Menu

رسالة في قنينة: إلى مجلة الهدف

ثائر أبو عياش

لا وقت للبحث عن كلمات تكون بمثابة طوق النجاة لتلك القلوب التي يحاصرها الرَّصاص على الأرض، والصواريخ من السماء، إذ الكلمات تكشف اليوم عن جسدها الخبيث بعد أن فكت أزرار قميصها لنرى قبح الصمت الذي يمارسه العالم أمام مشهد فضيحة أكذوبة الحرية والإنسانية، فضلًا عن فضيحة القانون الدُّوَليّ والإنساني والعالم المملوء بالعدالة! حيثُ قبل أن تدوس دبابات جيش الاحتلال حرية غزة كانت قد سحقت الحقيقة عن ألسنة زعماء النظام الرأسمالي، بل وسحقت فكرة وجود بَذْرَة صغيرة في قلوب هؤلاء الزعماء، نقصد بهذه البَذْرَة التي ربما تقول: كفى قتل! إذ الأخير هو التعبير المكثف عن موت الآخرين يُعلنها النظام الرأسمالي بكل وحشية في سبيل الاقتصاد.
إذًا هي الحرب التي كان غسان كنفاني يحدثنا عنها في روايته عائد إلى حيفَا، الحرب التي من فوهتها نستعيد البيت المحتل، وخلدون الذي أصبح دوف، وحيفا التي يسكنها الغرباء، هذه الحرب التي يجب أن ننتصر فيها عندما نُمارس الحقيقة كل الحقيقة للجماهير كما قال كنفاني سابقًا، ولأجل تلك الحقيقة قام غسان بتأسيس مجلة الهدف، وعبر هذا المنبر تحدث غسان عن فلسطين كل فلسطين التاريخية، التي قال عنها الشهيد باسل الأعرج: "بدنا فلسطين ال 27 ألف كيلو مربع وشوي، وإذا صحلنا نوخذ الجولان وجنوب لبنان منوفرش، أحنا فلاحين وطماعين وبفرقش علينا هذا الحكي".
في صُلْب الحرب تعيش الكلمات سكرات من نوع هستيري، إذ النبض للمعنى بطيء، والرؤية تتشح السواد، حيثُ كتابة جملة واحدة، جملة واحدة فقط لمن تعرفهم في غزة تكون بمثابة حراثة جبل بإبرة خياطة! وربما هنا تود أن تسألهم برسالة صغيرة عن أحوالهم، كأن تقول فيها: "أنتم بخير؟"، ولكن تبقى عقدة الذنب تحفر عميقًا عند البحث عن الإجابة، إذ وحدهم في غزة دفعة واحدة ساروا معًا وتقدموا نحو الخلود الأبدي الذي كان يسعى له غوته وبيتهوفن وهنغواي، وكونديرا...، بل وقرعوا جدران خزان العالم بمطرقة العنف الثوري بشكلٍ جماعي، وقاتلوا حتى بالصبر الذي قدمه الله على الصلاة، وقدموا الخوف قربان للنصر، وأصبحوا بحق ملحمة يُهزم فيها الباطل على أرض غزة.
هي ليست رسالة ممتلئة السطور، بل أوراقها ما زالت بيضاء يمكن لكل من يود أن يكتب فيها حتى كلمة واحدة، كأن نسأل من نعرفهم في غزة خصوصًا: "طمّنونا عنكم؟"، إذ ليس علينا أن نسألهم أسئلة صعبة كأننا بتلك الأسئلة نقول لهم: هل مات الجميع؟! فضلًا عن ذلك تصبح الإجابة هنا أكثر كآبة من السؤال، وربما هنا يمكن القول إن طرد الإجابة أفضل في بعض الأوقات من إثبات السؤال!
