تُرى هل يحتم الواقع الفلسطيني المتجدد وعلى غير مستوى، بمآلاته وصيروراته، على الأدب والإبداع الفلسطينيين خطاباً جديداً يأخذ في الحسبان تغيراً في الأدوات والمفاهيم؟ ولهذا الخطاب المنشود الذي نتوسله أن يذهب إلى صوغ رؤيا بما حدث مفتتحاً فصلاً جديداً في مسار التراجيديا الفلسطينية، بل أكثر من ذلك مقاربة الانعطافات الجذرية التي فرضها -الواقع- على منظومة التفكير والتعبير، إذ السؤال هنا سيطاول أقلام الكتّاب والمبدعين والأدباء وشكل رؤيتهم الجديد، تماماً كما فعلت الانتفاضات الفلسطينية فعلها في إحداث نقلة نوعية في مسار خطاب إبداعي أعاد الوهج والألق والزخم، لنصوص إبداع حية كتبتها أقلام كثيرة سعت جهدها كي تقبض على دالة فلسطين في الوعي الفلسطيني أولاً، ومن ثم في الوعي العربي والإنساني الجمعي.
ويمكن لمن قرأ تلك الكتابات التي أبدعتها مخيلات المبدعين، ولا سيما أجيال الحساسية الجديدة -الشباب- وعلى مستوى توزعهم الجغرافي في فلسطين ( غزة والضفة وفلسطين 48 والشتات ) أن يقف على جملة من الحقائق الدالة في معانيها وسياقاتها، ومنها ما اشتقه أولئك المبدعون من تخطي عتبة الألم إلى صوغ نشيد مديد للألم، فضلاً عما كتبه الأدباء الشهداء على اختلاف أجيالهم، من كتابات لم تعد تكتفي باستظهار الواقع الفلسطيني وتناقضاته وتماثلاته، بل تجاوزت ذلك بحثاً عن رؤيا توحد الأفكار والأقلام، وتعود لتشييد الوطن من الواقع إلى اللغة، في انفتاح أكثر على دلالة الوعي الجديد، ولعل ذلك ما يقودنا إلى سؤال الطوفان الكبير بتعدد مستوياته وانعطافاته وقراءاته فكراً وإبداعاً على وجه الخصوص، حتى ليمكننا القول: إن الأدب الفلسطيني الجديد سيتطير من كونه محض أطروحة وحسب، أو مجرد بحث عن نظرية جديدة تعني الأجناس والأنواع الإبداعية ولا تعني سواها، وبالقياس ستضمر هذه الكتابات كل ما يؤهلها لتجسد أدب الحياة، الذي رأيناه عند كوكبة من مبدعينا الأسرى داخل سجون الاحتلال وخارجه، أي أنها بصدد صوغ سردية جديدة لن تتخفف من الوعي الجديد المتماسك في خطابه، والساعي إلى تكريس هويته على نحو يعزز الشخصية الفلسطينية، بل الكيانية الفلسطينية والوجود الفلسطيني المهدد على الدوام، بالنفي والاقتلاع والتذويب والتطهير العرقي.
ولعلنا الآن وفي لحظة فارقة في مسار وعينا بذواتنا، وعي يتضاعف ويفرض إيقاعه ليعطي المعنى في تدوين الذاكرة الجمعية، ومضارعة استعمار العقل قبل الأرض، كما سعى الغزاة لاحتلال الذاكرة أيضاً، سواء بالقوة الناعمة أو بالقوة الخشنة، لتذويب وطمس فكرة المقاومة في وعي أجيالنا الفلسطينية المتعاقبة.
