (صدّيقة) حملت آلة الخياطة الحديدية كل تلك المسافات، لأنها تدرك أن القادم لا يمكن مواجهته بالفقر.

الفلسطينية؛ حملت الطين على رأسها وعجنته بيديها التي لم تخشى عليهما من التشقق، من أجل أن تبني بيديها غرفةً أو اثنتين في أماكن اللجوء، وترتفع إلى الأعلى لكي تضع ثقلاً على لوح  (زينقو) كي يحمي أبناءها وزوجها المهدوم من التهجير من عناء السماء.

الفلسطينية؛ قهرت المرحلة ودفعت أبناءها نحو التميز والتعلم والرجولة، لم ترضى فلسطينية واحدة (تدليع) ولدها حتى وإن كان وحيدها، جدتي الصدّيقة دفعت بأبي الطفل الصغير إلى الغربة في العريش والشيخ زويد ليتعلم الابتدائية وحيداً بعيداً عن أحضان أمه فقط (كي يتعلم) وذلك فيما قبل مدارس الأونروا، وتحملت ألم فراق ابنها لأنها تدرك مثل كل الفلسطينيات أن العلم سلاحٌ للفلسطيني مثله مثل البندقية بل أدهى وأقوى.

الفلسطينية؛ حملت السلاح وقاومت واقتحمت الحصون والمعسكرات، بل واستطاعت امرأة فلسطينية واحدة هي دلال المغربي أن تفرض حالة منع التجول وإعلان جمهورية فلسطين لساعات وسط (تل أبيب) آتية من المنافي عبر زورقٍ صغيرٍ من البحر، حتى استشهدت.

الفلسطينية؛ وقفت عبر تاريخ وجودها على الأرض في مواجهات يومية مع المحتل، وكم من فلسطينية قتلها الصهاينة وهي تعبر بين نبضتين من الوطن عند حاجزٍ مزقنا، وكم من فلسطينية حملت حجارتها وألقتها على رؤوس الجنود، وكم من فلسطينية قارعت الجنود في مواجهاتٍ أقل ما يقال فيها أنها أسطورية.

الفلسطينية تعشق الأرض أكثر من أبنائها، تجيد لغة الأرض، تخاطبها فتُخرج الأرض من بطونها نباتاً مختلفاً ألوانه فيه بقاءٌ للناس، تجيد مناداة الزرع فيأتي طوعاً حتى لو في حوضٍ على شرفة، الفلسطينية احتضنت أشجار الزيتون كي تحمي بجسدها جذوع الأرض المباركة، وطهارة الأرض المباركة، وقدسية الأرض المباركة.

الفلسطينية؛ حارسة الأقصى معززةً بقوة ملائكةٍ في صمودٍ ملحمي لحماية أولى القبلتين نيابة عن أمةٍ إسلامية كاملة، مرابطاتٍ فيه عابداتٍ مقاتلاتٍ بأيديهن وقلوبهن ودعائهن.

الفلسطينية أكثر من يجيد التطريز على ثوب الوجع، تفننت في النقش، بل وحافظت على كنعانيته منذ آلاف السنين سلاحها الإبرة، فإن طاوعتها طرّزت ثوباً أدهش العالم حتى سجلته اليونسكو في تراثها العالمي، وإن أرهقها المحتل، غرست الإبرة في عينِ جنديٍ بليدٍ من أوكرانيا.

الفلسطينية، لم يسجل عنها مهما كان دينها مسلماً أو مسيحياً أنها متشددة أو متعصبة، ولم نسمع عن معاداةٍ على الرغم من محاولات الفتنة المتعددة التي لا تنطلي على تلك المرأة المعجونة روحها بكف عيسى وقلب محمد، كيف لا، والمثل الأعلى في الطهارة عبر التاريخ فلسطيني بامتياز: البتول مريم العذراء. لذا أصبح كل بيتٍ فلسطيني (بيت لحم) ونساؤه (لحم البيت).

الفلسطينية المغتربة، أقوى بعد من الفلسطينية في الوطن المحتل، فالعواصف ضد الوجود الفلسطيني أعتى في الخارج عربياً وعالمياً، وفوق كل ما أوتيت به امرأة الداخل من قوةٍ وصمودٍ أسطوري، فهي تزيد على ذلك بقدرة على مجابهةٍ ثقافاتٍ متعددة وقوى أخرى تقف أمام الوجود الفلسطيني في الشتات، لكن الفلسطينية امتلكت فوق كل ذلك القدرة على المحافظة على الإمساك بجمر الهوية الفلسطينية من ملامح وملبسٍ ومأكلٍ ومشربٍ ولكنةٍ وحكايا، وحرصٍ شديدٍ على أن يظل كل ابنٍ لها فلسطينياً بامتياز.

الفلسطينيات مخلوقات من المستحيل، لا يخفن ولا يرتعبن، أي عزمٍ يسكنهن وهن يقدن المسيرات ضد أعتى جيوش العالم، لقد حاورتُ في 2011 في قطاع غزة، عدداً من بطلات مسيرة النساء لتحرير 72 فدائياً من مسجد أم النصر في مدينة بيت حانون في 2008، لقد فعلنها، وحررن المجاهدين وأسلحتهم، تروي لي إحداهن بكل هدوء كيف كانت تصعد على ظهر الدبابة الصهيونية وتحمل جردلاً تكتم به مدخنة الدبابة التي تبث الدخان للتلاعب بالرؤيا، وروت أخرى وقد بتر الرصاص ساقيها عند الإطلاق عليها أثناء المسيرة النسائية، كيف أصرت أن تنجب وهي مبتورة الساقين من أجل أن تلد أبطالاً سيحررون فلسطين حسب ما قالت لي.

الفلسطينية الأسيرة، شمسٌ كاملة مجبورة على أن تحبس أشعتها عن وطنٍ عطشٍ للضوء، الأسيرات شموسنا الأبدية التي يجب أن تدور أسماءهن في فلك البطولات الإنسانية عبر التاريخ، آلاف الأسيرات يعطين مؤشراً لانهزام النخوة وسقوط الإنسانية ليس من قلب الاحتلال المنزوع أصلاً من المبادئ، بل من العالم بأسره، كيف ترضى الإنسانية بعربها وعجمها وثقافاتها السامية والحامية والراقية؛ القومية منها والأممية والشعبوية والقبلية والكونية، كيف ترضى وتسكت عن جريمة إيداع امرأة في السجن فقط لأنها قالت: لا للاحتلال.

الفلسطينيات: الأرق من بتلات شقائق النعمان والأصلد من صخرة المعراج والأعلى من نخيل أريحا والأوسع وجعاً من بحر غزة، أساطير متكاملة لا يكفي الشعر الفلسطيني لتعظيمها، ولا تكفي الحكاية الفلسطينية لسردها (كاملةً) في يومٍ واحدٍ في الثامن من آذار، بل نحتاج لعصورٍ وعصورٍ من الحكي عن الفلسطينيات.