لا يمكن في الحرب سباق الزمن دون أن نأبه به، فضلًا عن ذلك لا يمكن أن نجعل الذاكرة ترفض استعادة الأحداث ما قبل الحرب، أو في أثناء الحرب، أو حتى ما بعدها، ولا يمكن أن نجتث الذاكرة، وربما نشيد نُصب تذكاري للزمن في عقولنا، وأكثر لا يمكن لنا من زاوية الإنسانية لا الشفقة عدم الاطمئنان على ما نعرفهم خلال الحرب، إذ الهروب هنا ليس خيانة فقط، بل هو القول للأحبة في غزة: "نحن بخير، لا نريد الحرب!"، ولكن إذا انتزعنا القشرة عن ذلك الخير سنكتشف أننا أحوج ما نكون إلى الحرب، وإلى الكشف عن مكيدة السلام، وشرك التعايش السلمي، وشرك...
بالعودة إلى الرسالة لربما عندما يتمكن أحدهم من فتح غطاء القنينة وقراءة الرسالة يسأل وهو يجلس على ركام البيت الذي هدمته طائرات الاحتلال: "هل أنتم في الضفة، في الداخل المحتل عام 48، في الأردن، في مصر، في سوريا...، في العالم بخير؟!"، وربما يحطم القنينة بعد ذلك، ويمزق الرسالة، إذ ما فائدة السؤال عندما تكون الإجابات قد تم دفنها مثلما يُدفن الأطفال والنساء والشيوخ والعائلات في غزة!، بل وما فائدة السؤال إذا لم يبحث الجميع سواء الذين يعيشون تحت سقف الحرب، أو الذين يعيشون خارج ذلك السقف عن الإجابة معًا، إذ الحرية يجب قطفها بمنجل الشعب، القصد أن كل إنسان له عرام تراب كما يقول كبار السن عليه أن يُدافع عن حقهُ بذلك لعرام.
من زاوية هي أكثر التصاقًا بما سبق أسأل الأعزاء في مجلة الهدف، وخصوصًا الدكتور وسام الفقعاوي، أحمد بدير، ومهند أبو شمالة وفادي الشافعي وسامي يوسف: "هل نحن بخير؟"، إذ هم حراس إرث غسان كنفاني الذي قال: "لا تتعلّق بشخص لا يكتب لك، لا يزاحم يومك، لا يقرأ ما بك"، وأنتم [حفدة] كنفاني أبو فايز ،لقد زاحمتم بالكلمة حتى لا نخسر جبهتنا الثقافية كما وصف من قبل الحكيم جورج حبش ، وتعلقتم بقضايا الشعب الفلسطيني، بالهموم، بالوطن، بالحرية، بالشهداء، بالأسرى...، وقرأتم حقيقة الاحتلال، وكشفتم لنا ما كتبته غسان كنفاني في مقاله "ملحمة المعزاية والذئب" التي وقعها باسم "فارس فارس"،  وتحدث فيها كنفاني عن الموقف العربي الرسمي قائلاً: "والذي تمكنه الآن من السيطرة على العرب هو الثّغاء! وما أشبه اليوم بالأمس فعلًا، إذ أمام ملحمة "طوفان الأقصى" ما زال الثّغاء العربي الرسمي مستمرًا.
 أنني أشعر أنكم تغنّون لنا ما انشدهَ الفنان اللبناني خالد الهبر سابقًا وأنتم تبحثون عن الإجابة، إذ أنشَدَ قائلًا:
نحن في غزة بخير، طمّنونا عنكم
نحن في الحرب بخير، ماذا عنكم أنتم؟ 
شهداؤنا تحت الركام
أطفالنا سكنوا الخيام، يسألون عنكم، أين أنتم؟
نحن في غزة بخير، طمنونا عنكم؟
البحر من ورائنا لكننا نقاتل، عدوّنا أمامنا وما زلنا نقاتل
لدينا ما يكفينا سلاح وطعام، وعود بالسلام، نشكر لكم دعمكم
نحن في غزة بخير، طمنونا عنكم
أرواحنا، جراحنا، بيوتنا، سماؤنا، وجوهنا، دماؤنا
عيوننا، أكفاننا
تحمينا من سلامكم، وعودكم، كلامكم
نحن في غزة بخير طمّنونا عنكم.