Menu

معارك تخاصم زمنها

عبد الله السّناوي

بأي حساب، فإن المعارك التي تخاصم حقائق زمنها تستنزف طاقة التحمل العام وتسحب على المفتوح من أي أمل في المستقبل. في أسبوع واحد تحت قبة البرلمان ، تتابعت مشاهد مزعجة لذلك النوع من المعارك، مرة ضد الصحافة بدعوى أنها تجاوزت في نقدها، ومرة ثانية بفصل نائب باتهامات لا تستند على قواعد قانونية صحيحة تبيح مثل هذا الإجراء، ومرة ثالثة باقتراح تعديل دستوري يسمح بمد فترة ولاية الرئيس إلى ست سنوات بدلاً من أربع.
كأي معارك من مثل هذا النوع، فإنها تلقي بظلال كثيفة على فرص التوافق الوطني الضروري، الذي تحتاجه مصر لتجاوز أزماتها الصعبة.
عندما تغيب القواعد تتقوض أية هيبة وشرعية، ولا قواعد ممكنة خارج الدستور والزمن الذي نحياه.
لا يُعقل أن يدخل المجلس النيابي بمنصته وغالب عضويته في حملة ضارية على جريدة «الأهرام» القومية المملوكة للدولة، لمجرد أن بوابتها الإلكترونية تطرقت، في إحدى تغطياتها كما غيرها بشيء من النقد، إلى بعض أعماله.
كما لا يُعقل أن يدخل في الوقت نفسه حملة ضارية أخرى على جريدة «المقال» المستقلة، التي نشرت مادة ساخرة على صفحتها الأولى عن جوائز تخيلية للأوسكار منحت البرلمان جائزة «أفضل فيلم كارتون». في الحالة الأولى، حق الرد مكفول وفق القانون والأعراف المهنية.
أما التشهير بالصحيفة العريقة بعبارات لا تصح ولا تليق فهذا تَفُلّت أساء إلى سمعة البرلمان قبل غيره، كما أنه استدعى بالتضامن غضباً صحفياً واسعاً منذراً بصدام مفتوح بين البرلمان والصحافة.
وفي الحالة الثانية، فإن المادة المنشورة نوع من النقد تعرفه بعض التجارب الصحفية في العالم مثل «لوكانار أونشينيه» الفرنسية الساخرة.
لو أن البرلمان يثق في نفسه لتجاوز ذلك النقد الكاريكاتيري من دون أن يستوقفه، أو يشرع في اتخاذ إجراءات قانونية بحق الصحيفة.
المشكلة هنا بالضبط. عندما تخفق في مهامك وفي اكتساب ثقة الرأي العام، فإنك تبحث عن ذريعة ما تبرر إخفاقك، أو معركة طواحين هواء ضد عدو افتراضي، فكل نقد مشبوه وكل اعتراض مؤامرة.
هناك من يعتقد أن الصحافة «الحائط المائل» في هذا البلد، رغم أنها تكسب معاركها في النهاية. رغم الاعتذار المُعلن ل«الأهرام» والتراجع المحتمل عن مقاضاة «المقال»، فإن التزامن يؤشر إلى ضيق بالغ بحق النقد والاختلاف، وبحرية الصحافة كلها، كما ينبئ بمواجهات متوقعة عند نظر مشروع قانون الصحافة والإعلام الذي ينص على حقوق وحريات واسعة التزاماً بالنصوص الدستورية.
في بلد مثل مصر، ليس هناك جديد في الصدام بين البرلمان والصحافة، فقد دأبت البرلمانات المتعاقبة على تضييق الحريات الصحفية، وتبني عقوبة حبس الصحفيين في جرائم النشر.
الجديد والخطير، هذه المرة، التوغل في شتم الصحافة من دون سقف أو حد، وكما لم يحدث في التاريخ المصري الحديث كله. مثل هذا التوغل يزكي «ثقافة العنف» في بنية المجتمع، فكل شيء يؤخذ عنوة بغض النظر عن الحق، وكل معنى يُستباح بغض النظر عن القانون.
بالتوقيت فإن الحرب مع الإرهاب دخلت طوراً خطراً بنزوح أغلب العائلات القبطية من شمال سيناء إلى الداخل المصري، بعد عمليات تقتيل بشعة قوضت شعورهم بالأمان. ذلك التطور يتطلب تماسكاً مجتمعياً واسعاً لا التحرش بحرية الصحافة.
إذا غيبت تلك الحرية، فالمجتمع كله مكشوف. الحرية مسألة أساسية بذات قدر المهنية والموضوعية في العمل الصحفي والإعلامي.
نحن في زمن السماوات المفتوحة وثورة الاتصالات ودعوات التحول إلى دولة ديمقراطية حديثة، أو أن تكون هناك دولة قانون. ومخاصمة حقائق الزمن نتائجه معروفة.
ليس مهماً أن تتفق أو تختلف مع نائب أو أي شخص عام، بقدر ما هو مهم أن تكون القواعد واضحة ومصدقة.
بغض النظر عن أية ملابسات شابت إجراءات فصل النائب «محمد أنور السادات»، فإنه لا يمكن استبعاد أن يكون قد لقي ذلك المصير عقاباً على مجمل أعماله ومواقفه، أخطرها ما كشفه عن شراء ثلاث سيارات مصفحة لرئيس المجلس ووكيليه ب(18) مليون جنيه، وأوجه أخرى للخلل الفادح في التصرف بالمال العام، بينما البلد يعاني أزمات اقتصادية ودعوات التقشف تملأ الأفق السياسي، من دون أن يكون الأمر ملموساً لا في السلطة التنفيذية ولا التشريعية.
نزعات الانتقام هروب من الأزمة بدلاً من الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت وإنكارها بإحالة مسؤوليتها إلى أعداء متخيلين.
لا أحد فوق الحساب، لكن عندما تختل المعايير، وتتحكم الأهواء في التوجهات، فإن التداعيات تهدد ثقة المجتمع في مستقبله.
أسوأ ما قد يحدث من تداعيات شيوع الخوف داخل البرلمان نفسه عن ممارسة الحق الدستوري في مساءلة السلطة التنفيذية، أو الاقتراب من أي ملف على شيء من الأهمية أو الحساسية، بما يشل أي اضطلاع بالحد الأدنى من المسؤوليات الدستورية في العمل البرلماني خشية لقاء ذات المصير.
في مخاصمة البرلمان لزمنه تقدم أحد النواب لتعديل النص الدستوري الذي يحدد مدة الفترة الرئاسية.
لم يرتفع صوت تحت القبة يعترض على مثل هذا الاقتراح حتى سحبه صاحبه بنصيحة من بعض أجهزة الدولة، فالاقتراح يسيء إلى الرئيس، كما صرح بنفسه على إحدى الفضائيات.
هناك قضايا حقيقية، بعضها وجودي، مثل أزمة سد النهضة التي قد تداهم نتائجها هذا العام (2017) مصر بسيناريوهات تعرضها لعطش مائي، وأزمة الحرب مع الإرهاب التي تنال من فرص التعافي الاقتصادي، وعودة السياحة والقدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية، وأزمة الغذاء وارتفاع الأسعار، وغياب عدالة توزيع الأعباء للإصلاح الاقتصادي التي تتحملها الطبقة الوسطى، والفئات الأكثر فقراً وحدها.
تلك كلها معارك حقيقية لم يرتفع فيها صوت تحت القبة. وتلك كلها ليست من المعارك التي تخاصم زمنها بعد ثورتين طلبتا دولة حرة وعادلة.