Menu

اخترعوا وفرضوا “الكارثة والبطولة - وننحت ونفرض العِرقبادة  والطوفان

أ.د مكرم خوري مخول

منشور في العدد الرقمي الأخير من مجلة الهدف

كانت قد عقدت الزبدة الفكرية للحركة الصهيونية في أوروبا في منتصف القرن العشرين اجتماعات عصف ذهني للوصول إلى معادلة تمزج ما بين التضحيات اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية والضحايا اليهود في "المحرقة النازية"!  المعضلة التي كانت أمامهم، وذلك بعد أن قام أكاديمي يهودي أوروبي بانتشال مصطلح الهولوكوست من اليونانية القديمة ليُحفر كمصطلح ثابت لما حصل لليهود في أوروبا في الحرب العالمية الثانية، أو ما أسماه هيتلر بـ "الحل النهائي"  Final Solution

المؤرخ اليهودي بن تصيون دينور عام ١٩٤٢ أطلق مصطلح "الكارثة" في مطلع الخمسينيات تم تبني المصطلح "هولوكوست" الذي استحوذ عليه أكاديميان اثنان كانا: الأول إسحق هرتسوغ الرابي الأشكنازي (اليهود الغربيين) والثاني الرابي السفرادي (الشرقي) يعقوب ماير - راباي – حاخام – عام ١٩٣٨.   وهكذا وفي محاولة مدروسة من الحركة الصهيونية ومنذ 1948 وما قبل (تسمية محرقة أوروبا بالهولوكوست وهي كلمة يونانية Holokauston  وتعني حرق الأضاحي وتقديمها للآلهة وقيام أكاديمي يهودي آخر وذلك بعد أن درس قضية إبادة الأرمن من قبل العثمانيين حيث تمت إبادة نحو ربع مليون أرمني، وهو الأكاديمي والمحامي اليهودي البولندي رفائيل ليمكين ( 1900-1959) بنحت مصطلح الجينوسايد (الإبادة) مطلقاً حملة إعلامية واسعة لتبني المصطلح ولكي يتحول المصطلح ومعانيه الإبادية إلى ميثاق واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والتي لاحقاً أصبح بالفعل ميثاقاً قانونياً، هي التوفيق ما بين الكارثة التي حلت بهم وبين البطولات اليهودية التي حصلت بالمقابل.

وبينما ارتكزوا على أسلوب صقل السردية للاستعمال الذاتي والاستحواذ على العقول والسيطرة على الرأي العام العالمي فقد قرروا إحياء ذكرى الكارثة والاحتفال بالبطولة في نَفَسٍ واحد ودقيقة واحدة.

تذكرت هذه المعادلة التي لطالما شاهدتها عبر العقود وكيف أنهم يحيون ذكرى الكارثة والخسارة من جهة ومن جهة أخرى يحوّلون هذا الفقدان إلى طاقة أمل واحتفال، مُطلقين على ما أصابهم بـ "الكارثة والبطولة: "شوأه وغفوراة"! שואה וגבורה.

نقفز عن ثمانية عقود استطاعت فيها الحركة الصهيونية إدارة العقول والسيطرة على النفوس وممارسة العبودية الفكرية على غالبية الأوروبيين وحشرهم في خانة: الشعور بالذنب؛ وعدم التفوه ضد اليهود: والخوف من انتقاد الاحتلال الإسرائيلي والسكوت على جرائمهم. وكانت آخر حادثة (يوم ٢٤ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٤) هي الهجوم الفوري الشرس للإعلام الصهيوني على مرشحة الرئاسة في الانتخابات الأمريكية كامالا هاريس لكي توضح متراجعة أنها لا تعتقد أن "إسرائيل تقترف الإبادة"!

نترك هذا جانباً مؤقتاً  لأجل التقدم في الادعاء لنعبر عن مشاهدتنا لظاهرة التخبط اللاعقلانية (عكس التخبط العقلاني) في التصرف الاجتماعي التعبيري اللغوي لبعض الشرائح العربية صاحبة النوايا الحسنة والمناصرة للقضية الفلسطينية على وجه التحديد والمقاومة بشكل عام نتيجة المحنة النفسية التي تعيشها هذه الشرائح المُخلصة في الأمة العربية والتي تتسبب بها جرائم العِرقبادة (الإبادة الجماعية والتطهير العرقي) الصهيونية التي تقترفها الحركة الصهيونية العالمية - المتمثلة في الاحتلال الإسرائيلي -  لما تشعر به (هذه الشرائح) من ثِقلٍ وقهرٍ نتيجة عواجل الأخبار التي تضعها غالباً في خانة الإحباط الناجم عن عدم استطاعتها التأثير على مجريات الأمور.

