Menu

هل قدرنا الثقوب السوداء... أقصد نحن العرب!؟

نصّار إبراهيم

أحاول أن أفهم ما يحدث، أعود للتاريخ حينًا ولعلم السياسة حينا وعلم السلوك حينًا آخر، أحيانًا ألجأ إلى بافلوف ويونغ وفرويد علهم يساعدوني في فهم ما يسمى حكامًا أو أمراء أو سلاطين أو ما يسمى بالنظام العربي الرسمي، أو جامعة الدول العربية، أو مؤتمرات القمة أو "الكمة" أو "الإمّة" لأمة تتجاوز 350 مليونًا.... "لم أفهم"!.

قلت قد لا يكون التفسير أرضيًا ربما سنجد تفسيرًا لما يجري في العلوم التطبيقية... كعلم الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء أو الفلك... ربما.

ربما تفيدنا الفيزياء الكونية وليس الفيزياء الأرضية، قد يكون الجواب عند الفيزيائي الراحل ستيفن هوكينغ، وقد يكون بالعودة لأوليات الخلية أو ربما المستحاثات والسرخسيات وما شابه.

أتابع ديناميات الفعل ورد الفعل من قبل أنظمة الحكم ورد فعل الجماعات أو المجموعات أو ما شابه ذلك في واقع تتحرك فيه الكواكب... تنزاح وتتصادم وتندمج... في واقع تواصل فيه المجرات توسعها، وحركة الشعوب من حولنا تشبه الذرة في حيويتها وفاعليتها، فيما تبدو الأمور عندنا وكأن الجميع ينجذب نحو ثقوب سوداء بقوة ساحقة لا رادَّ لها...

ولكن بقليل من التدقيق والتأمل في هذه الفيزياء السياسية العربية المتواصلة لفت نظري أن تلك الثقوب السوداء التي يدور حولها أو ينجذب إليها الواقع العربي هي بالأصل ثقوب صناعية، فهي لم تتشكل بفعل قوى كونية خارجة عن الإرادة، أي في سياق الظواهر الطبيعية التي ترافق ولادة وموت الكواكب والمجرات... بل هي ثقوب تم تصنيعها وصياغة معادلاتها بدقة من قبل قوى خارجية مهيمنة، لقد صنعتها وهيأتها ثم وضعت على فوهاتها فئات وسماسرة يشبهون سدنة الجحيم... مهمتهم دفع العرب وثرواتهم وشعوبهم إلى تلك الثقوب السوداء دفعًا أو سوقهم إليها كغرائب الإبل على حد قول الحجاج في خطبته الشهيرة في أهل الكوفة.

لنفهم وندرك طبيعة ووظيفة تلك الثقوب السوداء يكفي أن نتابع مثلاً أداء وسلوك بعض الأنظمة العربية وكيف تتصرف حين يأتيها رئيس أمريكي أو وزير أو سفير غربي، أو لنتذكر مثلاً ابتسامة محمد بن سلمان أثناء لقائه في شهر آذار 2018 مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي قام وبطريقة مثيرة بعرض كتالوجات الأسلحة الأمريكية بعكس وجه ولي العهد السعودي، وأمام جسمه ثم خاطبه قائلا: "مليار و525 مليون دولار، و645 مليون دولار… و6 مليارات دولار... هذا فتات بالنسبة لكم... السعودية دولة ثرية جدًا، وسوف تعطي الولايات المتحدة بعضًا من هذه الثروة كما نأمل، في شكل وظائف، وفي شكل شراء معدات عسكرية".

على أية حال إن عملية تصنيع وإعداد الثقوب السوداء هذه ليست عفوية، بل عملية عميقة.. فهي تتطلب توظيف علم آخر ألا وهو علم الأحياء الاجتماعي، فلكي تنساق المجتمعات إلى تلك الثقوب السوداء يجب توفير الحواضن والآليات التي ستجعل من الانجذاب إلى تلك الثقوب وكأنها عملية تجري بمحض أرادة الشعوب العربية وقراراتها الحرة... أي باعتباره خيارها الواعي والمدهش.

لهذا وعلى مدار أعوام وعقود تم تجهيز المختبرات والحواضن والدفيئات التي تم زرعها بالفيروسات والأوليات التي يتركز دورها ووظيفتها في تدمير الوعي الاجتماعي وإفقاده أي قدرة على التصرف والتفكير خارج نطاق تلك الحواضن والدفيئات.

هذه العملية تم تأمينها من خلال دفيئات التعليم التجهيلي والإعلام والمنابر الدينية التي تنشر الفكر الغيبي والشعوذة والتخلف، وكل ذلك بهدف شل العقل الجمعي وتحويله لعقل قدري خامل، وذلك بتفريغه من كل ركائز الانتماء والهوية واحترام الذات الوطنية والقومية، وإقناعه بالعجز الذاتي كحالة موضوعية (أو كحالة وراثية لا خلاص منها).

هذه العملية تجري وتستمر من خلال تعزيز الدفيئات الفيروسية والبكتيرية بالغطاء الأيديولوجي والفتاوى الدينية التي تقطع مع كل ما هو عقلي وإنساني في جوهر الدين وتجعل منه مجرد آلة تفريخ للتشويه وتغييب العقل وتدمير البعد الإنساني، إلى جانب تعزيز حالة الاستلاب الجمعي الثقافي والتاريخي أمام المستعمر الذي يحضر كقوة قاهرة ومنقذة، بالإضافة إلى الشعور بالعجز وفقدان أي جدوى في المقاومة أو رد الفعل.

في هذا السياق التراكمي الذي يعيد تشويه الوعي بما يشبه المتواليات الهندسية، تتوالد فيروسات التفتيت والتمزيق الطائفية والدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية، إنها تنطلق كالعصويات لتفتك بالبنية وتدفع بها نحو حالة من الجنون الاجتماعي الشامل، فلا يعود يربط الإنسان أي رابط مع ثقافة الاحترام والثقة والانتماء لذاته ومجتمعه، ومع تاريخه وحضارته، مع ذاكرته وإنسانيته، مع أصدقائه وجيرانه، مع أمته وتنويعاتها المدهشة.

كل هذا يحدث لأن المستوطنات الفيروسية والبكتيرية ونقص المناعة تكون قد تحولت إلى بنى تستند إلى بنى أكثر حسمًا كالبنى الطبقية والمصالح الأنانية الضيقة، بحيث لا يعود يرى العامل مثلاً أي علاقة تربطه مع العامل الآخر الذي يعاني من ذات الاستغلال والقهر ومن ذات الطبقة أو الفئة. كما لا تعود المرأة تشعر بما يوحدها مع المرأة الأخرى في المجتمع أو على المستوى العالمي... وفي ذات الوقت لا يعود أي مجتمع عربي يشعر بأي علاقة مع نصفه الأخر في بلد عربي مجاور.

يحدث هذا لأن الفيروسات المدمرة تلك تكون قد شوّهت تمامًا قدرة خلايا المجتمع وشلّت عقله عن التفكير والتمييز، فيبدأ بالتصرف والسلوك وكأن هذه الحالة المرضية هي الشئ الطبيعي وعكس ذلك هو غير الطبيعي ما يستحق الإبادة والحرق والذبح والسبي.

هنا تتجلى وظيفة ودور وقيمة ثورة الوعي، ثورة الثقافة والمثقفين والإعلاميين.. هنا بالضبط تتركز المهمة الأساسية للقوى التي تدعي وتعلن بأنها قوى ديمقراطية وتقدمية ويسارية وعلمانية ومتنورة.