حكومةٌ بمرجعيّةٍ دينيّةٍ شديدةِ التطرّف، هذا ما أنتجته إسرائيلُ بعد سبعة عقودٍ ونصف، حاولت خلالها أن تزاوج بين علمانيّةٍ مصطنعةٍ ودينيّةٍ أصيلة، بعض القوى الدينيّة الوسطيّة رافقت مسيرتها، لكنّها وصلت إلى أعمق محطّاتها... سليل يهوشع بن نون تلميذه النجيب بتسلئيل سموتريتش يستدعي تعليماته المدمّرة للشعوب.
هذه الحكومة التي بدأت تتضح آثارها التخريبية على المجتمع الإسرائيلي نفسه ارتباطًا بطبيعة المرجعيّة الدينيّة العنصريّة التي لم تتوقّف عند كراهية الآخر الفلسطيني، كما جاء في التعاليم التوراتيّة بل إنّ تلك ثقافة لا حدود لها، فهي تمتدُّ للمجتمع الواحد نفسه، وهذا ما يفسّر الصدع الحاصل في إسرائيل باعتباره صدعًا لا يمكن الاستهانة به، يعكس صراعًا بين كتلتين وثقافتين، وإن كانت أسبابه متعدّدةً بين كتل الائتلاف.
هكذا تبدو مصالح الكتلة اليمينية التي يرأسها بنيامين نتنياهو الغارق حتى أذنيه في الفساد، تطارده لوائح اتّهامٍ بات مستعدًّا لحرق الدولة في سبيل الخلاص من السجن، واستمرار حياة اعتادت عليها زوجته التي تشير الكثير من الأحداث إلى دورها الكبير في إدارة الشأن الحكومي وتدخلها في التعيينات والطرد لجهاز الحكومة ومكتب رئيس الحكومة والوزارات.
حزب شاس برئاسة أرييه درعي يسعى لإضعاف القضاء والمحكمة التي حالت دون أن يكون وزيرًا وطردته بقوة الصلاحيات التي تملكها من مقعد الوزارة، بتسلئيل سموتريتش الرجل العائد من بين أسطر الكتب القديمة وقصص التوراة يعدُّ الأمر التقاط صلاحيات ضم الضفة الغربية وجعلها جزءًا من أرض إسرائيل، كما جاء في التوراة.
إيتمار بن غفير العنصريّ حدّ الفاشيّة كل همّه أن يصحو ولا يجد فلسطينيين على هذه الأرض إنّه يجمل مشروعًا للتطهير العرقي، وباعتباره رجلًا دينيًّا أيضًا يتقاطعُ مع شريكه سموتريتش الذي يضع الفلسطينيين أمام خيارات يهوشع بن نون، ومن هنا كان الاتفاق ذات ليلة في بيت بنيامين نتنياهو لدفعهما لتشكيل قائمةٍ مشتركةٍ حيث صمّم الاجتماع آنذاك ليلة السبت، أي وضعهما أمام سيف الوقت؛ لأنّه ممنوع العمل في السبت .ويبقى الحزب الأخير في هذه الحكومة هو الحزب الديني يهدوت هتوراة الذي يمثّل متديني أشكناز أوروبا فقد رفضت المحكمة موازنة مدارسها الدينية لعدم مطابقتها للمناهج العلمية فقد يفتح لها الاستيلاء على صلاحيات القضاء الطريق لأموال باتت ضرورية لاستكمال تديين المجتمع .
إنّ المجتمع الإسرائيلي يذهب أكثر نحو اليمين، الاستطلاعات بين الجيل الصاعد والطلاب تظهر أرقامًا يجب أن تخيف كل العلمانيين في الدولة، فهي تؤشّر على تصاعدٍ سريعٍ جدًّا يعكسُ تغلغل التيارات الدينية، ويعكس مستقبلًا مظلمًا للحالمين ببقاء الدولة بهويتها التي سارت عليها سبعة عقود ونصف، وباتت مهدّدةً بهُويّة لا تشبهها أو هوية أصيلة كانت اختبأت طوال تلك المدة، لكنها ظهرت الآن بهذا الانتصار الصارخ على النموذج المشوّه نحو يهوديّةٍ خالصة.
