عجّت وسائل الإعلام العربية والعالمية بكثير من المواد المتعلقة بالصراع العربي الصهيوني، وخصوصاً المجازر والمحارق التي يرتكبها العدو الصهيوني، وذهب بعضها إلى نشر إسقاطات تاريخية تحاكي الموقف المتخاذل والمتواطئ الذي تتخذه بعض الدول العربية وبعض المثقفين العرب إزاء ما يجري في فلسطين ولبنان من حرب إبادة جماعية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو وينفذها جيش الاحتلال الصهيوني، لكن بعض هؤلاء المثقفين يتبنون الرواية المضادة ويبثون ثقافة الهزيمة. من هذه المواد رسالة على وسائل التواصل الاجتماعي تتحدث عن الأندلس في زمن دولة الطوائف وقبيل السقوط الأخير. تقول الرسالة: "عندما قام الإسبان بحصار طليطلة سبع سنوات وأدى ذلك لاستسلامها، سأل الإسبان أهل طليطلة: ما دمتم ستستسلمون لماذا صبرتم على هذا الحصار طوال هذه السنوات؟
أجاب الأهالي: كنا ننتظر المدد من أشقائنا.
رد الإسبان باستغراب: أشقائكم؟!!..لقد كانوا معنا في حصاركم".
رسالة قصيرة لها دلالات كبرى ودروس عظمى. فعندما يتخلى الشقيق عن شقيقه وينقلب عليه، وحين ينزلق حال الأمة، الغارقة في عدم الاكتراث والخذلان والتواطؤ مع العدو والتورط معه في القتل والحصار، إلى منحدرات سحيقة، لا يبدو أن لهذا السقوط مستقراً. لقد بلغ الانحدار أوجه في منع الناس من التعبير عن غضبهم من المجازر والمذابح وعمليات حرق الأطفال والنساء في قطاع غزة بدم صهيوني بارد، بينما يمارس الإعلام العربي والغربي تضليلاً بروايات مفبركة حول حقيقة ما يجري في ساحات الوغى ليخفف من هول المجازر التي يندى لها الجبين. إن هذا يعبر عن حالة الانقسام والتشظي والسكينة التي بلغته المجتمعات العربية، التي تحتفل بعض مدنها الكبرى بالفنانين وتحيي لهم الحفلات الصاخبة، وتمنع مظاهرة تناصر الحق، فيما يزداد جريان نهر الدم في فلسطين ولبنان. وحتى تخنق الحقيقة وتداس بين أحدية الجند، يتم استهداف وسائل الإعلام المهنية الصادقة التي تنقل الحقيقة، وهو أمر حصل مع مراسلي العديد من الفضائيات والصحفيين الذين تم قتلهم دون اكتراث من عواقب أو مساءلة، حيث بلغ عدد الصحافيين والمراسلين الذين اغتالتهم قوات الاحتلال حتى نهاية سبتمبر/ أيلول 2024 أكثر من 174 صحفياً، وفق وزارة إعلام حكومة غزة، وأغلق الاحتلال مكاتب فضائية الجزيرة والميادين في الضفة الغربية وغزة، وتوج جرائمه بقصف مقر فضائية الميادين في العاصمة اللبنانية بيروت، فضلاً عن تدميره للفضائيات والإذاعات الفلسطينية في القطاع المنكوب. ومع أن هذا فعل شنيع مجرم دولياً بجانب ما ترتكبه قوات الاحتلال من مجازر وقصف، فإن ردود الفعل كانت باهتة وشامتة بعض الأحيان من كبريات وسائل الإعلام العربية والغربية، ذلك أن الضوء الأخضر الأمريكي للكيان الصهيوني قد أرعب بعض هذا الإعلام ومنح بعضه الآخر فرصة للتشفي، بينما تمسكت البقية الباقية تحارب بالصوت والصورة والقلم مع المقاومين. يحدث ذلك في وقت تشهد فيه الساحة الثقافية العربية انحرافاً والتباساً شديدين وتأثيراً كبيراً من قبل المؤسسات الدولية ذات الصلة بواقع الثقافة والإعلام.