 

نُشير إلى أن هذه الشريحة تُركز بارتباك: تارة على المعاناة التي تتسبب بها عصابات القتل الصهيوني والخسارة البشرية والفقدان لفلذات الأكباد الفلسطينية واللبنانية من جهة، مُعبرة عن الممارسات الإجرامية لعصابة نتنياهو في حق الضحايا، بأوصاف إنسانية أحياناً بمصطلحات صحيحة واحيانا مغلوطة وأحياناً متناقضة؛ وما بين حاجتها النفسية - الإعلامية لإبراز البطولات ألـ ما بعد الأسطورية لحلف المقاومة عموماً وجبهات المقاومة على وجه التهديد والمقاومتين الفلسطينية واللبنانية على وجه التحديد.

لم تخترع الحركة الصهيونية (وهي منتوج رأسمالي غربي) مصنع نقش المصطلحات. فإن المصطلحات إما أن تكون موجودة ومستعملة أو موجودة ومنسية أو غير موجودة فيقتضي نحتها.

منذ الأيام الأولى وعندما ما زالت الأمور ضبابية كتبت مقالة نُشرت سبعة أيام بعد عملية “طوفان الأقصى” – “طوفان القدس ”، تحت عنوان: “المستهدف ليس المقاومة وحماس.. إنه مشروع لإنهاء كل فلسطين".

وأوردنا في تلك المقالة أن ما اقترفه الاحتلال الإسرائيلي من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة الفلسطيني في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2023 بعد عملية “طوفان الأقصى” ليس رد فعل على عملية عسكرية غير مسبوقة وإنما لأهداف أوسع من القضاء على المقاومة الفلسطينية عموماً، وحماس على وجه التحديد. وأن ما يطمح الاحتلال لتنفيذه ويجند له رؤساء الغرب الجمعي الاستعماري في إطار حملة دعائية شديدة هو تغيير جغرافيا فلسطين، بل العالم العربي بالكامل. وأن ما يقوم الاحتلال بتسويقه في الإعلام هو أنه يريد القضاء على “الإرهاب”. ولكي يفعل ذلك، فهو لا يريد قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين الغزيين (رغم أنه يدك بهم بأسلوب الإبادة باستمرار وبالتقشير عبر العقود لأنه مهووس بالمسألة الديمغرافية). لذلك، “يطلب” منهم الرحيل جنوباً بشكل “مؤقت” لغاية إتمام المهمة، فيما الهدف “هو خداعهم” بأنهم سيعودون، فيما المخطط لهم هو ألا يعودوا أبداً (كما حصل في نكبة 1948)، وأن يتموضعوا في شمال سيناء بشكل دائم كجزء من مصر (التي يخطط لها أصلاً مشروع تقسيم آخر).

 

في الواقع تنفذ إدارة عصابة الاحتلال الصهيوني جريمتين بالتوازي. قبل غزة ومنذ ذروة النكبة ( 1947-1949) نفذوا التطهير العرقي والمجازر بالتقسيط. منذ مطلع تشرين الأول 2023 أخذ الاحتلال يقترف جريمة التطهير العرقي بكثافة وبسرعة جنونية فائقة ( تهجير إثنية معينة- الفلسطينيين الغزيين- من بقعة جغرافية معينة: من غالبية شمال ومنتصف القطاع وإلى الجنوب بهدف التهجير القسري إلى سيناء)!

إضافة إلى ذلك ومنذ منتصف أكتوبر 2023 ينفذ قائد العصابة الصهيونية أيضاً،  الإبادة الجماعية المقصودة والممنهجة. ولذلك وبما أن نحت المصطلحات هو جزء من صراع القوة الفكري والقانوني والإعلامي والتاريخي، وبعد مرور ثلاثة أشهر، ننصح بعدم استعمال مفردات “عقاب جماعي”؛ “الصراع المستمر”؛ “الحرب المستعرة”؛ “عدوان” وإلخ وإنما بضرورة أدلجة وتربية شعوب العالم على ما يجري وذلك لتبني روايتنا.  لأن القانون الدولي يشمل تعريف لهذه الجرائم. وبما أن ما يرتكبه الاحتلال الصهيوني هي مجموعة جرائم وبمركزها التطهير العرقي والإبادة الجماعية فقد نحتنا مصطلح ”العرقبادة".

