"لم يكن الدمُ أحمرَ هذه المرة..."
لم يكن الدمُ أحمرَ هذه المرة،
كان أسودَ مثلَ الأرضِ حين تشربُ حريقَها،
رماديًا مثلَ الهواءِ بعد الغارة،
كان بلا لون، بلا اسم، بلا جسد،
كأنّ الحربَ استحالتْ إلى ظلالٍ تسيرُ وحدها،
وكأنّ الذين سقطوا لم يسقطوا، بل ذابوا في الترابِ وصاروا ريحًا.
لم تكن المجزرةُ صوتًا، كانت فراغًا،
كأن المدينةَ فقدتْ قدرتها على الصراخ،
كأنّ الجدرانَ تعلمت الصمتَ من الجثث،
كأنّ الحجارةَ نفسها تحولت إلى شواهدَ بلا أسماء.
في صباح المجزرة، لم يكن هناك صباح.
كان الظل يتسكع بين الجدران المهدّمة، يبحث عن جدارٍ يتكئ عليه،
وكانت الشمس، التي قُصفت ألف مرة، تشرقُ كأنها علامةُ ندمٍ في السماء.
لم يكن أحدٌ هنا، كان الجميع هنا.
تحت الركام، فوقه، في ثقوب الجدران المتفحمة،
في فمِ الريح وهي تلوك أسماءهم، ثم تبصقها كأنها لم تكن.
لا هدنة حقيقية،
النهار مؤجل، الليل مؤجل، السلام مؤجل،
والحربُ وحدها تعرف مواعيدها، تأتي كلما شُحّت القبور.
هنا، حيث الأسفلت لا يحفظ خطوات أحد،
تمشي الأمُّ بثلاثة أطفالٍ لم يبقَ منهم سوى أسماء،
تجرُّهم كما يجرُّ القمرُ أمواجه النازفة إلى الشاطئ،
وتتذكّرُ، تتذكّرُ كيف كانت الأرضُ تُنبتُ القمح لا الجثث،
وكيف كان الليلُ يحمِلُ الحكايات، لا القنابل.
الأرضُ جائعة، وما زالت.
تأكلُ أسماءها، تأكلُ شوارعها، تأكلُ النهار،
لكنّها لا تشبعُ من الذاكرة، ولا ترتوي من الدم.
جاء الليلُ، لكنه لم يكن ليلًا.
كان جمرًا مشتعلًا فوق خيام الناجين،
كانت السماء تنفتحُ كجحيمٍ فوق رؤوسهم،
وكانت الطائرات تسقطُ الموتَ كأنها تمطرُ منجلًا يحصدُ كل شيء.
لم يكن هناك وقتٌ للبكاء،
كانت الخيامُ تشتعلُ قبل أن يعرف أصحابها أنهم ماتوا،
كان الأطفالُ يحترقون وهم يحلمون بصباحٍ لم يأتِ،
وكانت الأمهاتُ يمددنَ أيديهنّ في العتمة، يبحثن عن صغارٍ تلاشى صوتهم قبل أن يصرخوا.
الاحتلالُ لا يحتاجُ إلى وجوه،
هو الطائراتُ حين تمرُّ فوق المدينة كيدٍ ضخمةٍ تمسحها عن الوجود،
هو القنابلُ التي لا تفرّق بين الرضيع والناي،
هو النارُ التي تتسللُ إلى الأزقة كأفعى تبحثُ عن آخر من تبقّى.
في الليل، حين تراجع القصفُ قليلًا،
خرجوا يبحثون عن بعضهم في الرماد،
كان الرمادُ أكثر عددًا من الأحياء،
وكانت الوجوهُ سوداء، الأيدي سوداء، البيوتُ سوداء،
وكان القمرُ وحده ناصعًا، كأنه شبحٌ لا يجرؤ على النزول.
في طرفِ الشارع، كانت الفتاةُ التي قُتلت.
جديلتُها لم تحترق،
بقيتْ وحدها تروي جوعَ الأرضِ للذاكرة،
بقيتْ كحبلٍ يتدلّى من يدِ الغيب،
كأنّها تقولُ للحربِ: لن تأخذيني كلها، سأتركُ ظلّي هنا.
في زاوية الخيمة الأخيرة،
وجدوا طفلةً متفحمةً تحت صدر أمها،
وفي يدها دمية، نصفها رماد، نصفها انتظار.
لم ينادِها أحد، لم يُغطها أحد،
كانت الحربُ أسرع من الأم،
وأسرع من الحكايات،
وأسرع من صرخة لم تجد أحدًا يسمعها.
لا هدنة.
المجازرُ تُخلّفُ الصمت، والصمتُ يُخلّفُ انتظارًا،
والانتظارُ هو الحربُ حين تعودُ مرةً أخرى،
عاريةً إلا من وعودٍ مهشّمة،
عاريةً إلا من أرواحٍ تمشي، لا تعرفُ إن كانت ما زالت على قيد الحياة،
أم أنها تسيرُ فقط، لأن الحربَ لم تقل لها: توقفي بعد.