لقد دخلت المقاومة عامها الثاني من طوفان الأقصى، شهدت فيها الساحة العربية فرزاً طبيعياً في مواقف الدول والمثقفين والمجتمعات، نتيجة لتراكمات عقود تمكنت فيها الآلة الإعلامية والثقافية الصهيوأمريكية من اختراق الجسم الثقافي في مختلف البلدان العربية، التي تبنت الكثير من مؤسساتها الإعلامية والثقافية سردية الاحتلال وداعميه وتحولها إلى جزء من جوقة عالمية تُنظّر وترّوج لثقافة الهزيمة، ولا ترى في المقاومة بمختلف أشكالها إلا عبثاً، حتى جاء الطوفان وفعل فعلته وغير المفاهيم، على المستوى العالمي على الأقل. كما تأكد الموقف العام للشعوب العربية بانحيازه للطوفان والدعم المعنوي والسياسي للمقاومة الفلسطينية وجبهات إسنادها، إلا أن قوة الآلة الإعلامية غطت، جزئياً، على هذا التضامن الشعبي، وطغت على السطح سردية معطوبة في عملية الصراع العربي الصهيوني.
يحاول بعض المثقفين استخدام مصطلح "العقلانية" في التعاطي مع الكيان الصهيوني، ويطرحون مسألة موازين القوى المختلة لصالح العدو ومعالجات مختلفة غير تلك التي تقوم بها المقاومة في مواجهتها للاحتلال، ويدّعون أن الظروف الراهنة لا تسمح بمثل هذا النوع من الفعل المقاوم الذي يقود إلى المزيد من الخراب. ولأن الإعلام مُسيطر عليه من قبل أصحاب الرأي "العقلاني"، فقد انحرفت بوصلتهم إلى تحميل الضحية مسؤولية ما يجري لفلسطين وكأنها ليست وطناً محتلاً وأن كل الشرائع والمعاهدات الدولية تمنح الحق للشعب الفلسطيني بتحرير أرضه وإقامة دولته على كامل ترابه الوطني. ويترادف مع هذا الموقف ترويج غير منطقي للاحتلال بطرق شتى، ومنها تلميع الاتفاقيات التطبيعية التي وقعها الكيان مع بعض الدول العربية. يشكل هذا موقفاً لا أخلاقياً من بعض المثقفين والإعلاميين العرب الذين انزلقوا إلى الجانب الخاطئ من التاريخ ضد الحقيقة وبتناقض مع موقف الشعوب التي ينتمون إليها، لكنهم آثروا "الستر" وتجنبوا غضب الحكومات ولهثوا وراء فتات الموائد و"الامتيازات" التي يمكن أن يحصلوا عليها لمواقفهم المتناغمة مع السائد من المواقف الرسمية. هؤلاء لا يستطيعون الجواب على سؤال من طراز: هل قرأتم في التاريخ عن مقاومة موازين قوتها لم تكن مختلة مع عدوها؟!
لا ينطلق هؤلاء من تحليل علمي تاريخي لمجريات القضية الفلسطينية وتطورها، بقدر ما ينطلقون من سردية الاحتلال التي سادت طوال العقود الماضية بفضل الدعم المطلق الذي توفره الإمبريالية العالمية التي أوجدت هذا الكيان قبل 76 عاماً بترويجها حق الوطن القومي في فلسطين وباعتبارها أرضاً بلا شعب ويمكن أن تكون لشعب بلا أرض، وفق وعد بلفور المشؤوم. لكن أركان هذه السردية تزعزعت مع انطلاقة الطوفان الذي كشف الكثير من المستور الملتحف بإرهاب الدولة متعدد الأشكال بما فيها القتل خارج القانون وإحراق الأطفال وتشريد أهل فلسطين من ديارهم وفرض معادلات تلبي مصالح داعمي الاحتلال وأعوانه.