ولذلك نعرض مصطلحاً جديداً ليشرح باختصار ما يقترفه الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة : وهو مصطلح الـعرقبادة والتي تُنفذ ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والمصطلح هو جمع لجريمة التطهير العرقي والإبادة الجماعية في مصطلح واحد.

إذا كنت مع قطاع غزّة الفلسطيني المُستنزف حتى تجفف الدم، فلا يمكنك استخدام عن قصد أو من دون قصد؛ عن جهل أو شطح، رواية الاحتلال ومصطلحاته وتسمّي بسهولة (وبشحطة قلم) وأحياناً من دون تفكير، الجرائم المُقترفة من جانب نظام المجرم نتنياهو في قطاع غزّة بـ "الحرب"!

بالتأكيد، تتابعون الكارثة التي تجري في قطاع غزّة على كل شاشاتكم، صغيرة كانت أم كبيرة، أم أن قسماً منكم وصل إلى مرحلة الإشباع المرير وتوقف جهاز أعصابه عن التحمل؟

هل ما زلتم تشاهدون القتل الممنهج للأطفال وطحن جثثهم بالجرافات؟ وهدم المستشفيات على من فيها من طواقم طبية ومرضى؟ وقتل النساء وتجريف عظامهن بعد يومين؟ الدفن في لا مقابر؟ وتسطيح غالبية قطاع غزّة وسرقة الركام بما فيه من جماجم لإقامة مخطط الرصيف المخادع؟ هل ما زلتم تراقبون تجويع السكان وتعطيشهم؟ وقتل وشطب عائلات فلسطينية بأكملها؟ وقصف وتدمير مبان تراثية ثقافية ودينية (كنائس ومساجد وجامعات) ومسح الحضارة وتحويل قطاع غزّة إلى معسكر قتل وموت بالإبادة؟ لن أطيل عليكم فقائمة الجرائم أطول ما حصل في التاريخ المعاصر، وبالتأكيد منذ قرن وأكثر. هل لدى الفلسطينيين سلاح بحرية؟ أم سلاح جو؟ أم سلاح مدفعية ودبابات ومنظومة صاروخية متطورة وأخرى لإسقاط صواريخ الاحتلال لكي تطلقوا عليها اسم "حرب"؟

هل لدى الفلسطينيين جيش نظامي تراه يحارب "جيش" الاحتلال، كما هي الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟ هل هذه حرب؟

والحركة الصهيونية تسمّي جرائمها بـ "الحرب"، وذلك لخداع الرأي العام ومحاولة الاستحواذ على العقول لإيجاد قاعدة مناصرة لروايتهم المختلقة، وتصوير نهبهم لأرضنا وسلبهم لتراثنا كصراع "شرعي" بين حقّين. هكذا يتقبل العالم رواية من يسبق في كتابة التاريخ لكي يتحول النهب والقتل، وذلك بعد عملية التضليل الإعلامي وضخ "أسطورة الحياد" وتحويلها إلى وجهة نظر وليس كقضية حق عادلة يجري فيها الصراع بين القاتل والضحية، بين السارق والمنهوب.

إذاً، وكما ذكر المؤرخ والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو(1926-1984) فإن الحقيقة موجودة بوفرة ويجب معرفتها (في حالتنا، حقيقة أنها ليست حرباً وإنما تطهير عرقي وإبادة جماعية)، ومع ذلك، فإن العقل البشري لدى بعض الناس، ولأسباب عديدة تتراوح من مستوى التثقيف والعلم والتخصص وإلى أسباب ذاتية غير موضوعية وأحياناً أنانية إضافة إلى تأثير عدد من الكبت والعقبات النفسية الأخرى، لم يتمكن من رؤية الحقيقة بعد، رغم أنها حوّلت لون غروب الشمس فوق بحر غزة إلى دموي قاتم.