جديةُ التهديد على الدولة من هذا الصراع بين الثقافتين اليهودية النقية واليهودية المشوهة بعلمانية أوروبية بدأت تصل إلى مؤسسات القوة التي أحيل لها حراسة الدولة مؤسسة الأمن وعمادها الجيش ودرته سلاح الطيران الذي أعلن عدد من طياريه الاحتياط رفضهم لإجراء التدريبات لكن الأخطر بات يتحدث عنه وزير الجيش يوآف غالنت بالخوف من أزمة لدى الجيش والذي لم يعد كما صممه دافيد بن غوريون وأحال له كل الصلاحيات، صلاحية التفكير ومراكز دراسات الامن القومي وصلاحية القيادة والإدارة واعتبره بوتقة صهر المجتمع ليهود الشتات مختلفي الثقافات الآن تشير الدراسات إلى أن 40% من عناصر هذا الجيش باتوا خارج قيم هذا الجيش وأقرب للتيار الديني ما يهدد قوة هذا الجيش الذي اعتبر الجيش الأقوى في المنطقة .
الوزيرُ المسؤولُ عن الجيش ويعرف أكثر ما الذي يحدث يطلق نداء أقرب للاستغاثة مما يجري فيما تقول التقارير إن قائد الجيش هرتسي هلليفي يجلس على الجدار؛ لأنه بات يقف أمام جيش متعدد القيم والثقافات بعد وجود تلك النسبة من المتدينين هذا قد يكبح تدخله أو ربما يخشى أن يكون تدخله سببا لأزمة في الجيش تهدد بانقسامه.
ورطةُ إسرائيل التي جرى الاعتقاد أنها مجرد صراعٍ بين قوى سياسية يتم اكتشافها أنها أعمق من ذلك بكثير؛ إذ اتضح أنه صراعٌ يطال كل شيء في المجتمع ولا يترك جزء منه لذا تبدو الدولة بمجملها تهتز على وقع الإجراءات التي يتم اتخاذها من اقتصاد وعلاقات دبلوماسية وتماسك اجتماعي ومستوى تصنيف وكل شيء، هل ستخرج منها إن تراجعت الحكومة عن مشروعها؟
هو السؤال الذي يقلق أعداء وخصوم إسرائيل إن انتهت الأزمة، ولكن المجتمعات لا تسير للوراء بات واضحًا أن مجتمع إسرائيل تعرض لرجة كبيرة انقسم فيها المجتمع بلا عودة ودقت جرس الإنذار للجزء الآخر المصدوم من المتدينين والقوميين، الذي بات يدرك أن عليه مغادرة البلاد باتوا يشعرون باغتراب مع الدولة التي لم تعد تشبههم، هذا في أحسن السيناريوهات، لكن سيناريو الرعب الذي بات يسيطر على النخب بات أكثر سوداوية؛ لأنّ الأبواب تنغلّق على الحلول الوسط فسموتريتش بات يعلن مواقف أكثر متطرفة سياسيًّا؛ أما شركاؤه فباتوا يشيرون باستهداف الطرف الآخر الذي يتظاهر أسبوعيًّا؛ محاولًا صناعة لحظة يستعيد بها ماضي مهدد بالضياع كان يحمل كل أسباب القوة والقانون وجعل من إسرائيل دولة يخشاها الآخرون، لكنها تبدو كأنها تفقد تلك القوة والصورة التي ترسخت في أذهان العالم باعتبارها دولةً منيعةً ديمقراطية حضارية علمانية، وإن كانت تحتلُّ شعبًا آخر، لكن عوامل القوة غطت على عنصريّتها واحتلالها، لكنّها تنكشف الآن دولةً دينيّةً متخلّفةً مثلها مثل كثيرٍ من دول العالم الثالث... المهم أن ينجح نتنياهو سموتريتش بن غفير في مشروعهم لاستكمال القضاء على الدولة.