يرندح عيسى بصوته أغنية لخالد الهبر، تظهر شرايين رقبته بوضوح لتتفاعل مع أوتار غيتار فادي الذي كلّما رشق أصابعه عليه أذن لصوت صديقه أكثر ليتسع في المدى.
يتلاحم الصوت البشري مع آلة تستلقي على ساعد الشاب الهاوي بينما تتكلّم الأجساد الحاضرة في الغرفة لغة مشتركة صارت المساحة المغلقة التي تجمعهم لينفلتوا من خلالها إلى خارج العالم. يدخل علي في موجة الانصهار هذه لملأ ثغرة الأنفاس التي قد تنهك عيسى عن المتابعة بينما يرخي يديه على "الأورغ". يصير اللقاء حديثاً ينجر إليه المستمعون بهمساتهم التي بدت كورالاً منتظماً يسير مع اللحن. هي الموسيقى، راوٍ منفعل بصدق يسرد حكايات المجتمعين دون التطرق إلى التفاصيل بل العبث في دورة المشاعر المكبوتة.
إنه الحزن الذي استثمره الشبان الثلاثة في تفجير إبداعهم دون أن يدركوا أنّهم نجحوا في معالجة الجميع من أحزانهم لبعض الوقت في تلك اللحظة. التعبير عن حزنك يشجع الآخر في إطلاق حزنه وتطيب الأحزان عندما تجتمع. فادي الذي اضطر للعمل في العمارة كي يتمكن من إيواء "حبيبته"، أي الغيتار، كما يسميه. عيسى الذي ترك صوته في بلاده بعد أن أجبرته الظروف الاقتصادية على العمل في أفريقيا. وعلي الذي أنهكه ولعه بالعزف فأبدع بجهده الخاص في تعلم العزف على السكسوفون ثم برع في العزف على العود، الكلارينت والغيتار، وقام بعد ذلك بإنشاء معهد موسيقي خاصّ به.
يجمع الحالمون على البدء بسرد حكايتهم مع الموسيقى بتعريفها بالعلاقة العاطفية. يقول فادي: "هي العلاقة التي تستجيب في لحظة فرحك فتغنيها وتطلق جرحك من عزلته فتضمده بالنغمة". يذهب عيسى بصراحته التي يخفيها بخجل منمق لا يعرّيه إلّا في حديث الأغاني ليقول: "الموسيقى هي الكلمات التي أردت أن أقولها لكنّي لم أقلها، هي التعبير الأصدق واللغة المشتركة التي تجمع الشعوب رغم تباينهم". فيما يحاورني فادي بجدية وينهض عيسى بأشعاره التي أخفاها منذ صغره. لا يمكنني أن أكشف شخصية علي المرهفة بحديث تقليدي، هو الشاب المرح دائماً، والذي لا يقبل التعبير عن نفسه إلّا بإنشاد أغنية.
تختلف معاناتهم العاطفية وتتشابه ظروفهم الاقتصادية الصعبة أما الازدواجية الغريبة هنا فهي أن تلك المعاناة فتحت أعينهم لاكتشاف ملجئهم الموسيقي، بينما لم تقف الظروف المادّية أمام شغفهم في أن يصيروا جزءاً من هذه الموسيقى التي يستمعون إليها. وتبقى للطفولة هنا الحصة الأكبر في تحديد ذوقهم الموسيقي وتشكيل دافعهم القوي نحو تعلمها. يقول فادي بشعور من الحنين إلى مكان لم يعش فيه وزمان لم يختبره: "كانت السينما هي المفتاح الأساسي لاختياري العزف على الغيتار، إن صورة الفتاة التي ترتدي ثوب الحرير والتي تتمشى على الشاطئ فيما يجلس العازف منسجماً بنغماته مع مشهد الأمواج بقيت حتى اليوم في ذاكرتي". وفي تعبيره مراهنة على مصطلح "العَود الأبدي" الذي عبر عنه نيتشه بأنّ الزمن لا متناه فلا شيء يحدّ الزمن لو بعد توقف الحركة، والموسيقى هنا تؤدي دور الزمن لتصير مقياس الحركة. وإذا كان فادي متأثّراً بذاكرته الصورية فإن ميول عيسى الموسيقية تزاوجت بفعل تأثره بالطبيعة التي اختزنت صوت العواصف وترانيم الطيور وخرير المياه.
ليس سهلاً أن تتعلّم الموسيقى وحدك. على الرغم من الإنشداد إليها بالعاطفة تبقى محتاجاً إلى علاقة علمية تمكنك من فهم لغتها. إذا كانت الموسيقى هي الوسيلة الأكثر تأثيراً التي اعتمدها ابن سينا لعلاج مرضاه فإن عملية الإعداد لهذا العلاج تحتاج إلى جهد كبير. أمضى فادي أربعة أشهر يعزف على دوزان خطأ لكنه عرف ذلك بعد أن استطاع الحصول على كتب من الكونسرفتوار. أما علي الذي تأثر بالعازف سمير سرور فتسابق مع الوقت في محاولة منه، بجهد ذاتي، لإتقان معزوفاته.
مرت الكثير من السنوات على اللقاء الأخير لهؤلاء الشبان الثلاثة فأعادتهم الموسيقى إلى حلمهم الضائع. جعل فادي الموسيقى وسيلة انفعال ثوري ليدفع الشباب إلى التغيير، وعيسى الذي تلا القصائد بصوته وألحانه، وعلي الذي اعتكف عن الغناء والعزف في الصالات، لأنّ الموسيقى "تعز عليه"، فأراد عدم تلويثها بحاجته المادية، أكملوا عملهم في تزويج الأرواح المنفصلة في هذا الواقع عبر توحيدها في الخيال الذي تبتكره الموسيقى.
هرب المستمعون من الألم إلى هذا الملجأ الذي تردّد صداه في فضاء لا تقيّده الاحتمالات. وتبقى الموسيقى رفيقة خلواتهم دون أن تكون مهنة يعتاشون منها لأنّهم خافوا على قلوبهم فلم يمنحوها إلّا للمحتاجين إليها.