وبما أننا نرفض تقبل حقيقة ما نشاهد عبر الشاشة بهذا الكم وهذه الكثافة من الجرائم ضد المدنيين الفلسطينيين، والتي زعزعت أركان إدراك كل إنسان أخلاقي، فإننا نرفض أن نكون سلبيين كسولين أو خاملين مهزومين نبتلع أساطير الصهاينة، تلك الأساطير الوهمية والمحبوكة بمكر إجرامي، وأن نسمح لها أن تمر من أمامنا لتهبط في النخاع الشوكيّ العربي كما حصل في الماضي. ولذلك، علينا محاربتها وفضحها وعدم التوقف عن تعميمها ونسبها إلى مقترفيها. أفادتنا وسائل الإعلام أنه ورغم الدعم الألماني الإجرامي للاحتلال الصهيوني، فقد صرخت وزيرة الخارجية الألمانية في مكالمة مع السفاح نتنياهو عندما أنكر إحداث مجاعة في قطاع غزّة.

وعليه، وبما أننا نرى أن السردية والمصطلحات هما عمود أساسي من حرب النفوذ والقوة والوجود، فقد قررنا ألّا نترك الساحة لسرديتهم المقززة، واقترحنا بعد البحث والدراسة استعمال مصطلح "العِرقبادة " (العرق: من التطهير العرقي وهي جريمة محددة؛ وإ / بادة، من "إبادة جماعية" وهي أكبر الجرائم وقد تداولت محكمة الجنايات الدولية فيها بإسهاب عند استماعها للطاقم الجنوب أفريقي في لاهاي "العِرقبادة " بالإنكليزيّة: CleansOcide (Ethnic Cleansing & Genocide).

نشير إلى أنه عندما اقترح الراحل الدكتور قسطنطين زريق مصطلح "النكبة" في كتابه "معاني النكبة"، كتب في المقدمة: "لا أدّعي أني في هذه الدراسة المقتضبة لمحنة العرب في فلسطين، قد اخترعت البارود (أو بلغة هذا العصر القنبلة الذرية) أو أني اكتشفت الدواء الشافي لعلاتنا جميعاً"! لم يعرف الدكتور قسطنطين أن عملية تبني مصطلح "النكبة" ستكون تدريجية وستدخل سجالات مريرة تستمر لعقود، وعبر العقود ستُشن حروب المصطلحات والمفاهيم والتي بدورها ستستمر لعقود إضافية.

إن التداول بالمصطلحات واختيارها ليس ترفاً أو هواية. إنها جزء من مصير الشعب الفلسطيني وحياته ومستقبله. إنها مسؤولية أخلاقية ومهنية في غاية الأهمية. فها نحن ما زلنا نصارع حتى بعد مرور 8 عقود على الكارثة الفلسطينية لنعرّفها بـ "النكبة". وحدث ذلك في صيف 2023 عندما رفض متحف بريطاني وضع مصطلح "النكبة" في موقعه الإلكتروني عندما نظّم معرضاً عن التطريز والأثواب الفلسطينية.

وبما أن الاحتلال يمارس دوماً "صناعة المعرفة الصهيونية" وينظم مجموعة مصطلحاته للضخ الإعلامي، وبما أنه مبني على أيديولوجية كولونيالية استغلالية رأسمالية لقهر الشعوب الأصلية التي يحتلها، نشير إلى أن هذه "الأيديولوجيا" هي بمنزلة منظومة أفكار استعلائية وسياسات فاشية وتصرفات إجرامية تحتاج إلى رواية تشمل السردية واستعمال مصطلح "حرب" في وصف ما يقترفه الاحتلال، وعلينا رفض تزوير الماضي والحاضر والمستقبل وكتابة التاريخ بمصطلحاتنا.

بما أننا نتابع عواجل الأخبار أيضاً ولا نتعامل بها، ولكن نتعامل بما تعنيه في المدى القصير والمتوسط والبعيد - نستطيع مشاهدة اللغط الحاصل وتفكيكه والسؤال: ماذا سيبقى لنا على صعيد حرب المصطلحات ومعركة السردية وكتابة الذاكرة والتي كلها ستُسخر في المستقبل القريب وللأجيال القادمة والتي ستكون بحاجة إلى شن الغارة الإعلامية السياسية القانونية الشعواء ضد الحركة الصهيونية العالمية بعبارات مختصرة صائبة ترفع جملة دفاع دعائي؟ كتلك التي يستعملها اليهود: الكارثة والبطولة - لكي نقترح من طرفنا زوج من العبارات :

العِرقبادة والطوفان. وهكذا سنعترف بالأسى والخراب ونفتخر بالثبات وبالمقاومة.