رغم كل التضخيات والبطولات والنضالات في كل بقعة من بقاع فلسطين طوال العقود الثلاثة الماضية، ورغم نصر تموز 2006 للمقاومة اللبنانية، رغم كل هذا كانت ثقافة أوسلو والليبرالية الجديدة تحوز على تغلغل واضح في الوعي اليومي، يتم التعبير عنه عبر مظاهر عديدة منها: الانفضاض عن العمل الجماهيري الوطني، التراجع عن ممارسة العمل الطوعي وقيمه، الطعن في الانتماء الجماعي الوطني لصالح الانتماءات الفردية، تخلخل في مكونات الهوية الوطنية لصالح مكونات هوياتية تجزيئية، عائلية ودينية وطائفية وعشائرية، التشكيك في جدوى النضال الوطني لصالح الترويج للاستنكاف والعزوف، الترويج للحلول الفردية للمشكلات والصعوبات العامة بديلاً للعمل الجماعي والحلول الجماعية. الكل كان يلاحظ ذلك حتى الغارقين في وحل تلك الثقافة.
ولكن المقاومة البطولية وانجازاتها حتى لحظة كتابة هذه المقالة يوم الاثنين صباحاً قلبت الطاولة على ثقافة أوسلو ومروجيها ونخبها ودعاتها راساً على عقب. مَنْ شكك بقدرات المقاومة ووصف صواريخها بالصواريخ العبثية، مًنْ طعن بها وشكك بقدرتها على هزيمة الجيش الخامس في العالم، مَنْ رفض فكرة المقاومة المسلحة تحت حجة انها تستفز قدرات عسكرية هائلة للصهاينة، أو أن الظروف الموضوعية غير مواتية لها، وبالتالي يقدم شعبنا تضحيات هو بغنى عنها، كل هؤلاء فغروا افواههم أما التلفاز وهم يشاهدون اندحار الصهاينة وهروبهم بكل الخزي والعار الذي يميز الجبناء، وتمكنْ المقاومين من السيطرة على المستعمرات، وقيادة فرقة غزة وموقع حاجز إيرز، وقتل واسر مَنْ في الموقعين، ومصادرة العتاد والأسلحة والمعدات والآليات والحواسيب والوثائق الاستخبارية، واسر وقتل المئات من الجنود والمستعمرين في مختلف المستعمرات، والتمدد العسكري خارج قطاع غزة باتجاه أراضي العام 48، وقبل كل ذلك وغيره الكثير الكثير من مظاهر الهزيمة التاريخية للصهاينة والبطولة العجائبية للمقاومين.
لقد اندحر وعي المهزومين وثقافتهم المستسلمة، وحل محله وعي مقاوم، متفاءل بالانتصار والتحرير، مفعم بالثقة التي لا تتزعزع بقدرات المقاومة.
الصور لا تكذب بل هي مَنْ يكتب تاريخ شعبنا هذه الأيام. صور جثث جنودهم في المواقع العسكرية، صور عشرات الآلاف من المستعمرين وهم يهربون من مستعمراتهم أمام تقدم المقاتلين، صور الاسرى من الجنودد والضباط والمستعمرين، والمقاومين يجرونهم وهم مقيدون، صور الآليات والدبابات المصادرة، صور مواقعهم العسكرية كموقع قيادة فرقة غزة وموقع إيرز والمقاومين يقومون بتمشيطهما وقتل واسر مَنْ فيهم، صور جنودهم واسراهم بوجوههم الكالحة، المرعوية، المستعطفة، المرعوبة وهم قيد الاعتقال، كل تلك الصور باتت مكتوبة بسطور من ذهب، بعد أن سطرها المقاومون بدمائهم وتضحياتهم.
مطار اللد يزدحم بالآلاف من المستعمرين يريدون الهرب للخارج، والحديث يدور عن 75 ألف مستعمر هجروا بيوتهم من المستعمرات هرباً. نعم يمكن طردهم من وطننا.
المستعمرات تم تحرير العديد منها، والمواقع العسكرية الأساسية تم السيطرة عليها. نعم يمكن تحرير الوطن.
افواج الأسرى من الجنود والضباط، وبرتب عالية، والمستعمرين يُساقون من قبل المقاومين لغزة في مواكب نصر مؤزر. نعم يمكن هزيمتهم.
ليسوا ضعفاء بل هم أقوياء والمقاومون هزموا الأقوياء. هم أقوياء بالدعم الامبريالي الأمريكي والأوروبي والتواطوء العربي الرسمي، اقوياء بالتسليح والقدرات والخبرات والتقنيات. لكن المقاومون هزموهم لأنهم اذكى منهم، فقد خططوا بدقة وتصرفوا بسرية فنجحوا بمفاجئتهم وهم نيام فسحقوهم، هزمهم المقاومون لأن ثقتهم بالانتصار لا تتزعزع، وإرادتهم للقتال تصنع المستحيل وصنعته، هزمهم المقاومون بدعم غير محدود من محور المقاومة بخبرات أطرافه ودعمه اللوجيستي، وهذا ما تبين بعد استشهاد قاسم سليماني، وكشفْ السيد نصرالله عن مصدر صواريخ كورنيت القادمة من سوريا، هزمهم المقاومون لأنهم تفوقوا عليهم استخبارياً، فلم تنفعم لا الاستخبارات العسكرية أمان، ولا الموساد أو الشاباك أو حتى الاستخبارات المركزية الأمريكية التي تنسق الجهود لمكافحة المقاومة في كل المنطقة.
دروس البطولة الغزية لا حدود لها. ذلك درسها الأول: يمكن يمكن هزيمتهم، يمكن تحرير الوطن.