أدب فلسطيني جديد يعني خصوصية ما تحدد هذه الخصوصية سماتها وخصائصها، في ضوء رؤى الأقلام المبدعة، التي تعيد اكتشاف فلسطين، وتتكثف في سياقاتها ومتونها الإبداعية اسهامات وخطابات تجيد المرافعة عن الحق الفلسطيني بما تبتكره وتجترحه من أسلوبية جديدة، وكذلك بما تسعى إليه من إيجاد معادل جمالي أكثر منه واقعي، وفكري أكثر منه استجابات عاطفية، وستندغم سرديات غزة بسرديات فلسطين كلها في تشكيل إبداعي جديد، سنشتق منه سمات حساسية مختلفة، أدلها حساسية اكتشاف فلسطين والعبور إليها، وتفكيك السردية المضادة، عبر تمثيلات الوعي والجسارة وجعل المقاومة فضاء طليقا، يجدد معنى الحياة ويستنبتها من بقايا بيت تهدم، وأشجار احترقت، وشهداء يعودون، وشمس مازالت تشرق كل صباح، وامتداد جدارية الحنين وليصبح الحنين إنساناً، ومنذ أن كتب نصر جميل شعث الشاعر الفلسطيني ابن خان يونس في قطاع غزة: (خاطف الغزالة يتعثر بالأعشاب التي تأكلها)، وكتب سواه من المبدعين الشباب من أمثال نجوان درويش ( القدس )، وطارق الكرمي (طولكرم)، وريم غنايم (باقة الغربية)، وسواهم ممن دشنوا حقيقة الأدب الفلسطيني الجديد، كان سؤال الحساسية يرسم أفقاً مغايراً للمعتاد والنمطي فيما مضى، من خطابات إبداعية، في رحلته للبحث عن الجذور ومقارعته لغزو الفكر واللغة والثقافة، وبذلك كان يدفع بوصلة المعنى لاجتراح الحياة رغم ألف مجزرة وموت (ألسنتنا جذورنا)، كما يقول مبدع شاب يضاعف جرعة الوعي بالكتابة لتصبح هوية، ومثوى كينونة، وحالة دفاع مستمر عن الوجود، فليس الواقع إلا رؤيا يجيد التقاطها المبدع بحساسيته ورؤيته وقدرته على مضاهاة الواقع بالتخييل، ومضايفة الألم بالأمل.
إذن سنقرأ في مدونات قادمة، ما يعني صعود الحلم إلى فلسطين التاريخية بممكنات المقاومة الثقافية، التي تجدد في عنواناتها، ولتمنح الصراع مديات أكثر اتساعاً.
إذ لم يعد سؤال الهوية ناقصاً أو مرتجلاً أو إنشائياً، سؤال يسعى دائماً وأبداً إلى تكافؤ بنيوي بين الحلم والواقع، وبين الطموح بالخلاص والتحرر، وبالقراءة العميقة والفاحصة للثوابت والمتغيرات، ودون تجاوز المحنة الفلسطينية بدراميتها المديدة، ترجمة لما اصطلح عليه بأننا مسكونون بفلسطين، وهذا (السكن) سينتقل من دلالته الحلمية إلى دلالته الواقعية، التي تحرر المعنى في إنتاجية إبداعية فلسطينية ملهمة وغير متسرعة، من شأنها وعلى أيدي بناة الروح أن تذهب أكثر في تشييد المعنى ولفظ إكراهاته، لأن فلسطين في الوعي الإبداعي الجديد وفيما نتوسله من أدب جديد أيضاً، هي الحقيقة المتأبية على النسيان أو الصمت، فهي تحيا مع كل حرف يزهر في سفر مبدع، وكل معنى يشتعل في وجدان كل كاتب، وكل ذلك سيعني في المنظور الثقافي الأشمل، استعادة ناجزة لكل الأسئلة التي ترقى برؤى المبدعين، ولا تنخطف إلى الماضي فحسب، بقدر ما ترسم أفقاً مستقبلياً يليق بأجيال الشهداء والشهود الذين يعودون.
لطالما ردد طارق الكرمي: (أرض فلسطين هي سماء النص) التي تعيد تكوينه واستنباته كحقيقة أولى وأخيرة، إذ يقول: (إنها السماء التي يتنزل فيها النص، وهي المخبأ الأول، وهي ما يعطيني مادتي الخام الأولى للكتابة، لا أقول الحنين هو للمكان، لكن المكان يشكل اللغة الأولى والانطباع الأول للعالم، وأنا أظل في استعدادات دائمة نحو أرضي فلسطين).
إذن هو الأدب الجديد الذي من شأنه أن يعيد رواية الحياة وسردياتها المدهشة، أبعد من مرافعة تاريخية، إلى اجتراح مقاومة عابرة للمقاومة.