صحيح أن الأثمان باهظة جداً، لكن الطوفان تمكن من ضرب هذه السردية وكشف حقيقة الجيش الذي لا يقهر، وادعاءات الدولة الديمقراطية في صحراء قاحلة، وبقدرة هذه الدولة على تشكيل شرق أوسط جديد تكون هي مركزه وقبلته وباقي الدول العربية أطرافاً مستهلكة فيه لا حول لها ولا قوة بعد أن تنزع عناصر قوتها الاقتصادية والسياسية والثقافية. ندرك تماماً أنه لكي تكمل مخططها الشيطاني أصدرت دولة الاحتلال "قانون الدولة القومية" الذي بموجبه تحول فلسطين إلى أرض خالصة للصهاينة المستوطنين، وتضع مصير الفلسطينيين في قوافل التهجير "الترانسفير" أو القتل الذي بشرت به العصابات الصهيونية قبل اغتصاب فلسطين، وبمقتضى هذا القانون وغيره يتم تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة والضفة الغربية وأراضي الـ48، إلى كل من الأردن التي يرى فيها الكيان وطناً بديلاً عن الضفة الغربية، بينما يُرحّل أهل غزة إلى سيناء المصرية.
الموقف الأخلاقي الحقيقي من الصراع العربي الصهيوني ينبغي أن يتجرد من التعصب الأيدلوجي وأن ينبذ الطائفية والمذهبية والهويات الفرعية القاتلة المُعطِلة لمسيرة التحرر وتحقيق الأهداف المشروعة للشعب الفلسطيني. كما أن محاولة تلبيس القضية الفلسطينية وتغليفها بأيدلوجيات مغلقة ورفض الأيدلوجيات والأفكار الأخرى، هو أمر لا يتسق مع مفهوم مركزية هذه القضية بالنسبة للأمة، ذلك أنها قضية لكل العرب والمسلمين وكل أحرار العالم الذين ينظرون لها انطلاقاً من الجانب الإنساني، وبالتالي فعدالة القضية الفلسطينية تأخذ مشروعيتها من البعد الإنساني والأخلاقي والوطني والقومي والديني.
وعلى هذا الأساس، فإن العقلانية التي يتشدق بها بعض المثقفين لا مكان لها في معترك الحياة النضالية والسياسية، كونها تنطلق من "عقل زائف" تبريري يبحث عن الغنائم وليس عن طرق مبتكرة للمقاومة والتحرير. فأصل الأزمة في الاحتلال الذي حاصر قطاع غزة لسبعة عشر عاماً حصاراً محكماً مما حوّله الى سجن كبير يعاني من كل الأزمات الاجتماعية ومن البطالة والفقر المرض، وإن تفجر الطوفان كان نتيجة للاحتلال ومشروعية مقاومته ومواجهة حرب إبادته. وحيث إن التفكير محصور في القُطرِية والهويات الفرعية، فإن المثقفين الذين يمارسون انتقاداتهم اللاذعة ضد المقاومة، يعتقدون مخطئين أن المشروع الصهيوني يقتصر على فلسطين، ولا يرون العدوان المستمر على البلدان العربية منذ نشأة الكيان، ولا ضربه عرض الحائط حتى للاتفاقيات التطبيعية التي وقعها وفق شروطه هو، كاتفاقية كامب ديفيد واتفاقي أوسلو ووادي عربة. وحتى الاتفاقات التي تسمى بـ"الإبراهيمية"، وضعت وفق شروط ومتطلبات الكيان. إن أزمة المثقف العربي "المستقر" تكمن في ازدواجية تفكيره وانفصاله عن الواقع وتبنيه مواقف متماشية مع الفكر السائد خوفاً أو طمعاً، ما يعميه عن رؤية الحقيقة والهروب إلى ما يشتهيه.
يدرك الكثيرون أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يسعيان لإحياء "الشرق الأوسط الجديد" بقيادة صهيونية تكون فيه الدول العربية تابعة للدولة العبرية، وهذا يحتاج إلى تدجين الثقافة والإعلام وإيجاد فكر وثقافة يترجمها ويعكسها إعلام مُسيطر عليه وموجه نحو القبول بما تمليه الدوائر الصهيونية على المنطقة، باعتبارها المعبر الحقيقي عن مصالح الدوائر الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية والعربية والإسلامية. وهذا صراع لن ينتهي باغتيال قادة المقاومة ومحاولة تأليب بيئتها عليها، بل يمتد حتى ترجمة الفكرة التي ترسخت والسردية التي تبنى من جديد لصالح القضية الفلسطينية في عواصم العالم، وهو جهد تحتاجه الساحة العربية على كافة المستويات الثقافية والفكرية والإعلامية.